وجوه المأساة العراقية الراهنة لا تنحصر في القتل و الخطف و التفخيخ و جميعها جرائم إبادة شاملة ضد الجنس البشري، بل أن المأساة الصامتة التي لا يتحدث عنها أهل التدين المزيف سنيا كان أم شيعيا هي مأساة السقوط الإجتماعي المريع و تدهور أحوال المجتمع العراقي و في طليعته المرأة العراقية التي كانت أشد الشرائح العراقية معاناة من كل الأهوال التي عصفت بالعراق خلال العقود الثلاث الأخيرة من تاريخ العراق التي شهدت سيادة الحروب و المصائب و كل التجارب السياسية الفاشلة التي أسست لحالة الفشل التاريخية المريعة التي يعانيها العراق كنظام حكم و سلطة فاشلة لم تستطع أن تؤدي كل مستلزمات السلطة الحقيقية و تكون ممثلة حقيقية للشعب الذي تحكمه !، و لعل واحدة من أبشع الظواهر الإجتماعية القاتلة في العراق قد شهدت نموا مفزعا يتحدث عن حالة الشلل و الخلل الفظيعة التي ألمت بالمجتمع العراقي نتيجة للحروب و المآسي و الفقر المدقع الذي ساد في بلاد تنام على بحيرات هائلة من الذهب الأسود و يضطر رجاله للهجرة طلبا للرزق و نسائه لبيع أجسادهن خشية إملاق و من أجل تربية أطفالهن بعد أن ترملن أو إنحدرت مداخيلهن في ظل حالة النهب الشامل السائدة في العراق، هي حالة إنتشار الدعارة داخليا و خارجيا في ظاهرة مريعة تتناسب عكسيا مع ظاهرة صعود الروح الدينية بشكلها الطائفي المقيت في العمل السياسي العراقي، ففي ظل الضغوط الهائلة التي تعانيها المرأة من فقدان للأمن و غياب لأي ضمانات مستقبلية و في ظل سيادة مباديء القتل و العرض و الطلب و اللجوء صوب الشعارات الغيبية و الطائفية ظلت المرأة تعاني بصمت في بلد فتحت فيه كل بوابات الجحيم دفعة واحدة و هجمت الأحزاب و الجماعات الطائفية و الدينية و السلفية لتنهش في اللحم العراقي الحي لتحاول فرض رؤاها المتخلفة على الناس في ظل غياب أي برامج حقيقية للأنعاش و الإكتفاء بالشعارات التدليسية التي لا تسمن أو تغني من جوع و حيث تم إستغلال المرأة أبشع إستغلال من خلال النفوس الضعيفة و المنافقة لتتهشم كل القواعد و الأسس الإجتماعية التضامنية الحقيقية و تسود رياح العبث الطائفي و التدمير المنهجي المرتبط بتدهور الدولة بل و غيابها الفعلي عن الميدان الإجتماعي كما تمثل بشكل علني في فضيحة ملجأ الأطفال ( دار الحنان ) التي أهيل عليها اليوم الغبار في ظل تزاحم القضايا و الفضائح العراقية المتوالية، و حالة المرأة العراقية التعيسة هي إنعكاس حقيقي لحالة العراق الأشد تعاسة بين أمم الأرض، فقد كانت المرأة العراقية على إمتداد التاريخ العراقي المعاصر عنوانا للإضطهاد و الظلم و الحيف، و عانت أشد المعاناة من تقلبات الأوضاع السياسية و الأمنية و كانت محطا و مختبرا لكل التجارب الفاشلة التي حفل بها التاريخ العراقي المعاصر، فقد كانت المرأة العراقية مهمشة بالكامل خلال السنوات الأولى لظهور العراق الحديث في العشرينيات و كانت تعاني من الحرمان و الجهل و التسلط و الظلم الإجتماعي بفعل الواقع الإجتماعي و العشائري المتخلف رغم وجود المحاولات الخجولة الأولى لتحسين الأوضاع العامة في أخريات أيام الحكم الملكي، ثم جاء إنقلاب الرابع عشر من تموز العسكري عام 1958 لتتحقق بعض المنجزات التاريخية للمرأة من خلال قانون الأحوال الشخصية الذي أثار القواعد الدينية و كان أهم الأهداف المستهدفة بعد قيام مجلس الحكم العراقي عام 2003، و لكن سيادة الفوضى و الصراع السياسي في الشارع العراقي في الستينيات قد جعل من المرأة كبش الفداء بعد إنقلاب البعث الأول في عام 1963 و الذي عامل المرأة بسادية ووحشية من خلال مراكز الإعتقال و التعذيب الوحشية التي تفنن فيها البعثيون في معتقلات و مراكز ما كان يسمى بالحرس القومي التي كانت مسرحا لحوادث تعذيب و إغتصاب واسعة النطاق، و لم يتغير حال المرأة العراقية كثيرا في السبعينيات حتى قفز الجناح الأشد فاشية من البعث على السلطة في العراق صيف عام 1979 مدشنا عصر الحروب و المغامرات و القمع الذي بدأ مع مرحلة