تبدو مصر هذه الأيام كمبنى متهالك مصاب بعدد من الشروخ الجسيمة راسيا وافقيا، وهذه الشروخ لم تظهر فجأة وأنما فقط اتسعت وتعمقت وباتت تهدد حياة سكان المبنى، وهذه الشروخ أيضا هى نتيجة طبيعية لاكثر من خمسة عقود عانت فيها مصر من الاستبداد والفساد والتعصب الدينى والإنفجار السكانى. وفى ظل هذا الوضع الخطير والمتردى للجسد المصرى تتباين الرؤى فى كيفية معالجة هذا العطب فى المبنى المصرى، فهناك من يرى ضرورة إعادة ترميم كامل للمبنى يواصل القديم مع الجديد ولكن هذه العملية شديدة الصعوبة وتحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير ولا توجد إرادة حقيقية لإنجاز هذا الترميم الذى يحتاج إلى أجيال. وهناك من يرى ضرورة هدم المبنى وإقامة بناء عصرى تتوفر فيه كل مقومات الحضارة الحديثة لساكنيه.. ولكن للأسف فهؤلاء قلة صغيرة ضعيفة ومشتتة. وهناك من يرى ضرورة هدم المبنى وإقامة خيم إسلامية مكانه على نمط الحياة فى الجزيرة العربية قبل اربعة عشر قرنا، فالدنيا إلى زوال ولا بد أن نعمل لآخرتنا ولكن لا مانع من أن يحتفظ كل رجل داخل خيمته بحقه الشرعى بالزواج من اربعة والتسرى بالايماء واقتناء العبيد.هؤلاء يريدون القضاء على ما تبقى من روح مصر وهويتها وحضارتها ودخولها فى عزلة وصدام مع العالم المعاصر مع تجهييز المصريين لحروب ممتدة مع إسرائيل وامريكا والهند والصين والغرب الكافر،وهؤلاء للاسف هم أصحاب الصوت العالى، وهم قوة منظمة تعمل بحماس وتخطيط لهدم المبنى والقفز فى الوقت المناسب بخيمهم الجاهزة ونصبها مكان المبنى المنهار، ولهذا فليس بمستغرب أن هؤلاء يعملون بكل طاقتهم لتوسيع الشروخ للتسريع بهدم المبنى، وقد قرأت مؤخرا فى جريدة الدستور تصريحا لمحمد حبيب نائب مرشد الاخوان ردا على إتهامات بتخطيطهم لإغتيال مسئوليين مصريين بقوله إنهم ليسوا بحاجة لإغتيال أحد فقد أغتالوا النظام السياسى الحالى برمته.
أما القائمين على الحكم فلهم رأى آخر فهم يرون أن الاقتراب من المبنى فى الوقت الراهن فيه خطر كبير عليهم وعلى حكمهم، فالاستبداد والفساد والتعصب الدينى وصلوا الى أقصاهم واى اقتراب أو معالجة لهذه الامراض معناه نهاية حكمهم الذى رسخ الفساد وعمق الاستبداد وعمم التعصب الدينى والافضل من وجهة نظرهم هو ترك المبنى يسقط على رؤوس ساكنيه عندما تحين لحظته القدرية.
ومما يؤسف له أن الكثير من الصحف المصرية وكثير من المعارضين السياسيين يعملون بكل جهدهم للاسراع بهدم المبنى دون أن يقدموا رؤية حقيقية وعملية للبديل، فالمسألة تعدت تغيير النظام إلى هدم أركان الدولة لصالح الأسرع فى القفز على نظام الحكم..إنه الإنفلات...إنه العبث بكل شئ..إنها اللأمسئولية...إنها مقدمة لحالة الفوضى بكل معانيها.
فى الواقع اننى لم أكن متشائما فى كل زياراتى المتكررة للقاهرة بقدر تشاؤمى هذه المرة الأخيرة وإحساسى بالحالة العبثية التى تعيشها مصر.
ولكن السؤال ما هى الشروخ الحادة التى تهدد الجسد المصرى وتجعله عرضة للإنهيار فى أى لحظة؟.
اولا: الشرخ بين المسلمين والأقباط
كل يوم يتعمق الشرخ بين المسلمين والأقباط وحالة تردى الثقة والعزل المجتمعى وتساهم الدولة بقواها الأمنية بالدور الأكبر فى هذا الشرخ عبر التمييز المستمر ضد الأقباط حتى تصور العوام أن التمييز هو حق من حقوقهم.
