زيارة الرئيس التركي عبدا لله غول لآمد quot;ديار بكرquot;: خطوة سليمة في طريق شاق صحيح


لم تكن زيارة الرئيس التركي الجديد عبدا لله غول إلى العاصمة الإقليمية لكردستان- تركيا آمد quot;ديار بكرquot; مفاجئة، وذلك بالنسبة للمتابعين لتوجهات القائمين على سير الأمور في حزب العدالة والتنمية، وممارساتهم على صعيد الواقع. فهؤلاء قد وضعوا في حسابهم اعتماد مشروع تنموي كبير، ينهض بتركيا، وينقذها من براثن جملة الأزمات المستعصية، خاصة الاقتصادية والسياسية منها. ويبدو أن الحزب المذكور قد عزم أمره، وصمم على معالجة جذرية للأزمة التركية برمتها، عبرا لتصدي العقلاني الخبير للمؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد بالقوة منذ ثمانية عقود. فالجميع يعلم أن المؤسسة هذه هي موطن الداء، والمعرقل الأساس لأية عملية سلمية تفاهمية، من شأنها تعزيز التواصل بين مكونات الدولة quot;التركيةquot;. كما أن المؤسسة ذاتها قد باتت موئل الفساد والإفساد الاقتصاديين؛ وغدت مرتعاً لتداخل الأدوار والمصالح بين المافيات الاقتصادية والمسؤولين العسكريين وممثليهم السياسيين. ولتسويغ سلطاتها الإستئثارية، وتجاوزاتها القانونية، كان الاحتماء بفزاعتي الكرد والإسلام هي الإستراتيجية المتبعة باستمرار من قبل المؤسسة العسكرية التركية التي تمكنت على مدى عقود من مغازلة المشاعر القوموية لدى الأتراك؛ كما أنها استطاعت إلى حدٍ ما إقناع الغرب بضرورة الحذر من الخطر الإسلامي المتربص الذي من شأنه المصادرة على الدور التركي الهام المطلوب، وذلك في إطار الاستراتيجيات الغربية المتبعة سواء في المنطقة أم في العالم.
ولكن مع تفاقم الأزمات، وانهيار الاقتصاد، وتراجع قياسي لدور الدولة التركية الإقليمي، والإخفاق المزمن في عملية التفاهم مع الاتحاد الأوربي بغية الانضمام إليه، مع كل هذا وغيره، تبيّن للقوى السياسية الجادة أنه لامناص من تجاوز الواقع المسدود الأفاق من دون القطع البنيوي معه. وهذا ما تمثّل بصورة خاصة في المنهجية السياسية التي التزمها حزب العدالة والتنمية وأفلح بفضلها من استقطاب أوسع القطاعات الشعبية، من مختلف الانتماءات والمستويات بتوجهاته الإسلامية المعتدلة المتناغمة مع العصر؛ وتمكن في الوقت ذاته من حل العقدة المستعصية عبر الإقرار بمسألة ضرورة الفصل بين الدين والدولة، وعدم الإصرار على فرض توجهاته الدينية على الدولة والقوى السياسية والمجتمعية الأخرى.
ومن الملاحظ أن هذا الحزب قد تنبه منذ البداية لماهية الأسلحة التي تشهرها المؤسسة العسكرية في وجهه؛ وتحاول بذلك إيهام المجتمع والمحيطين الإقليمي والدولي بمخاطر النفوذ الإسلامي في تركيا. وفي مقدمة الأسلحة المعنية يُشار هنا إلى التهويل المبالغ به الذي تتعامل بموجبه المؤسسة العسكرية مع الورقة الكردية، هذه الورقة التي اعتبرها الأب لروحي للمؤسسة ذاتها - مصطفى كمال- الخطر الأخطر الذي يهدد الكيان التركي؛ لذلك كان الحل الأمثل - وفق منظور كمال- هو إلغاء الوجود الكردي في الأذهان والأعيان، وذلك عبر المحاربة الشرسة لكل ما هي كردي وبكافة الوسائل. والتاريخ الكردي بعد الحرب العالمية الأولى يشهد على الكثير الكثير من الوقائع الدامية التي كانت نتيجة ممارسات الذهنية الكمالية القوموية العنصرية، التي كانت وراء ممارسة جميع أصناف القتل والتشريد والتجويع والمحاربة الثقافية بحق الكرد، تحت ذريعة ضرورة إنقاذ البلاد من خطر التقسيم - وفق مزاعم الكماليين- وذلك أسوة بما كان قد تم على صعيد الخلاص من الخطر الأرمني.

