من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد ذهلت هذا الأسبوع بقراءة مقالين أحدهما بمجلة بريطانية وهي الايكونوميست والأخرى أمريكية وهي النيوز ويك، واندهشت لأخبار أطلعت عليها بجريدة إيلاف الالكترونية. وشعرت بالمفارقة بين ما توصل له العلم في الألفية الثالثة، و ما حققته الحضارة الإسلامية في الأندلس في الألفية الأولى، وبين ما نعيشه اليوم. وليسمح لي القارئ العزيز لسرد موضوع هذه المقالات، وليوسع صدره للمناقشة. كما أرجو أن يتحمل صراحة الطرح وليعذرني إن أساءت لأدب الحوار سهوا، أو تعرضت لجرح شعور أحد من خلال المناقشة بدون قصد أو علم.
كتبت مجلة الايكنوميست البريطانية في عددها الصادر بتاريخ السادس عشر من يونيو عام 2007، مقالا تناقش فيه الحياة الاصطناعية وبراءة الاختراع. فقد أستطاع العلماء معرفة سر الحياة من خلال دراسة المورثات والجينات التي تحويها والتي تتكون من مادة الحمض ألريبي النووي. وتتكون الكائنات الحية من وحدات صغيرة جدا تسمى بالخلايا. وتوجد ضمن الخلية الواحدة آلاف من الأجهزة المعقدة التي تقوم بصنع مواد كيماوية. وتقوم الجينات الموجودة على المورثات بتوجيه وظيفة هذه الخلايا.
وتعتبر الفيروسات مرحلة ما بين المواد الصلبة والخلايا الحية. وتكتسب الفيروسات صفة الحياة بعد دخولها وتطفلها على الخلايا الحية. وقد أستطاع العالم البيولوجي الأمريكي كريج فنتر، في عام 2003، من صنع مادة الحمض ألريبي النووي، وتغليفها بمادة بروتينية، ليصنع أول فيروس في تاريخ البشرية. كما عمل بجد مع شركائه لمحاولة صنع أول خلية حية بمختبره المعروف باسمه. وقد تقدم مؤخرا لتسجيل براءة اختراع لصنع خلية ميكروب حي.
وتتعلق تفاصيل براءة هذا الاختراع بجينات محددة لصناعة البكتريا، والتي يعتقد كريغ بضرورتها لإبقاء البكتريا على قيد الحياة. وترتبط براءة الاختراع بتركيب الحمض ألريبي النووي الذي يحتوي على الثلاثمائة وواحد ثمانين جينا وراثيا، وحقن هذه المادة في خلية مضيفة مكونة من غشاء الخلية وبها عدد من الأجهزة البيولوجية التي تستطيع أن تقرءا محتويات هذه الجينات وترجمتها لصناعة مواد بروتينه. وبذلك يكتشف العلم الحديث سر الحياة ويستطيع أن يصنع الوحدة الأساسية في الخلية وهو الحمض ألريبي النووي.
والمقال الثاني نشر بمجلة النيوز ويك الأمريكية قبل شهور ويشرح بعض الأشكال الهندسية الزجاجية الموجودة في مدينة غرناطة الاسبانية والتي يرجع تاريخها للقرن السابع الميلادي. وقد درس علماء علم الرياضيات في الجامعات الأمريكية التركيبة الرياضية لهذه الأشكال الهندسية. وقد اكتشفوا بأن المعادلات الرياضية التي أعتمد عليها المهندس العربي في القرن السابع، لم تكتشف في جامعات الغرب إلا بعد عام 1930. وقد لفت نظري هذا المقال أيضا لعبقرية الطبيب العربي الأندلسي أبن رشد ومدى وسع علمه ليس فقط في الطب والرياضيات والفلك والفلسفة والقانون بل أيضا في العلوم الدينية. وقد عاش في القرن الثاني عشر بعد الميلاد، وطلب منه الخليفة أن يقترح موقعا لبناء مستشفى جديد. فقام بأخذ مجموعة من الطيور المذبوحة وعلقها على وتد خشبي في مواقع مختلفة في المدينة. وبعد فترة قصيرة رجع للخليفة واقترح عليه موقع المستشفى الجديد. وأستفسر الخليفة عن أمر الطيور، فوضح بأنه أستعملها ليدرس مدى سرعة تعفنها في المواقع المختلفة بالمدينة، فتأخر تعفن الطير يدل على نقي الهواء من كائنات التعفن. لقد أكتشف ابن رشد مفهوم كائنات التعفن قبل حوالي الثمانمائة سنة من اكتشاف العالم الفرنسي باستور للجراثيم.
والخبر الذي أدهش عقلي هو ما قرأته بجريدة إيلاف عن خروج بعض المواطنين في مظاهرات في احد دول الشرق الأوسط بسبب مصافحة أحد رجال الدين للنساء خلال زيارته لأوربا. وطالبوا المتظاهرون من رجل الدين بالتنازل عن مركزه الديني وأن يفصخ عمامته. وازدادت دهشتي بالخبر الصاعق الذي نزل على مسامعنا في الأسبوع الماضي بتصريحات نارية شاذة من رجل دين آخر بأحد الدول المجاورة والصديقة. فقد نسى رجل ديننا الفاضل بأننا نعيش اليوم بعالم متحضر تسيره قوانين دولية، وتنفذ هذه القوانين مؤسسة تمثل العالم بأسره وبلده عضوا بهذه المؤسسة. فقد اعتبرت الأمم المتحدة، وبموافقة جميع الأعضاء، بأن مملكة البحرين دولة عربية مستقلة وجزء من الوطن العربي الكبير. كما أنها عضو دائم وفاعل بجامعة الدول العربية. وقد أختار جميع أفراد شعب البحرين عروبته وقيادته في استفتاء شعبي ديمقراطي وبدون تردد. وقد تطورت التجربة الديمقراطية البحرينية بشكل متميز. ويعمل شعب البحرين مع قيادته وبرلمانه وحكومته بتناغم جميل لتطوير الاقتصاد البحريني وتحويل مملكة البحرين لمركز عالمي في مجال التعليم والرعاية الصحية والسياحة والصناعات التكنولوجية النظيفة والصغيرة والمتطورة. ومن المعروف بأن الإنتاج الإجمالي المحلي للفرد خمسة وعشرون ألف دولا سنويا، وبأن الاقتصاد البحريني يعتمد فقط على 12% على المشتقات النفطية، وبأن مملكة البحرين مركز مالي وصناعي بالشرق الأوسط ومنذ عقود بعيدة.
