إذا نفذت قرارها المعلن ببدء الحوار مع القيادة السياسية لكردستان العراق حول قضية ndash; حزب العمال الكردستاني ndash; فإن حكومة ndash; رجب طيب أردوغان ndash; ذات التوجهات الإسلامية ستدخل التاريخ كأول حكومة تركية تجري إتصالا رسميا مع طرف كردي، بإعتباره طرفا كرديا وليس بأية صفة أخرى منذ خمسة قرون، وهو ما يعطي الحدث رمزية بالغة الدلالة، ويكسبه قيمة تاريخية متميزة.

لعب الكرد دورا إستثنائيا في توسيع حدود دولة quot;الخلافةquot; العثمانية وتوطيد أركانها. فالإنتصار التركي على إيران الصفوية في معركة ndash; جالديران ndash; الشهيرة ما كان ممكنا بدون الدعم الكردي، والمقاتلون الكرد شكلوا القوة الضاربة في quot;فتوحاتquot; الإمبراطورية العثمانية لبلاد الشام ومصر، وأيضا في ترويض شعوب البلقان المنتفضة ضد التعسف التركي، لكن ذلك كله لم يشفع لهم لدى quot;ولي الأمرquot; في القسطنطينية الذي ظل يرى في ndash; كردستان ndash; أو بلاد الكرد مخزنا للمؤن والمقاتلين، وقاطنيها مجرد رعايا تختزل ( بضم التاء) حقوقهم في تنفيذ الإرادة السامية للسلطان الذي كان يعتبر، من عليائه، ذاته المقدسة quot;ظل الله على الأرضquot;. ولم تغير الدولة التركية الحديثة التي قامت على حطام الإمبراطوية المنهارة شيئا في النظرة الإستعلائية للنخب السياسية التركية للكرد و قضاياهم، بل زادت الأمر تعقيدا عندما quot;أفتىquot; مؤسسها ndash; مصطفى كمال آتاتورك - ومن بعده ورثته السياسيون بإعتبار الكرد quot;أتراكا جبليينquot; الأمر الذي أغلق فعليا الباب أمام إمكانية إجراء أي نوع من أنواع الحوار بين الترك والكرد، ليفتح باب آخر هو باب الصراع الدامي الذي تشهده البلاد منذ فترة طويلة من الزمن وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية وتكبد فيه الطرفان خسائر جمة. فالكرد عانوا الكثير تقتيلا وتهجيرا وتشريدا وتتريكا، في حين دفعت تركيا ثمن سياساتها اللاعقلانية هذه مئات المليارات من الدولارات التي أهدرت في حروب ظالمة وعقيمة، والأهم أنها أهدرت بذلك ماتبقى لها من سمعة،متآكلة أصلا، على خلفية تاريخهاالمتعلق بإبادة الأرمن في بدايات القرن المنصرم، وخروقاتها الفظة لحقوق الإنسان، وغيرها من الممارسات اللاديمقراطية التي شكلت في مجموعها عقبة كأداء أمام تحقيق حلمها القديم في الإنضمام إلى الإتحاد الأوربي، الحلم الذي يبدو أنه سيظل مؤجلا حتى إشعار آخرما لم تبادر فورا لحل هذه القضايا وعلى الخصوص القضية الكردية،إذ يستحيل بدون ذلك تصور وجود تركيا ديمقراطية ومزدهرة.

التأكيد على رمزية هذا الحدث وتاريخيته لا يلغي مع ذلك الحاجة إلى إستقصاء دوافع القرار التركي الذي فاجأ أغلبية المراقبين السياسيين وأهدافه الحقيقية، وهو من هذه الزاوية على الأقل، يفزز تساؤلات من قبيل: هل جاء القرار كنتيجة لإقتناع القيمين على السياسة التركية بعقم ولاجدوى الأساليب العسكرية في مقاربة المعضلة الكردية والتحول عنها إلى الوسائل السلمية والديمقراطية، أم أن الأمر ببساطة تغيير في التكتيك من خلال جر أقليم كردستان العراق إلى دائرة الصراع بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني مع كل ما يعنيه ذلك من عودة إلى مسلسل الإقتتال الكردي ndash; الكردي الذي لا تزال آثاره الكارثية تلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع الكردي في سائر أجزاء الوطن الكردي المقسم؟ وهل أن القرار يحظى بإجماع القوى المتنفذة في تركيا كما قال الرئيس ndash; عبدالله غول ndash; أم هومجرد مناورة من حزب العدالة والتنمية لتعزيز وتوسيع قاعدته الإنتخابية في المناطق الكردية خاصة مع إقتراب موعد الإنتخابات المحلية في البلاد التي يتوقع أن تشهد تنافسا حادا بين الحزب الحاكم والحزب الشعبي الديمقراطي ذو التوجهات الكردية و الذي يعد بمثابة الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني؟ وتساؤلات أخرى عديدة تتصل بتوقيت القرار ومدى علاقتة بالتطورات الإقليمية والدولية المتسارعة راهنا. ولكن، وبغض النظر عن الدوافع والأهداف الحقيقية للإنفتاح التركي المفاجئ، فإن ما يجب تأكيده هنا، أن الوقت قد حان بالفعل، لكي تلفظ تركيا الرسمية الوهم الذي بات يلف بإحكام العقل الجمعي التركي الذي مافتأ يفسر الإنتفاض الكردي في وجه الظلم والإستعلاء القومي بمؤامرة تحاك في مكان ما وراء حدود quot;تركيا الوادعةquot;، لأن الواقع يشهد في كل لحظة بأن جذور هذه الأزمة، وتجلياتها المأساوية بمآلاتها الدامية، تستوطن الأرض التركية، أو تلك التي أريد لها أن تكون كذلك. وإذا كان الحوار مع أربيل مهم جدا لجهة إزالة التوتر الشديد الذي بات يوسم علاقات الطرفين بعد تغيير النظام في بغداد ويصب في صالح الأمن والإستقرار في العراق وتركيا وفي المنطقة عموما، فإنه لايجوز ولايمكن أن يصبح بديلا عن الحوار مع الكردي الآخر الذي يشاطر التركي ذات الهواء والتطلعات والأماني في العيش بحرية على الأرض التي يتقاسمانها لقرون عديدة، ولكن على قاعدة من المساوة والعدالة وإحترام لخصوصيته الثقافية والقومية في إطاد دولة ديمقراطية لامركزية ولكن موحدة.

عبدالرحمن علي