من أطرف ما قرأت في الأيام القليلة الماضية، قيام كويتب من quot;مارينزquot; باريس السوريين، المتعيشين على صدقة وأموال الضمان الاجتماعي لدافعي الضرائب الأوروبيين، بالحرد والعتب والزعل ولوم الشاعر السوري أدونيس، وذلك بسبب وجود اسم الشاعر السوري العالمي في لجنة ثقافية أو استشارية ضمن فعاليات دمشق كعاصمة للثقافة العربية التي يحتفى بها في هذه الأيام. وضمّت إلى جانبه الكثير من الأسماء السورية الكبيرة واللامعة والمرموقة في مجال الثقافة والأدب والفن، طالباً منه، وبشكل علني، الانسحاب من هذه المهمة، وعاتباً ومساجلاًَ، في الوقت نفسه، بسبب عدم سماع أدونيس ومعرفته بشويعر سوري آخر من quot;أصحابquot; الكويتب إياه، يعتقد صاحبنا بأن صاحبه الشويعر ذويك ( تصغير ذاك) يضاهي، إن لم يكن يتفوق، بشاعريته، وبكل تواضع، على روديارد كيبلينغ، وبايرون، وطاغور وشكسبير وبوشكين ولامارتين. وأن وجود اسم أدونيس، وحسب فتوى الكويتب دائماً، في عداد فعاليات الثقافة الجارية، هو عار أبدي على أدونيس، وأنه ما كان ينبغي على أدونيس أن quot;يتورطquot; في هذه الورطة، ويزج باسمه، ويشارك سورية بمناسبة ثقافية كبيرة كهذه، ومهدداً بأنه سيسحب اعترافه بشاعرية أدونيس الذي quot;ارتعدت فرائضه واهتز كيانهquot;، والله أعلم، لهذا التهديد، أو التهريج الكاراكوزي لا الساركوزي، الخطير.

ولا أدري، أولاً، من يكون كويتبنا هذا حتى يتطاول ويحشر إنفه مع أدونيس؟ ومن يريد كويتبنا أن يمثـّل الثقافة السورية في هذه الاحتفالية الإقليمية والعالمية، إن لم يكن أدونيس وغيره من قامات الثقافة، ليست السورية فحسب، بل، وبأقصى درجات التعميم، العالمية، أيضاً، أولئك الذين وضعوا أسماءهم وتاريخهم ومواهبهم الفذة بتصرف سوريا أرضاً وشعباً والتزموا، كأبرار ومخلصين، جانب الوطن العظيم؟ ولكن وبالمقابل، والكلام موجه لكويتبنا الكبير، أليس من الإجحاف، ألا يكون أدونيس على قائمة الشرف الثقافي السوري، ومن غير أدونيس وأقرانه المبدعين لهذه الاحتفالية الثقافية الوطنية؟ أم أنه لا يجب أن تتباهى سورياً، أصلاً، بأدونيس؟ أو كأنه حرام على أدونيس أن يجسد أروع ما في نفسه حين يقوم بمهمة ودور وطني؟ وهل كان كويتبنا سيرتاح، ويكف quot;بلاهquot; عن سوريا والسوريين، لو جيء بـبعض من quot;رد السجونquot;، وصعاليك الفكر العصابيين، والفصاميين الرغائين الثرثارين الأفاكين القوالين الشتـّامين من كتبة السفسطة والهذر والقول العجين والأحاجي والطلاسم والألغاز والطنين، ممن لا يتركون مناسبة، إلا ويطعنون فيها بسوريا وشعبها، ويسيؤون لصورتها، ويهددون أمنها الأهلي بإطروحاتهم الفئوية القاصرة، ويشوّهون مسيرتها الحضارية، ليحتلوا موقع، ويكونوا بديلاً لأدونيس وممثلين لهذا الشعب السوري العظيم وتاريخه العريق؟ وهل من المنطق والعدل أن نأتي بأشباه quot;العرضحالجيةquot; من أدعياء الثقافة وشيوخها المتصابين الفاشلين ممن لم تتجاوز سمعتهم وشهرتهم وخربشاتهم حدود خيالاتهم الفصامية، وهلوساتهم الوسواسية ليشاركوا في احتفاليات على مستوى أممي؟

