كشفت هيئة الإذاعة البريطانية النقاب عن أن بريطانيا ستكرم الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا بإقامة تمثال له في ميدان البرلمان. ويردد بعض المتهكمين أن من حق الساسة العراقيين أن يحتجوا على عدم إقامة تماثيل لهم في المكان نفسه، فما الفرق بينهم وبين هذا المانديلا؟ لو سمحوا لي فسأهمس في آذانهم ببعض قليل من الفروق:
ـ يذكر المصدر الخبري أن تمثال مانديلا سيكون محاطا بتماثيل أناس عظماء مثله quot;صنعوا التاريخ وصنعوا الديموقراطيةquot; مثل أبراهام لنكولن. فمن من الساسة العراقيين الحاليين يرى نفسه قد صنع تاريخاً (وليس التاريخ) أو صنع ديموقراطية (وليس الديموقراطية)؟
ـ نيلسون مانديلا كان بإمكانه طيلة الوقت شراء حريته بمبادئه، ولكنه ظل ثابتا على تلك المبادئ لا عناداً وإنما إيثاراً: فقد آثر شعبه على شخصه، ومصالح بلاده العليا على مصالح الفئة التي ينتمي إليها، وآثر الإنسانية على دورة الحقد. وظل متمسكا بهذه المبادئ مع تصاعد الثمن الذي كان عليه دفعه في سبيلها، فضحى بأجمل سنين عمره فداء لها. هل نعرف سياسيا عراقيا لديه مثل هذا الإستعداد؟!
ـ quot;إنتصر على أعدائه ولكنه لم ينتقم منهمquot;، هكذا وصف تقرير الإذاعة البريطانية نيلسون مانديلا. أما المنتصرون في بلادنا فيتفننون في أساليب الإنتقام بالمهزومين أحياء وموتى. مانديلا رفض أي أعمال إنتقامية بحق جلادي الأمس لكنه لم يعف عنهم، إنما قال: لا يمكن طيّ صفحة الماضي الأليم إلا بعد إنصاف الناس المظلومين. فالمصالحة لا تأتي إلا بعد المصارحة، وهذه هي الطريقة السليمة لتجاوز جراحات الماضي الدامية. وعنى ذلك إقامة محاكمات قانونية أصولية، حرة من أي تدخل سياسي ومن دون أي وسائل تحريضية، ليس لمحاكمة المجرمين البيض وحسب وإنما حتى السود ممن اقترفوا جرائم بحق البيض، مهما كانت منزلتهم السياسية وقد شمل ذلك زوجة مانديلا السابقة نفسها والتي كانت قيادية في حزب المؤتمر. بهذه الحكمة وهذا النضج تجنبت جنوب إقريقيا حربا داخلية؛ وبالغوغائية ونزعة الثأر البدائية مهدنا نحن الطريق صوب الحرب الأهلية.
ـ الدرس الآخر الذي تقدمه محاكمة زوجة مانديلا السابقة عندما كان الأخير رئيسا للدولة هو إن النزاهة السياسية صمام أمان للسياسي، ومن يتساهل في شروطها من البداية سيصعب عليه التوقف عن الإنحدار بعد ذلك. المساومات وغض النظر المتبادل وتقاسم النذالات قد تطيل عمر حكومة بضعة أشهر، أو تؤجل صداماً سياسيا، ولكنها قبر يحفره السياسي لأخلاقه في حياته، ولإسمه من بعده.
ـ كان نيلسون مانديلا وطنيا حقيقياً، بمعنى أن مصلحة وطنه تتقدم عنده على مصلحة طائفته، أو حزبه، أو علاقته بدولة أخرى مهما كانت صديقة، وليس العكس كما هو الحال مع جماعتنا!
ـ تعلمنا سيرة مانديلا أن العمل السياسي مسؤولية كبرى، يضحي فيها الفرد بفرديته من أجل قضية يؤمن بها: فإن لم تجد في نفسك القدرة على هذه التضحية فلا تتورط في هذا الطريق (وهذا هو سر عدم تورط كاتب السطور في هذا الطريق!). إن ممارسة العمل السياسي بقابليات شخصية متواضعة، وبصحبة عجز تام إزاء الضعف الإنساني بأشكاله العديدة المتنوعة، هو مصيبة من مصائب الحياة السياسية في العراق. فقط في بلادنا يجد المرء أن من المعتاد أن يحل quot;الزعماءquot; خلافاتهم بالسلاح، وأن يأخذ الثأر مكان القانون، والطائفة مكان الوطن، والحماسة مكان الدستور، والهذر مكان الخطاب.
المعذرة أيها السادة، لا تماثيل لكم في لندن. لستم أكفاء لذلك. صحيح إنكم لستم quot;خونة وعملاءquot; كما يصفكم خصومكم وإنما تجتهدون وتخطئون مثل أي إنسان على الأرض، ولكن انغلاقكم الشديد على ذواتكم (هوياتكم الطائفية، هوياتكم القومية، أحزابكم، مصالحكم وأنانيتكم..) يجعلكم بعيدين جدا عن خصائص quot;قائد العراقquot;، فليس أي كان يقدر على سياسة هذا البلد المجنون. لكن صبر العراق طويل كما تعرفون. وبمقدروه أن يصبر بضعة عقود أخرى عله يظهر فيه ذلك القائد العظيم الذي يأخذ مكانه بين العظماء المنتصبين في ميدان البرلمان في لندن.
[email protected]