تحمل الولايات المتحدة في جيناتها المؤسساتية ما يلزم من كروموزونات الصبا الدائم والحيوية السياسية الجاذبة، وهي ما زالت منيعة عن الإصابة بوهن وترهّل الدول الشائخة، وهي ستبقى تدير العملية الديمقراطية في الداخل الأميركي، والعالم، لزمن لا يستهان بامتداده في شريان الألفية الثالثة من التاريخ البشري المعاصر.

هذا ما اعتقدتُهُ دائما، وعايشته بعمق هنا في الوطن المختار الولايات المتحدة، وبكافة معانيه ومعطياته الاجتماعية والسياسية والحياتية، بعيدا عن أي انتماء حزبي أو عقائدي أو عرقي ضيق.

قدّمت الولايات المتحدة أمس برهانا آخر على أن الديمقراطية التي تبنّاها الآباء المؤسسون لهذه الدولة منذ إعلان الاستقلال في العام 1776، ليست مجرد نظرية للتصدير أو حبوب تنشيط سياسي مؤقتة المفعول، تكاد أضرارها الجانبية تفوق قدرتها على علاج المرض، بل هي ـ أعني الديمقراطية الأميركية ـ حراك سياسي مؤسساتي يقوم على مبدأ Check Balance، بما معناه أن: اختبرْ وحقّقْ ثم قمْ بالتغييراللازم من أجل تحقيق التوازن السياسي المنشود.

وغالبا ما يشار إلى الديمقراطية الأميركية بالديمقراطية quot;الجيفرسونيةquot; نسبة إلى الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية والفكر المنظّر للدستور الأميركي توماس جيفرسون، والذي كان تأثيره على سياسة الولايات المتحدة أعظم من تأثير أي زعيم سابق أو لاحق، وحتى هذا اليوم لا تزال تعاليمه تحدّد معالم السياسة الأميركية، ولا تزال مبادؤه تقود هذه الدولة العظمى بحرياتها الشاسعة ودستورها الأقدم في العالم بين الدساتير المدوّنة، والذي هو من أكثر الصادرات الأميركية شعبية. وقد اعتبر جيفرسون الدستور صرحا قائما ونموذجا لشعوب العالم للاقتداء به، فكتب قائلاً quot;من المستحيل ألا نشعر بأننا نعمل من أجل الإنسانية جمعاءquot;. وقد تبنت العديد من دول العالم الديمقراطية نماذج دستورية مقتبسة من الدستور الأميركي.

خرجت أميركا عن بكرة أبيها في الرابع من شهر نوفمبر 2008 لانتخابات تاريخية لم تعهدها من قبل بسبب تحديات المرحلة سواء على الصعيد الاقتصادي الداخلي الأميركي والسياسي الخارجي الدولي من جهة، ومن جهة أخرى لأن المعسكريين الانتخابيين هذه الدورة ضما شخصيتين جدليتين: رجل ملّون مرشحا لرئاسة أميركا عن الحزب الديمقراطي، وامرأة شابة، غير معروفة نسبية في الأوساط السياسية الواشنطنية، تتقدم إلى مشارف البيت الأبيض كنائب رئيس جمهورية عن الحزب الجمهوري.

أعلن في ليل اليوم عينه عن فوز لافت لباراك أوباما ـ الديمقراطي، على منافسه على المكتب البيضاوي جون ماكين ـ الجمهوري. وقال أوباما في أول ظهور له إثر إعلان النتائج quot; إن كل من كان يشكّك بقيم الديمقراطية الأميركية، وبالفرص الأميركية المتاحة لكل ذي كفاءة، وباستمرارية المبادئ التي غرسها المؤسسون الآباء الأوائل، يجد جوابا يقينا اليوم على شكوكه مفاده أن هذه الأمة ليست ليبرالية فقط أو محافظة وحسب بل هي خلطة متّحدة وجامعة لكل الاتجاهات والأعراق والمكونات الاجتماعية والسياسيةquot;.