ومن أفكه ما وقعت عيناي عليه، حديثاً، هو قيام كويتب آخر محسوب على الجماعة الأصولية السورية المعروفة، بهجوم عنيف عصابي وموتور غير مبرر ولا مسبوق، ضد الكاتب سعد الله خليل، الذي كان قد نشر مقالاً في موقع إيلاف الإليكتروني بعنوان: تلك الأرض الطيبة تدعى سورية، على ما أذكر، وكنت قد قرأت المقال سابقاً، وأثار إعجابي وتقديري لكل كلمة موضوعية إيجابية طيبة وصادقة أتت فيه بحب وروعة وجمال سوريا، وليس في المقال أي تجن أو محاباة وquot;مزايدةquot;، ولا ترويج لا لحزب ولا لشخص ولا لفريق، و ليس ما فيه ما يثير الغضب وحمية الغيارى سوى أن الرجل، وبكل بساطة، يتغنى بجمال وطنه، كأي وطني أصيل، ويعدد من خواصه الاستثنائية الفريدة طبيعياً، وديمغرافياً، ومعيشياً، كأرض ما انفكت تولد الحضارات، وعلى مر التاريخ، وما فيها من سمات التعايش المشترك، ومناقبية التسامح والتنوع بكل تشعباته وأبعاده والود الأهلي والشعبي والعفوية وبساطة الحياة وسهولتها وانسيابيتها التي جعلت منها مقراً وموطناً لأطياف بشرية متنوعة إن تعدّوها لا تحصوها.

غير أن أظرف ما تابعته، أيضاً، تلك الحملة المحكومة، سلفاً، بالخيبة والفشل، التي قامت بها بعض البكتريات والعضويات اللامرئية، هنا وهناك، ضد هامة الفن النبيل الفنانة العملاقة، الساحرة فيروز، حين أرادت أن تحيي، وتيمناً بتقليد رحباني أصيل، تلك الأيام الخوالي من سبعينات القرن الماضي، أيام كانت أرجاء معرض دمشق الدولي، تصدح بجنباتها الأربع، وتصدح معها سوريا، جذلى، وسكرى، بالصوت الملائكي العذب الدافئ الجميل، وهو يشدو بـquot; شآم أهلوك أحبابي وموعدنا أواخر الصيف يا ذا الكرم يعتصرquot;، وquot;خبطة قدمكم عا الأرض هدّارة أنتو الأحبة وألكن الصدارةquot;، وكل تلك المعاني الشعرية الرائعة، والصور الأدبية الأخاذة، الأخرى، مع الألحان العذبة الندية التي أبدعتها أنامل الرحابنة، وجعلت حنجرة فيروز منها تراثاً فنياً خالداً سيبقى في الذاكرة على مر العصور. فمن هو ذاك الذي يريد أن ينزع الشام من فيروز، أو ينزع اسم فيروز من الشام وبينهما ما لا يدركه غيظ وكيد الغافلين؟ وهل يقدر أي كان أن يمحو من ذاكرتنا تلك اللحظات الخالدة التي لا تموت، ولا يمحوها الزمن مهما استشرت البداوات وصدئت النفوس وخربت العقول وتمادت وتكاثرت البكتريات والطفيليات؟ وهل بمقدور أحد أن يقف حائلاً بيننا وبين عشقنا الأزلي لفيروز؟

فاحذروا أن تتمظهروا، يوماً، بمظهر النبل والطيب والطهر الوطني، وتضبطوا وفي قلوبكم بقية من عشق وصفاء طفولي، ويقبض عليكم وفيكم أي quot;مسquot; من حنين وطني. وإياكم أن تتغنوا بجمال أوطانكم، أو تعلنوا الحب على شعوبكم، وتؤازروا بلادكم في المحن والبلاء البوشي والشر المقيم، أو أن تتصالحوا مع الجمال والفن الرصين وتدخلوا، مرة، محراب الفن الفيروزي الأصيل، ففي زمن السمسرة والانسلاخ، وعصر الابتذال والبداوة والذل والقبح العربي، كل جمال وعشق وطني، هو عيب وحرام وشر مستطير، وممنوع عليكم أن تتذوقوا الجمال، أو أن تكونوا مجرد مخلصين، وشرفاء، ووطنيين.

نضال نعيسة
[email protected]