وقد تحمل الأقباط بصبر إستبعادهم من الوظائف القيادية والتمييز ضدهم فى الوظائف العامة ولكن مسألتين الهبت الحساسية القبطية وهدمت الثقة وعمقت الشرخ ورفعت حرارة التوتر وهما مسألة الاعتداء على الأقباط عندما يشرعون فى بناء دور للتعبد، والتستر والتواطئ الامنى والمجتمعى إزاء حالات الأسلمة وإستهداف بنات الأقباط وتطبيق قوانيين الشريعة على الأطفال الأقباط فى حالة تغيير أحد الوالدين لدينه إلى الإسلام. ومع تكثيف النشر والتناول الإعلامى لهاتين المسألتين أتضح بما لا يحمل مجالا للشك أن الدولة وقواها الأمنية تتحمل المسئولية الكاملة عن الفوضى والإعتداءات وغياب القانون وإستهداف الأسرة القبطية.
لقد أصبح الطريق الوحيد لإستعادة الفتاة القبطية المختفية هو الإحتجاج، وعلى الأقباط أن يدركوا أن الاحتجاج هو انسب وسيلة فى ظل غياب دور الدولة والقانون فى حماية الضحية وبل وحتى معرفة مكان إختفائها، ولكن على الأقباط أن يلتزموا بشكل متحضر ومسالم للإحتجاجات حتى لا يساهموا فى الفوضى وغياب القانون المستشرى فى مصر حاليا، فالاحتجاج حق أساسى من حقوق الإنسان فى ظل الالتزام الصارم بسلمية هذا السلوك.
من ناحية آخرى ارتفعت حرارة الجسد الإسلامى المصرى إزاء الارتباك الذى يعانى منه العقل المسلم بعد 11 سبتمبر وتكثيف النشر المتناول للإسلام عالميا والناقد للفكر وللثقافة الإسلامية. وحمل الكثيرون فى الشارع المصرى الأقباط جزء من مسئولية النقد الموجه للإسلام رغم ان معظمه جاء كرد فعل عالمى وليس قبطيا على ما يقترفه الارهابيون المسلمون حول العالم من جرائم.
ثانيا: الشرخ بين الأغنياء والفقراء
إتسعت الهوة بشكل مخيف بين الغنى والفقر فى مصر، ومع الانفجار السكانى ازداد عدد الفقراء جدا وفى نفس الوقت ازداد عدد الاغنياء، ولكن الذى صنع الهوة ليست الفجوة بين الغنى والفقر فى حد ذاته وإنما تخلى الدولة عن ابسط الحقوق الأساسية للإنسان المصرى فيما يتعلق بالمأكل والصحة والتعليم والسكن الملائم من ناحية وطريقة تكوين هذه الثروات والذى يأتى معظمها كنتيجة للفساد من ناحية اخرى بما فى ذلك تورط الكثير من المسئولين فى الدولة فى هذا الفساد وهو ما عمق الحقد تجاه هؤلاء الفاسدين.
إن من اعجب الامور التى تراها فى مصر هى حقد فاسدين على فاسدين، وتستمع إلى حكايات من فاسدين يحقدون بغل على فاسدين آخرين لانه متاحة لهم فرص للفساد اكثر منهم.لقد أصبحت الفوضى مسلكا شعبيا والفساد عملا جماهيريا والخروج على القانون سلوكا يوميا يتباهى به الصغير والكبير والمجتمع يحكمه قانون النهب المتبادل. كل هذا جعل الحقد على الأغنياء يتزايد بين الفقراء والمعدمين الذين لا يعرفون وغير متاح لهم طريقا للفساد.
إن الثراء غير القانونى وغير الأخلاقى امتص الجزء الاكبر من حق الفقراء فى الحياة الكريمة، فهذه الثروات ليست نتيجة جهد حقيقى وإضافة للأنتاج وإنما هى نتاج وضع متردى من حالة الفساد الهيكلى المنتشر مثل السرطان فى الجسد المصرى.
ثالثا: الشرخ بين النظام والشعب
لم اقابل فرد واحد فى مصر راض عن النظام الحالى بإستثناء الشلل الفاسدة المنتفعة، فالاغلبية ترفضه والأقلية التى تقبله من الشارع تقول إنه أفضل من المجهول، فالخوف من المستقبل تجعل قلة ومنهم نسبة لا بأس بها من الأقباط يفضلون بقاء هذا النظام خوفا من حالة الفوضى أو حكم الإسلاميين، فهم يقبلونه ليس لميزات فيه ولكن خوفا من القادم. ولكن الواقع يقول أن هذا النظام هو الذى زايد على الإسلاميين وساهم فى أسلمة الحياة العامة ولعب بورقة الإسلام داخليا وخارجيا.
ونظرا لهذه الفجوة وتضاءل الثقة بين النظام والشعب لهذا اعتمد النظام بشكل أساسى على أجهزة الأمن لحماية نفسه وتضخمت الأجهزة الأمنية بشكل مفرط وتعددت مستوياتها وأصبحت تراقب بعضها البعض من قبل النظام لحماية نفسه وإحكامه السيطرة عليها وعلى الشارع.
