ماتبقـــى مــــن الأشيــاء.. محض!!
الحاسوب ينفتح على عنوان، والعنوان ليس غامضا ًبالنسبة له أو لي، إنه جزءمن ذاكرته التي إزدحمت داخلها الصور المتنافرة، هروبا ً من جلد الواقع، فقد إنصهر كيانه في جوف الغرفة (... بالله عليك خلصني مما نحن فيه... ) كان يردد، ويشرف مـــــــن خلال وحدته على
أ ُسرة من الأصدقاء، سار بعيدا ً وبقي الأصدقاء ينتظرون.تومض الأضواء الآن كما كانت، حيث إعتاد بريقها الخّلاب. في المكان ينتشر ضوء حزين، و ظلمة قاتلة تسود النفس، إنه لا يستطيع أن يبرأ من الظلام المتسّيد عليه. بينما الشمس أكثر حرقة على رؤوس الآخرين. إذ تبدو قاماتهم مبعثرة وسط المقبرة، منتظرين إنتهاء الحفـّار أن ينتهي من عمله. قال أحدهم:
ـــ لقد طال أمره..!
ـــ منذ وقت طويل أبلغناه بحفرالقبر..؟!
ـــ يبدو أن الأرض صلبة، إنظروا إلى التراب الذي يخرجه بالقفة.
ـــ إنه كالحصى الأحمر..!
يومض الموقع ويؤشر نفاد الصبر، تستقر حروف مسرعة كأنها سؤال متواصل...
ــ ماذا جرى ياعلوان الهليل، لماذا لا تجيب على حواري معك كما إعتدنا.
ــ..........
ــ أنا عدنان الظاهر صديقك بالمراسلة.
ــ............
يتواصل الحوار على طرف آخر تنفتح غرفة أخرى، يتردد حديث مكتوب:
ــ أنا صديقك شلش يا علوان، أجبني.. إني ظميء.
ـــ أركان أين أنت، منذ زمن وأنا أ ُهاتفك...!
وبقيت لحظاته محصورة بين علون الهليل، وأركان عبد.. وربما أسم آخر وارى فيه حقيقة الأسم، لكي يهرب من عقاب الرقيب الذي مازال يحسه يشرئب بعنقه نحوه، يتطاول بفضوله القاتل. كان يقول في داخله: لا بأس من إستبدال أركان بعلوان الهليل، فالجميع يعرفون ما أكتب. تصمت الغرفة، بضع دفاتر تستقر على المنضدة، أقلام وسيديات، الصمت ثقيل يا عمران القيسي، يوم قلت... الصمت لا يتعب الموتى....، تناولنا الديوان الذي إعتبرناه صرخة المفجوعين في الحياة، بل إحساس المقتول على لائحة الإنتظار يا خالد علي مصطفى، أيها المهموم دائما ً. إنشدا لي من قصائدكما يا عمران وياخالد، فإن كانت يومئذ زاد وحشتها في الوطن، فهي الآن زاد غربتنا فيه، إجتزياعمران شوارع بيروت وشارع الحمرا، وعلّق لوحاتك على العارضات الكونكريتية التي غيبت جمالية المكان، إجتزها جميعا ً، من أجل قراءة قصيدة من سجل موتك أو صمتك لهذا الصديق الراحل غفلة. أنت حزين منذ امد بعيد تشاركنا حزننا الدائم، حزن العراقيين الموروث. سقط الكثيرون، لكن الموت هذه المرة لايتعب الموتى حسب، بل أنه يتعب الأحياء، أما الموتى، فالينهضهم مــــن سباتهم اللذيذ، ليـــوقظ صاحبي ( علوان الهليل ) ولو لدقيقة واحدة، فقط دقيقة واحدة لا غير، ليكلـّم الناس في المهد، وليكشف عن رؤيته، وضيم وحدته. في أي مكان ترتئي إستيقاظه، أفي المقبرة أو داخل غرفة الحاسوب غرفة الوحدة الكرستالية. لك الخيار، و لي مثله. الجمرة