لقد استوعب حزب العدالة والتنمية - على الأقل حتى الآن- مغزى الشعارات والتهويلات الإيهامية التي دأبت مؤسسة الجيش التركي على إطلاقها. كما تمكن الحزب المذكور من امتصاص آثار موجات الهستيريا اللاعقلانية التي افتعلها الجيش لدب الذعر بين الناس؛ وتمكن الحزب المعني عبر ممارساته الإصلاحية وسياساته المتوازنة، وجرأته الموضوعية من الحصول على ثقة الشرائح الأوسع من المجتمع؛ واستطاع لأول في التاريخ التركي المعاصر أن يخترق التقليد المفروض، إذ تمكن من الفوز الديمقراطي بقوة القانون - وليس العسكر- بمركز رئيس الجمهورية، إلى جانب فوزه السالف بتشكيل الحكومة. ولأول مرة منذ عقود طويلة، يشهد الاقتصاد التركي استقراراً متوازناً، يوحي بالمزيد من التقدم والتنمية. ومن الواضح أن المسؤولين في حزب العدالة والتنمية، وهم اليوم في قمة الهرم السياسي في الدولة quot;التركيةquot; قد اتخذوا قرارهم بخصوص إحداث تحول ايجابي في ميدان التعامل مع العمل الكردي، لإدراكهم التام بعدم إمكانية بلوغ نجاحات معينة من دون التوصل إلى حل معقول للمسألة الكردية في تركية؛ هذه المسألة التي كانت وما زالت الأهم والأعقد والأكثر حيوية، وذلك بالنسبة إلى المجتمعين التركي والكردي والدولة التي تضمهما، إلى جانب المكونات المجتمعية الأخرى على السواء.
فالمسألة الكردية في quot;تركياquot; تخص أكثر من 20 مليون إنسان، عانوا، وما زالوا يعانون من كل أنواع التنكيل والتشريد والإقصاء والإهمال، هذا إلى جانب الحرمان من الحقوق القومية الأساسية التي باتت في عالم اليوم من البدهيات التي لا يشكك في مشروعيتها أي عاقل. وهذه المسألة هي في طريقها إلى التفاقم والتعقيد بفعل عوامل عدة، منها محلية ومنها إقليمية ودولية. فالشباب الكردي اليوم الذي يمثل القاعدة الأوسع في المجتمع الكردي، هو مستعد للدفاع بسائر الوسائل عن حقوق شعبه، وهو مسلح بالعلم والمعرفة، ويدرك المتغيرات، ويستوعب المعادلات والتوازنات. وهو لن يقبل مطلقاً أن يعامل مواطناً من الدرجة الثانية، هذا ناهيك عن العاشرة. كما أن التفاوت الكبير في معدلات التنمية بين المناطق التركية والكردية سيكون باستمرار موضع الخلل المفصلي، وعدم الاستقرار بالنسبة أإلى المجتمع والدولة. وهذا لن يتم يتجاوزه من دون القطع مع سياسات الإنكار والإجحاف السالفة التي ما زالت تُعد حجر الزاوية في توجهات القائمين على مؤسسة الجيش والمستفيدين منها.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن التحولات في العراق، وتلك المرتقبة في إيران وسورية، تؤكد أن العامل الكردي في المنطقة سيكون له دوره في سياق الترتيبات والتوازنات القادمة؛ خاصة وأن التجربة قد أثبتت أن تجاهل هذا العامل كان على الدوام المبعث على عدم الاستقرار والنزاعات؛ هذا في حين أن حل المسألة الكردية على أسس عادلة سيكون حتماً لمصلحة شعوب المنطقة بأسرها. وسيساهم في عملية تعزيز وشائج التواصل والتفاهم بينها.