ولنرجع لموضوع مصافحة النساء. فلا أحد يعترض على حق بعض النساء في ممانعة مصافحة الرجال، فكل منا له الحق برأيه. بل هناك من يعتقد بأن المصافحة عادة غير صحية، وبعض الشعوب لا تتصافح في تحيتها بل تعوضها بانحناءة مهذبة. ولكن ليس من حق أحد أن يفرض رأيه على الآخرين. ويبدو أننا قد نسينا أولياتنا الحياتية ضمن الظروف الملتهبة اليوم في منطقة الشرق الأوسط. والسؤال عزيزي القارئ ألا نعيش اليوم أزمة جهل حضارية؟ ومن المسئول عن هذه الأزمة، الإعلام، التعليم، الفقر، الخطابات السياسية المتطرفة، أم المنابر الدينية العاطفية الملتهبة؟ وهل من حق من لا يؤمن بالديمقراطية أن يسمح له بممارستها؟ أليس من أساسيات الحرية والديمقراطية مقولة فولتير بأني قد أختلف معك في الرأي ولكن سأضحي بحياتي لكي تعبر عن رأيك بحرية؟ وهل ممكن أن نحصل على حريتنا وديمقراطيتنا إذا لم نناضل لكي نوفرها للآخرين؟ ألم تكن تلك صفات رسول الهدى الذي أستطاع أن ينشر مبادئي ديننا الحنيف من الشرق إلى الغرب؟
وليسمح لي القارئ ألعزيز لأثقل تفكيره بالأسئلة كثيرة أخرى: هل من الممكن أن نتصور ما مدى تطور الحضارة الإسلامية ومدى أسلوب التفكير الإنسان العربي في الألفية الأولى؟ وهل ممكن أن نعي دور المرأة وإنجازاتها في ذلك الوقت؟ ألم تكن هي الكاتبة والشاعرة والمتاجرة والمناضلة والمحاربة؟ فأين تفكرينا اليوم من تفكير الإسلام؟ فهل التخلف الذي عشناه بعد التسلط العثماني والاستعمار الغربي خلف أذهاننا؟ وهل اختلطت الأمور علينا فلم نعد نميز بين الأمور الحياتية المادية والأمور الأخلاقية والسلوكية والأمور الروحانية الدينية؟ الم يطلع علينا من حاول أن يثبت صحة الآيات بتفسير كل الاكتشافات المادية العلمية عن طريق القران الكريم؟ الم يسيئوا للدين حينما ثبتت بأن كثير من نظريات العلوم العلمية المادية خطاء وبعيدة عن ما يسمى بالحقيقة؟ ألا يجب أن نبعد مفاهيم الحياة المادية في العلوم والتكنولوجية والاقتصاد والسياسة عن المفاهيم الروحانية الدينية؟ وهل صحيح بأن السياسة نجاسة حياتية؟ وهل يجب أن نبعد طهارة الدين عن نجاسة السياسة الدنيوية؟ وهل أكدت الأيام لنا بأنه يجب أن نفرق بين ديننا الحنيف ورجال ديننا الأفاضل وبين من يمارس دكتاتورية السياسة بالاستفادة من الدين؟
وليسمح لي القارئ العزيز بالتثاقل بأسئلة أخرى. هل أمام رجال ديننا الأفاضل تحديات جديدة صعبة؟ هل سيستطيعوا أن يطوروا إدراك هذه العقول لتتفهم حقيقة الإسلام؟ هل سيستطيعوا أن يزرعوا في هذه العقول أيمان الإسلام وأخلاقياته ومبادئه الإنسانية السمحة؟ وهل سيكون لهم دورا في تنظيف التعليم في وطننا العربي من الخرافات والأفكار المتطرفة المغلوطة التي زرعها الاستعمار في عقولنا؟ إلا يحتاج عالم الدين في الألفية الثالثة أن يكون ملما بكثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية بالإضافة للعلوم الدينية والروحية؟ هل سنحتاج لدقة اختيار رجال دين المستقبل ليكونوا من خيرة رجال المجتمع كما كانوا سابقا؟ فهل يجب أن يكون رجل الدين أكثر الطلبة علما وذكائا؟ ألا يغذي رجل الدين عقول مجتمعا بكاملة؟ فهل يجب أن نختار خيرة العقول لهذه المهنة الفاضلة والخطيرة؟ وهل نحتاج أن نختار خيرة الطلبة ذكاءا وخلقا وضميرا وأخلاقية ليكون رجل المستقبل المنبري لينير العقول لا أن يلوثها؟ ولأترك المجال لعزيزي القارئ ليفكر في هذه الأسئلة ويدرس الوسائل المتوفرة للتعامل معها. والى لقاء أمل.

سفير مملكة البحرين في اليابان