في 16 أكتوبر من العام 2005، وفي ذروة الهجمة البوشية على سوريا، طرحت بعض الأحزاب والشخصيات السورية إعلاناً ديمقراطياً ( هكذا أسموه) كبديل موضوعي لنظام البعث سيحل فوراً مكان أجهزة النظام، بعد سقوطها وتغييبها، وذلك منعاً لحدوث أي فراغ دستوري أو سلطوي وحصول ما لا يحمد عقباه، على غرار ما حدث في العراق كما جاء في الإعلان. هكذا كان التصور حينه، وهذا كان الدافع الحقيقي وراء الإعلان فلا ديمقراطية ولا تغيير ولا من هم يحزنون، مجرد قفزة سياسية في مجهول وفراغ آخر بسبب الافتقار لأدنى المدركات السياسية والجيوستراتيجية. وانطوى البيان على عبارات استفزازية فيها الكثير من التحدي للنظام وتشي بأن الإعلانيين امتلكوا دفة القرار السوري وبأنهم سيفعلون كذا وكذا وقريباً، وباتوا يوجهون النصح والإرشاد والتوجيهات السامية إلى كافة السوريين في السلطة وخارجها.


وقد كانت هذه الحركة السياسية في الحقيقة ومن جانب آخر، وبعيداً عن منظورها السياسي ولكن في محتواها الباطني الإيديولوجي، توطئة، ومقدمة لتأسيس لا يقبل الجدل عن رغبوية دفينة لقيام دولة للخلافة الإسلامية تحاكي الممالك الإسلامية والطالبانية القريبة في المحيط والجوار، القائمة على اعتبار أن الإسلام quot;التقليديquot; سيكون هذه المرة، وبدل البعث، هو القائد للدولة والمجتمع، وكافة مكوناته الإثنية والعرقية والدينية الأخرى، أي وضع هذه المادة بدل المادة الثامنة في الدستور السوري التي يستعيذ بها الديمقراطيون من الشيطان ويناطحونها في كل مقام ومقال، وهذه الفقرة الإشكالية هي التي فضحت طائفية الإعلان والإعلانيين وبينت حقيقة ما يقف خلف مشروعهم الديمقراطي الجهنمي حين ذهبت إلى القول دونما أي تحفظ أو خوف من ردات الفعل، فالأمر بات محسوماً كما ظهر ولاح في حينه:quot; الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب. تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه، وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا، ومن خلال الاعتدال والتسامح والتفاعل المشترك، بعيداً عن التعصب والعنف والإقصاء. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة.

هذا الكلام صحيح بالمطلق، ولا يثير تحفظ أي كان، ولا غبار عليه في بلدان مثل إندونيسيا، وأفغانستان، أو الجزائر، وتونس، وليبيا، ومقاطعة كشمير، وبنغلادش، حيث التمايزات والفروقات المذهبية تنخفض إلى نسب تكاد لا ترى، ولكن في مجتمع تعددي متنوع الأعراق والمذاهب، كما هو الحال السوري، فهو بحاجة لكلام وعبارات ومصطلحات أكثر رقياً ووعياً وحصافة وحكمة من هذا الكلام الذي يعتبر بمثابة إعلان حرب على المكونات المجتمعية السورية الأخرى التي قد quot;لا تقبضquot; كثيراً، ولا تهضم هذا الكلام ولا يعني لها شيئاً، بل وقد تتوجس منه، وحتى بالنسبة لبعض السوريين quot; الأكثريينquot; المتحررين من ضغط الطوق الديني وممن يغردون، فكرياً وسلوكياً، خارج سرب ومفاهيم quot;الأكثريةquot; الذي أعطاهم الإعلان سلطة مطلقة، وتفويضاً مفتوحاً، وشيكاً على بياض لقيادة quot;قطعانquot; الأقليات الأخرى التي لا تعرف كيف ستعيش وتتنفس من دون شرعية وقيادة الأكثرية لها. فمجرد الانتماء لتلك quot;الأكثريةquot; المزعومة هو صك غفران وجواز سفر وعبور إلى المناطق الآمنة سلطوياً ومجتمعياً، وفرض وصاية أبدية على المكونات الأخرى لا يمكن التحرر منها أو التنصل منها نظراً لبعدها القدسي والتحريمي الواضح.( هل للطائفية أي معنى آخر، أفيدونا أفادكم الله؟) فإذا لم تكن هذه هي الطائفية بأسمى تجلياتها فماذا عساها أن تكون إذن؟ وإذا لم يكن فرض عقيدة، ووجهة نظر دينية ما، وبدون أي تحديد، هنا، على مجاميع إنسانية مختلفة وشديدة التباين والهوى المذهبي، توتاليتارية، وطائفية، فماذا يمكن أن تكون؟