التهجير الكبرى للعراقيين في ربيع 1980 و حيث عايشنا و تابعنا حالات إمتهان واسعة و مؤلمة للمرأة العراقية و إلقاء النسوة شبه عاريات على الحدود الإيرانية و إنتزاع الأبناء من أمهاتهم و تفريق الأزواج عن زوجاتهم في مشاهد رعب مأساوية لا يمكن أن ينساها التاريخ و لا تتجاوزها الضمائر الحية، ثم كانت الحرب العراقية / الإيرانية التي جعلت من المرأة العراقية ينبوعا دائما و متدفقا للحزن و الآلام و العذاب و حيث الجثث البشرية الدائمة و فقدان الزوج و الحبيب و الإبن و المعيل و بما جعل من العراق الساحة الأكثر ترملا في العالم مع زيادة مساحات الفقر و بما يفرضه ذلك الفقر من تنازلات و أفعال و ممارسات نعرفها جميعا، و كانت سنوات الحرب الثمانية الطويلة إمتحانا مرهقا و قاسيا للمرأة العراقية التي إستغلها نظام البعث البائد في الترويج لمشاريعه العدوانية و الفاشية، و تنامت ظواهر الدعارة رغم كونها كانت موجودة في كل زمان و مكان و لكنها شهدت نقلة نوعية في أيام نظام البعث و في ظل قياداته التي كانت معروفة بتهتكها و سقوطها الأخلاقي بدءا من أعلى هرم السلطة و نزولا عند أي ضابط من ضباط النظام البائد وهي قصة معروفة، و بعد الهزيمة في الكويت و إنكفاء النظام على نفسه صدرت القوانين القراقوشية بعد ما كان يسمى بالحملة الإيمانية ليعيد النظام قوانين ( غسل العار ) العشائرية و ليشكل فرقا للموت لقطع رؤوس النساء المنحرفات تحت شعارات الفضيلة و الشرف!! متناسيا إن النظام ذاته هو من تسبب بتلك المآسي و الأوضاع و خالطا الأوراق لتشويه سمعة المناضلات في جرائم قتل بشعة سكت عنها الضمير العالمي المتخاذل و حيث كانت سيوف ( مماليك البعث ) تحصد رؤوس العراقيات تحت هدير الفضيلة و الشرف و هي مفردات بعيدة كل البعد عن حقيقة و طبيعة سلوك النظام البائد، ثم جاء عصر السقوط و تغيير الأوضاع مع الآمال الجسام التي كانت معقودة على العهد الجديد لتكون المفاجأة الكبرى في كون ( شهاب الدين أسوأ من أخيه )!! و تحول التغيير التاريخي لكابوس تاريخي مع قفز الظلاميين و العملاء و الطائفيين و المرضى النفسيين على السلطة في العراق لتتحول سيوف ( فدائيي صدام ) و فرق الموت البعثية لسيوف أخرى في جيوش المهدي و الصحابة و الفضيلة و بقية فرق حسب الله التي نبتت كالفطر المسموم في الشارع العراقي الذي شهد عصر التيه الكبير و الهجرة الكبرى ليكون اللحم العراقي الأبيض الرخيص مجالا للعرض و الطلب في أسواق النخاسة العربية و الدولية في دمشق و عمان و دبي و غيرها من الأمصار ؟ و لتكون المرأة العراقية الشاهد و الشهيد على مأساة يومية و سقوط إجتماعي مريع مع تنامي حسابات أهل و قادة الأحزاب الدينية و الطائفية في الخارج و الذين كانوا و إلى ما قبل سنوات قليلة يعيشون على أعطيات الدوائر الإجتماعية في الغرب و على مؤسسة القرض الحسن في إيران و على تبرعات المحسنين فإذا بهم و قد تحولوا اليوم في طفرة وراثية لأصحاب رؤوس أموال و لمالكي فضائيات و لحاملي شنط و حقائب مليئة بالأموال ( الإيمانية ) يتم تهريبها عبر مطار هيثرو!! و هنا أتساءل حقيقة عن أوجه الصرف التي تقدمها مؤسسات الوقف السني أو أموال الحوزة الشيعية التي تصرف على مؤسسات تنموية في إيران مثلا أو على الأموال التي تجمعها الجماعات السلفية لشراء الأسلحة و عدة الموت فيما الشعب العراقي يئن و اللحم و الشرف العراقي يباع و يشترى على قارعة الطريق داخليا و خارجيا ؟ يقولون أن ميزانية العراق قد بلغت رقما خياليا و هو أكثر من أربعين مليار دولار ؟ فهل لنا أن نتساءل عن كيفية صرف ذلك المبلغ ؟ و من المستفيد من عطائه ؟ و بعد ذلك من يحمي الشرف العراقي ؟ لقد أثبت واقع الحال من الأحزاب الطائفية الحاكمة بشتى عناوينها و مسمياتها و أسمائها هي أحزاب ساقطة في وحل فشلها و دجلها و حيث تظل دعارة المعوزات العراقيات اللطخة الكبرى في سجلها الحافل بالفضائح و الفواجع... إنه فعلا زمن الزعاطيط و اللصوص و القتلة!!.
[email protected]