تتقد والصمت أثقل ما يمكن، والناس في المدينة يتساقطون بمجانية قاسية. فحامل السلاح لايأبه بمن يتساقط، ولا من يسقط مضرجا ً بدمه، مازال عرف ألأشرار في التأريخ هو حراك في عقله الباطن، فإستجابته طبيعية. نحن ورثة تأريخ أحمر قاني، إستمرأنا الصبغات الحمر وكأننا أصبنا بالحصبى، إذ تدثرنا أ ُمهاتنا بقطعة القماش الململ، ناشرة على سطحها الأصباغ، تطوف بنا الشوارع والأسواق وتقف عند دكاكين الآل، كي تـُبريء أجسادنا من المرض، أما الآن فالحكمة تقول، والقانون يقول، لابد من إنزال هذا العدد من البشرمن حساب الزمان والمكان، لكي تنعم القلة بالرفاهية التي تنعم بها ارض السواد. تأتينا وتأتي ( علوان ) تلك الرشقات من الرصاص، الذي ينام في رؤوس وأجساد الأبرياء وسط نزوع لاإنساني. الكل قلقين على أمرنا ووجودنا،، هاهو (الظاهر ) يسأل،بينما ( شلش ) يطحن حزنه، والشبيبي يهاتفني وزهير يفعل كعادته بطرح السؤال، أما هيثم فإنه يعبر المسافات من القوش وحتى كربلاء، كي يوصل صوته النقي الصافي مستفسرا ً مطمئنا ً، بينما علوان الهليل باغتنا بموته وأقصد أركان عبد حسن، بينما وقف أخوه مندهشا ً تصمت الريشة بين يديه، وتوقف دفق خطوطه الكاريكاتيرية. الخطوط عصية بين أصابعه لا تلين. لكنه يضمر إحساسا ً فائقا ً بجلال الموقف أزاء جسد علوان، منطرحا ً في مهده الطويل، وأ ُمه الغائبة تهدهده كي ينام، إذ لا تعرف أنه داخل في ملكوت النوم طويلا ً. لأنه والجميع يشاهدون أحسن منا عبر شاشة الفضائيات ما يحدث في مدينتنا من موت، أما نحن فلا نسمع إلا ّ الأكاذيب، والخلل في التعبير، فكل كلمة ينطقها مسؤول، تبدو على تلعثم شديد وخوف ورعب إنزرع في ذات هذا المرء الذي لا يعرف سوى الإبتعاد عن قول الحقيقة، وإلا ّ لم لا ينطق بمثل ما تنطق به كاميرات الفضائيات. ثمة فبركة نراها، وثمة حقائق يراها ( الظاهر ) و( شلش ) وكل من أدمن الغربة. جلست بالقرب من رأس ( هليل )، وكدت أصرخ... أويلاه يا وطني... تراب أنت ياوطني... فكيف يحترق التراب...؟ أنت مراقــِب لجثث أبنائك. أما شبع الرب وإرتوى من دماء القرابين، ألم يفغم أنفه دخان الشواء في المحارق..؟ حسبي إن العطش المستديم لايسكته دم الكون مجتمعا ً. يا وطني دعني أقول بلا نفاق أنت تراب طيب المذاق. الكل يلعب بنا دون إرادته، الكل إستمرأ اللعبة، فهي تسدية للوقت، وزاد للتخدير. إجلس ياهليل، إسمع ما يملأ الفضاء من فجيعة الرصاص، إنظر إلى صمت غرفتك. الكل ينادوك وما من مجيب، إنه...
ـــ ارجوك أجب..؟!
ـــ...............
ـــ مالذي يمنعك عن الكتابة، هل أنت مريض...؟
ـــ كلا، بل ميت، ميت أنا كما ترى.
ـــ ميت وتتكلم...؟!!
ـــ بلى.. ميت هو... وأنا من يتكلم.
ـــ الماوس الذي بقي يلثغ بما ترك من كلام.
ـــ اين صاحبك...؟
ـــ لاصاحب لي من بعد رحيله، سأراسلكم بعد حين.