. وفي الوقت الذي جهر فيه الإعلان بتوجه طائفي علني وبحت في وثيقته الأساسية عبر اعتبار الإسلام quot;التقليديquot; (يعني غير إسلام الفرق quot;الضالةquot; والعياذ بالله)- وكما عبر عن ذلك، لاحقاً، وفي موضع آخر شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي علنا- هو القائد للدولة والمجتمع، يتعامى فيه بعض البلاشفة والملابرة عن مثل هذا الكلام الخطير لا بل يؤيدونه، ويعتبرون أن كل من يتصدى له، ويتحفظ عليه هو غير وطني وغير ديمقراطي. وهنا يتبادر فوراً للذهن سؤال هام وهو لماذا يكون الإسلام quot;التقليديquot;، وليس غيره، إذا لم تكن الدوافع طائفية بحتة، قائداً للمجتمع والدولة ولا يكون البعث مثلاً، أو أي مكون آخر، قائداً للمجتمع، إذا كنا فعلاً ديمقراطيين؟ وهل علينا أن نتدمقرط إعلانياً فقط لإحلال توتاليتارية دينية مكان توتاليتارية شمولية قومية أخرى استفزت الإعلانيين لإشهار إعلانهم العظيم. وهل سيتقبل الإعلانيون توبتنا وانضمامنا لشرف الإعلان، وعتباته المقدسة، فيما لو راودنا ذاك quot;الإثمquot; الديمقراطي الكبير؟ وهل يبتعد الفكر القومي كثيراً عن الفكر الديني وما هي المسافة والحدود بينهما؟ ألا يعتبر الفكر الديني الخزان والمنهل التي نهلت منه جميع الحركات القومية في المنطقة؟ ولو لم تكن الدوافع والغايات طائفية وكيدية لما تم فعلاً رفض توتاليتارية بعثية، والقبول بتوتاليتارية دينية أشد وطأة وشدة وتطرفاً وانغلاقاً وماضوية لا تحمل في طياتها أية نويات نهضوية يمكن التبشير بها والتعويل عليها؟ وبالمقارنة التفاضلية فيما بين هاتين quot;التوتاليتاريتينquot; فلا شك بأن الكفة ستميل، (ولا تتفاجؤوا رجاء)، لصالح التوتاليتارية البعثية التي تنطوي على بعض الرؤى والممارسات الحداثوية والعلمانية الحياتية التي يصعب العثور عليها في أية توتاليتارية دينية يطرحها الإعلانيون علينا في برنامج سياسي لم يكتب له التوفيق. ولماذا ينبغي على جميع المكونات المجتمعية السورية أن تسلـّم تاريخياً وأبدياً بالقياد والطاعة لـquot;أكثريةquot; مزعومة بعينها، وهذا طبعاً تفكير غير طائفي، فيما لو تبوأ أي مكون مجتمعي سوري دفة المسؤولية أصبح الأمر استبداداً وتوتاليتارية وكفراً وتعلن عليه الحروب المقدسة والتكفير من كل حدب وصوب من البلاشفة كما من السلفيين؟