رابعا: الشرخ بين الامن والمواطن
ونظرا لإعتماد النظام على الأجهزة الأمنية بشكل أساسى لحماية حكمه، تصنف مصر على إنها دولة أمنية بوليسية من الدرجة الأولى يرتكب فيه البوليس كافة مستويات الجرائم ضد المواطنيين بدون أن تطوله يد المسألة والعقاب عن هذه الجرائم.النظام يدلل أجهزته الأمنية لانه معزول عن الشارع وفاقد للشرعية الحقيقية وليس أمامه سوى الأستقواء على شعبه بهذه الأجهزة التى ترتكتب الكثير من الجرائم حسب تقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية، ولهذ نادرا ما يحال من يرتكبون جرائم التعذيب والتى تصل لحد القتل الى القضاء، والحالات القليلة التى احيلت بفعل ضغط الرأى العام عوقبت بأحكام مخففة لا تتناسب أطلاقا مع الجريمة.
خامسا: الفصل بين التدين والأخلاق
على أن أخطر ما يزعجنى فى مصر هو الفصل بين الدين والأخلاق وتحويل الدين إلى مجموعة من الممارسات والطقوس الشكلية المظهرية حيث تم تنميط العلاقة السامية مع الله فى عملية حسابية ميكانيكية آلية للحسنات والسيئات، وبهذا تم تجزئة وتفتييت الأخلاق طالما أن المسألة حساب للسيئات وللحسنات، وهذه نقرة وتلك اخرى، والسيئة تحسب واحدة والحسنة بعشرة والحسنات يذهبن السيئات،وفى النهاية نتيجة المحصلة الحسابية فى الثقافة الإسلامية هى دائما لصالح نتيجة إيجابية للحسنات وتخرج فى نهاية اليوم وانت مداين ربنا بعدد لا بأس به من الحسنات!!
وهذه العملية تنطبق على المسلمين والأقباط فى مصر فقد أزداد التدين وانحدرت الأخلاق، ولهذا لا ينعكس الإزدحام الشديد فى المساجد والكنائس على أخلاقيات الشارع، فالكذب والفهلوة والنصب والفساد وتراجع الأمانة والاتقان فى العمل والاخلاص والوفاء كلها اصبحت سمات بارزة فى الشخصية المصرية المعاصرة. وقد نقلت فريدة النقاش عن مستشرق معاصر قوله أن المصريين يواظبون على القراءة عكس ما يشيع عنهم ولكن قرأة لكتاب واحد وهو القرآن، ومع احترامى لذلك إلا أن الافراط فى قراءة الكتب الدينية إنعكس بشكل سلبى على المصريين. وتدور المناقشات بين الشباب فى معظمها حول موضوعى الدين وكرة القدم وينهمك المصريون من نادى الجزيرة إلى عربات مترو الانفاق فى تصفح الكتب الدينية، وتزدحم وتتخم رفوف المكتبات وفى معرض القاهرة للكتاب بالكتب الدينية، أما فى السر فالموضوع مختلف فوفقا لجوجل فإن اكثر المواقع التى يزورها المصريون على الانترنت هى مواقع الجنس وتتصدر مصر دول العالم فى هذا العمل.
هذا بالإضافة إلى الشروخ والتمزق فى الهوية المصرية الناتج عن إحتقار الإسلاميين لجذورهم المصرية القديمة وإستعلائهم بهوية وافدة من الصحراء العربية على جذورهم الممتدة عبر التاريخ، والشروخ الجغرافية الناتجة عن تململ النوبيين من المظالم الواقعة عليهم وبدو سيناء بتصادمهم مع البوليس الذى كان يتستر عليهم أثناء تهريب الأسلحة عبر أنفاق رفح إلى غزة ولكن مع قيامهم بالعملية العكسية بدأت المواجهة مع الامن.
هذه فقط عينات لشروخ يعانى منها الجسد المصرى والتى تهدد بانهياره. وحتى لا يؤثر تشاؤمى هذا على القراء اختتم بمقولة نجيب محفوظ على لسان أحد ابطاله وهو دكتور ماهر عبد الكريم فى رائعته quot; المراياquot; بقوله quot; قولوا فى الدنيا ما شئتم، لا جديد فى التشاؤم، ولكن الحياة فى صالح الإنسان وإلا لما زاد عدده باطراد، وما زالت سيطرته على دنياهquot;.
وإذا قسنا تفاؤل الشعوب بكثرة الإنجاب فمصر والدول الإسلامية فى قمة التفاؤل....إنه التفاؤل الذى يصل إلى حد الهيستريا.
مجدى خليل
واشنطن
[email protected]
التعليقات