ثمة مشهد تشكيلي، أشياؤك تنطرح، ولحظاتك في إقتناص ما يقوله الأصدقاء كائنة، وانت يجللك الصمت. كل ما في غرفتك صامت، إذ كيف قبلت بإقتطاع مشاهد وتركت الأخرى وسط صمتك، ها أني أهمس بعيدا ً عن الجميع. موقن بأنك وحدك مع ماأقول، وبالتأكيد سمعني الظاهر وشلش، وعمران القيسي وخالد.. الذين أتوا بقصائد الصمت الذي لم يـُتعب الموتى أو اللوائح المنتظرة. يومها دخلت إلى غرفة حاسوبك أو عزلتك... كل شيء يشتعل من جديد، المدينة قدرها أن ترتمي في الآتون بين زمن وآخر، بينما الآخرون ينظرون على هواهم. نحن لا نشهد موت النرجس أو الإقحوان، كما يذكر الشعراء، وإنما نشهد موت الإنسان منذ نصف قرن.. شوارعنا دماء، ملابسنا دماء، لوحات جدراننا خـُطت بالدماء. الأرض تصرخ: دماء.. دماء. السماء تصرخ: دماء.. دماء. كان الرب يوهب الأرض بالماء، والآن يحنو عليها بالدماء، من الدماء أتينا وإليها نعود. الجنة تحت أقدام الدماء، وخلقنا من الدماء كل شيء حي. يوم لم يكن غير الخلاء، فاختلطت دماء آبسو المالحة مع دماء تيامات العذبة، فخلقت يابسة مدماة....!! هل من مجيب يستقبل سؤالنا...؟ هل من مجيب يلثغ بحروف متقطعة، شريطة أن تكون صادقة من القلب تنطلق و إلى القلب، نحس بها تنطلق من داخلنا المعذب طويلا ً. إنهض يا هليل، لتر بإم عينك، ولتستكمل آخر المهازل، كي توصلها على ورقة إحتجاج، لا أدري لمن...؟! لا أدري من ينقذ من..؟ من يقتل من..؟ أُخوة يوسف ملأوا الطرقات، لا بئر هناك كما قال الشاعر ( موسى حوامدة ) فإستحق جراء قوله هذا الرجم بالفتاوى، لا يوسف هنا، ولا جب هناك، العالم غدا جبا ً كبيرا ً، والفتية يتناسلون ليكونوا أ ُخوة ليوسف، الكل يسرع لينضم إلى أ ُخوته. وحين تقول إنهم إثنى عشر..!! يقولون: لاضير فاليزد العدد، فما أمامنا لهو الكثير والذبح يحتاج للأيدي قبل المدى، إذبحوهم جميعا ً كل من خرج عن ملة يوسف يذبح لاجب هناك، بل مدى تعمل على عجالة فتريح الذبيح، الجب تأتيه السيارة فتنقذه، والذبح لا سيارة له، فقط قول عابر... جثث مجهولة الهوية عليها آثار تعذيب....!! أين أنت يا يوسف، هل أنت قادر أن تفسر الحلم الذي غدا كابوسا ً أقــّظ مضاجعنا. يوسف، الطير على الرأس عرفت دلالته، والخبز والخباز جاءتك معانيه، فأسألك بالله هل من تفسير لنهر الدم وما يعني، علما ً أنه جاءنا في اليقظة وليس في الحلم. المذيع يطلقها بدم بارد، ويصفّ الأعداد من الموتي وكأنه يتلو قصيدة غزل حفضها عن محظية في المعبد، ولم ترق للمواطن الأخبار دون أن تتعدد الجثث... مفقودة الهوية... وجدت في أرض خلاء وقد بان عليها آثار التعذيب... قتلوا... أ ُسروا... داهموا... خـُطفوا... ومثل مسمار ثـُبت في الأرض بدا المواطن ينحت جسده ثم عقله بصفات الجلمود. الفضائيات ترقص، وتحلل ولا من منقذ... أنا أ ُحب عمرو موسى...أموت على عمرو موسى... ومن يكون هذا العمرو أمام جسد مدمى من عرب الغيرة الصحراوية... أنا أ ُحب الحمار.... وأموت في الحمار! إذ أ ُستبدل جمال النساء عند مطرب العصر بجمال الحمار، فإستطاب العشق لأنكر الأصوات، تقع الأشياء على أشكالها... بل الطيورتقع على أشباهها، لا يهم فهي تقع وحسب.، أي قــول يريح القلب فهو بلاغة العصر. فأين بلاغة الفلاحين ياأ ُخوتي، فهم لم يتعلموا في الدرس، بقدر ما تعلموا في السوق والمجلس، أين أنت ياطعمة مرداس، ويا عطشان، ويا كل الذين تعلموا من الحياة فأحسنوا القول البليغ، أين لغتنا العربية..؟ هل هي تستحم في مياه المنتجعات العذبة بعيدا ً عن مياه الرافدين، لا بماء دجلة والفرات والغراف، ونهر يوسف، وفي عطفات النواشي، وإتساع مياه الأهوار، أين أنت ياأبا أيمن، ويا أبا الوليد، وعمر، وأبو دلف، وحسين علي، وفالح القصاب، أين ذلك النقاء الذي غـلــّف الكون آنذاك...؟ كل شيء غدا هباء وما من مجير أو سامع يدرك صراخنا المعلن والمكبوت. فقد غدت الحياة لعبة مكررة لا تطاق. ياهليل هاتفك الأصدقاء... هــــل سمعت..؟ مابالك أخذتك يد خفية و لم تستطع مقاومتها..؟! بل قادك أ ُخوة أشداء يبحثون عن يوسف فلم يجدوه، فأخذوك بدلا ً عنه. سوف يكون هناك يوسف أو يوسفان، أو عدد من وجوه تشبه وجه يوسف نقاء وجمالا ً، فالمطلوبون كثر، وما أمامهم إلا ّ إعداد ورقة النص، نص يوسف وأ ُخوته. هل نعود لصمت الموتى ونحن أحياء، أراك توميء لي... أن إنتبذ لك مكانا ً قصيا... لكني لا أستطيع، فمن الدم أتيت وإليه أعود. ماذا تقول يا هليل.. من الماء.... ؟. لا.. لقد ذهبتْ مثل هذه الحكمة مع هبوب الريح، وأنت تعرف هذا، فلماذا بدّلـت حكمتك وأنت لم ترحل عنا بعد...؟! الدفان مشغول بتعميق الحفرة، وأنت ترقد داخل محفتك، وأنا أ ُحرك مهدك كي لا يشغلك الآخرون عن مراقبتنا، فنحن نغبطك لأنك الراحل قبلنا. أتسمع معي صوت الطائرات وهي تجوب سماء المقبرة..؟ ليس الأمر سوى محض زمن، نغادرك بعده وتبقى أصواتها تلاحقنا، فمن المستحيل بقاء الدفـّان يلهو بحفر الأرض، والشمس تـُسقط من وقدها مإاستطاعت إليه سبيلا، وألأرض تواجهه برطوبتها وفوحها الذي بدا على شكل حبيبات مائية كالثآليل على جبهة الحفار. سنغادرك، كي ندمن على مجلسنا لثلاثة أيام، ومن بعد ذلك نعود لنلوك حزننا عليك، غير أن هناك ما يبعدنا عن ذكراك، أتعلم من هو، ربما تعتقد ترف الحياة أو لهوها، أ ُنسها وجمالها، رهافتها وسحرها، أقول لا يلهينا عنك سوى قبحها المتمثل بالموت والخوف الذي نلتحفه على مدار الساعة. يلوكنا الكذب والريـــاء السياسي، وضياع المعنــى الحقيقي للوجود، ياهليــــل العلوا ن ويا أركان عبد ؛ ستبقى حماقة الكون أشد ما نواجهه يوميا ً. وليس لنا من بديل نلهومعه، بل هو من يعد ما يساعده على اللهو بنا. وحسبي أن أشياءك ستبقى داخل صومعتك كما يجب، لا يد تمسها، ولا أحد يـُغيـّر من ترتيبها الذي إعتدت عليه، فقط الكيبورد وبأرادة الماوس سوف يواصل مراسلة الأصدقاء الذين تـُحب، غير أني أخاف من عوادي الزمن ومتغيراته أن يُبدل الزمن ويمحي كل شيء جميل. فحين أتذكر ما حسبته الذاكرة لرامبو ودستويفسكي وغيرهم وكيف حفظت الذاكرة آثارهم، وكم حافظت عليهم كرموز. حدثتك عن هذا فكانت عيناك دامعتين، هذه الشعوب تستحق أن تعيش، لأنها تعرف كيف تحتفي برموزها. قال الفنان ( فائق حسين ) شاهدت ولمرات كيف تترك طاولة رامبو فارغة في المقهى الباريسي، يجللها الطقس اليومي، ولا أحد يفكر ولو للحظة أن يشغلها دون رامبو، شاعر عصره الغاضب. فكيف بك ياصاحبي،..؟ وكيف بنا يوم ينفخ في الصور...!! فإعذر ذاكرتنا فقد تركتها تعبة تنوء بحمل لا يطاق. فليلة البارحة أ ُبيحت المدينة بمثل ما أ ُبيحت في سنوات مضت، والعبرة تكمن في النسيان لدى الإنسان وعدم معرفة المرام مما هوحادث ومقام، وقيل أنها رحمة من الباري عز وجل... هذا النسيان.
جاسم عاصي
التعليقات