كما لم نجد، في حقيقة الأمر، أيضاً، من بين جميع أسماء الموقعين على هذا الإعلان أي اسم لحركيين أو نشطاء من بيئة جغرافية سورية بـquot;عينهاquot; ويعرفها الإعلانيون جيداً، استثناهم الإعلانيون عمداً من التوقيع على الوثيقة الأساسية لكي لا تتدنس بحبرهم quot;الأقلاويquot; المريب. ونجد أنفسنا في كل مرة مضطرين لإعادة قصة ومأساة الدكتور عارف دليلة، الذي خرج من غير quot;حمّـصquot; من مولد الإعلانيين، والذي كان مجاوراً لزنزانة quot;رائدquot; الديمقراطية الأكثروية السورية رياض سيف، وأخفوا عنه بكل (.......) فحوى الوثيقة خشية أن تتسرب لأجهزة النظام لأنه-أي دليلة- موجود في السجن بترتيب أمني حسب ما أفاد بذلك علناً quot;رائدquot; ديمقراطي رياضي شعبوي آخر، ومنع دليلة بناء على هذا quot;التسريبquot; الإعلاني من الإطلاع على الوثيقة، لأسباب لا يعلمها، ولا يعمل بها إلا الطائفي رسمياً، حتى ولو كان إعلانياً ابن إعلاني وأبا عن جد. ولكن بعد ذلك وبكل مكر ودهاء فتح الإعلانيون سرادق العزاء الديمقراطي على دماء دليلة وبدؤوا طقوساً بوذية وكربلائية من النحيب واللطم والمناحات السياسية على quot;السجينquot; عارف دليلة( من يضحك على من؟). كما لم يعلن أي من الإعلانيين عن تحفظه للانضمام quot;الإشكاليquot; للجماعة الدينية الإخوانية السورية -التي لعبت سابقا بالورقة الطائفية السورية كما يلعب بها الإعلانيون اليوم- والذي كان قد رتب له سراً ndash; للإعلان- الأستاذ ميشيل كيلو، عجل الله في فرجه، وكما ذكر ذلك جوشوا لانديس خبير الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما في إحدى دراساته القيمة عن الإعلان والمعارضة السورية.

ولماذا يجب على كل من في سورية أن يقبل بقيادة وبوراثة امرأة، أسموها وردة أو زهرة سوريا على ما أعتقد، لتاريخ أبيها النضالي العريق لمجرد أنها من ذات quot;الأكثرويةquot; المعصومة، ولا يعرف أحد، حتى الآن، خيرها من شرها ولا شيئاً عن تاريخها السياسي، وما هي فضائلها، وما يشرعنها ويضع عصمة سوريا السياسية كلها في يديها المباركتين هو فقط انتماؤها الجغرافي والوراثي، فيما يطنطن الإعلانيون كثيراً بالحديث عن الوراثة السياسية في مكان آخر؟ ألا يمهدون هنا، احتفاء واحتفالياً، للوراثة السياسية وللديمقراطية التوافقية الطائفية المقيتة quot;حصراًquot; بنسختها العراقية واللبنانية المحاصصاتية الأشد تخلفاً وفجاجة ونفوراً من أية توتاليتارية وجدت على وجه الأرض، ثم يندبون ويلطمون على طائفيات متخيلة هنا وهناك؟

فهل الوراثة حلال في مكان، وحرام في مكان آخر؟ وإذا كانت هنا حرام ومنبوذة، فلماذا هي هناك حلال إن لم يكن ذلك على أساس طائفي؟ وهل الحلال والحرام، يقرره قانون وضابط ما أم مجرد الانتماء، هو ما يجعله مسموحاً أو ممنوعاً؟ إذا لم تكن هذه هي الطائفية المجردة حتى من ورقة التوت، فماذا عساها أن تكون، أيضاً وأيضاً، وحتى لو تجاهلها وأغمض العين عنها بلاشفة وعتاولة وسماسرة الإعلان؟ وإذا لم يكن ذلك الإعلان، وبناء على كل ما سبق طائفياً، فماذا عساه أن يكون إذن؟

تقبل الله طاعتنا، وطاعتكم جميعاً، وكل 1400 عام وأنتم بخير يا.....شباب.

نضال نعيسة
[email protected]