لقد جاءت زيارة الرئيس عبدا لله غول إلى آمد quot;ديار بكرquot; وتصريحاته الايجابية بخصوص التعددية الثقافية في quot;تركياquot; تتويجاً لسلسلة من المواقف التفاهمية السليمة التي عبر عنها حزب العدالة والتنمية في المناسبات المختلفة. وهي زيارة مفصلية تتضمن الكثير من الدلالات الايجابية من دون شك، ولكن التفاؤل ينبغي ألاّ يدفعنا نحو إضفاء اللون الوردي على كل ما نراه في الواقع المتخم بالمشكلات والصعوبات والأزمات. لكنها زيارة تبقى بكل المقاييس خطوة في الاتجاه الصحيح كما يُقال.
والمسؤولية الكردية في هذا المجال هي الأخرى كبيرة. فالمتغيرات النوعية المتسارعة تُلزم الطرف الكردي بضرورة الاستعداد للتفاعل مع ما يجري وسيجري في المستقبل القريب. وأمر من هذا القبيل يستوجب قبل أي شيء ترتيب الأمور في داخل المنزل الكردي. والاتفاق حول المطالب الأساسية بعيداً عن الشعارات الإيهامية التي لا تمتلك أي لون أو طعم أو رائحة، مثل التغني بمآثر الجمهورية الديمقراطية الخيالية، والأطروحات الأخرى الشبيهة العامة الهلامية الجوفاء، تلك الأطروحات التي تعني كل شيء ولا تعني أي شيء، ولا تؤدي سوى إلى التعمية والتضليل.
ولبلوغ هذا المستوى من التعامل الواقعي الموضوعي المسؤول مع المعطيات والقضايا، لابد للطرف الكردي أن يقطع مع تعليمات وأوامر السيد عبدا لله أوجلان، كما قطع حزب العدالة ولتنمية مع التعاليم الكمالية لمؤسسة الجيش وأوامر هذه الأخيرة؛ فالرجل قد أثبت مراراً وتكرارا عدم قدرته على اتخاذ القرارات الجريئة الصائبة في مصلحة الشعب الكردي؛ بل على النقيض من ذلك قد أسهم باستمرار في تعقيد الأمور، ودفع بها نحو التخبط والتعثر، إن لم نقل المزيد. وما نشهده اليوم من بروز للعامل الكردي في كردستان - تركيا إنما هو امتداد لتراث عشرات الألوف من الشهداء، وتضحيات الملايين من الكرد الذين ذاقوا الجوع والتشرد والإهانة منذ الحرب العالمية الأولى، وما قبلها، وحتى يومنا هذا. أما الزعم الزائف بأن ما حدث كان بفعل جهود أوجلان وعبقريته، فهو زعم متهافت، يسيء إلى إخلاص وتفاني آلاف القادة من الآباء والأجداد الذين لم يبخلوا بأي شيء في سبيل قضية شعبهم وحقوقه العادلة؛ ولكنهم مُنيوا تباعاً بالخسائر نتيجة الاتفاقيات المصلحية بين القوى الاستعمارية في ذلك الحين، ومصطفى كمال باني المؤسسة العسكرية الذي أعلن السيد أوجلان أكثر من مرة بأنه من المعجبين به، ويستلهم من تراثه وأفكاره الكثير.
إن تصريحات وأوامر أوجلان المتعارضة المتناقضة - وهو المعتقل المفروض الذي تصل تعليماته إلى أنصاره عبر الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية- تربك العاملين في حزب المجتمع الديمقراطي - القريب من أوجلان- وتمنعهم من اتخاذ قرارات جريئة حاسمة، تساهم في إظهار الحجم الحقيقي الكبير للمسألة الكردية في كردستان- تركيا، قرارات تمكّن من إيجاد القواسم المشتركة التي من شأنها تسهيل الحوار مع قادة العهد الجديد في تركيا. حوار لا يتخلى عن ثوابت الحق الكردي، ويمهّد السبيل أمام تفاهم وود تركي- كردي، لم يتم بلوغه حتى الآن، على الرغم من أهميته وحيويته الفائقة بالنسبة إلى الشعبين الجارين، المتشاركين في التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة والمصالح الاقتصادية. بل إننا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن أمراً ايجابياً من هذا القبيل سيكون - في حال حدوثه- لصالح استقرارا لمنطقة وتنميتها بأسرها.

د. عبد الباسط سيدا

[email protected]