أما كونداليزا رايس، الجمهورية الملوّنة العتيدة، فقد صرّحت إثر فوز أوباما، مباركة قدرة أميركا على التجدد والتغيير quot;إن العرق لم يكن عاملا سياسيا مرجّحا أو إقصائيا في هذه الانتخابات، بل أميركا تؤكد اليوم أنها تنتخب أوبوما لإيمانها بنصه السياسي وبرنامجه الذي يتبناه، وأن انتخابه لا علاقة له بلون جلدته.


وقد أكد كولن باول اليوم هذه المقولة في مقابلة تلفزيزنية معه إثر فوز باراك أوباما بالانتخابات قائلا: quot;إن أوبوما قدّم نفسه كأميركي، وليس كأميركي من أصل أفريقي وهذا سر من أسرار نجاحهquot;.
وقد أكدت بنفسي، قبيل الانتخابات، على هذه الرؤيا في حوار تلفزيوني على شاشة البي بي سي عن حال العرب الأميركيين في الولايات المتحدة، وقلت ما مفاده quot;إن العرب الأميركيين هم مواطنون أميركيون أولا، وكونهم جاؤوا من هويات عرقية ودينية متعددة تضمّها الثقافة العربية الواحدة، من شركسية وآشورية وأمازيغية وقبطية وكردية ومسيحية ويهودية وإسلامية، إنما يشكل عامل إثراء لانتماءهم إلى الوطن الجديد المختار الذي يقوم أصلا على التعدديات الثقافية والعرقية والدينية والسياسية. وقد يكون النسيج الثقافي التعددي في العالم العربي شبيها جدا بنظيره في الولايات المتحدة، إلا أن الفارق الجوهري بين العالمين يكمن في تفعيل مفهوم quot;المواطنةquot;، حقا وواجبا، المفهوم الذي تذوب فيه الأعراق والأديان والانتماءات وتكاد تتوحد بهدف تمكين مصلحة الأمة الواحدة.

اليوم يؤكد الشعب الأميركي أنه هو من يدير دفتة السياسة، وأن اختيار الشارع السياسي لا يحكمه انتماء أُسري أو عرقي أو ديني، وإنما تعزّزه قدرة المرشح على تقديم نفسه كشخصية مستقبلية تدفع بالأمة حثيثا إلى الأمام.

أعلنت أميركا اليوم، وبأصوات الملايين من مواطنيها، أن الديمقراطية التي تحاول تدويلها، هي من أول المؤمنين بها ومن أعتى المطبقين لمبادئها، وذلك بما ينفي كل ما تداوله العالم عن زيف المساعي الأميركية التي تدعو إلى إقامة الديمقراطيات في الدول ذات الأنظمة الشمولية، ويكشف مجددا أن العيب كل العيب لا يكمن في المساعي الأميركية تلك، بل هو متجذّر في بنيان تلك الأنظمة المانعة للحراك الديمقراطي، والعصّية على رياح الحريات والتغيير، والراكدة في مستنقعات التاريخ في ظل حكم الرجل الواحد، أوالأسرة الواحدة، وإلى أبد الآبدين.

قال أوبوما أمس متوجها إلى ما يقارب المليون شخص من مؤيديه في شيكاغو: quot;هذا النصر هو نصركم، أنتم سجلتموه للتاريخ بأصواتكم وإرادتكم وحريتكم في الاختيارquot;. وها هو الرئيس بوش يطلّ من حديقة البيت الأبيض مرحبا بفوز الرئيس أوباما من الحزب الديمقراطي المنافس، ويعد بانتقال سلس للسطلة من قبضة الفريق الجمهوري الحاكم إلى أيدي فريق أوباما من الحزب الديمقراطي القادم إلى أروقة بيت الرئاسة الأميركي في العشرين من شهر يناير 2008.

إن فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية للعام 2008 لهو فصل المقال في الجدل القائم حول التغيير الذي تبشر به أميركا في العالم، التغيير الذي ليس بمستحضر أميركي عجائبي للتصدير وحسب، بل هو نسغ الحياة الأميركية وميزان حراكها السياسي الذي لا ترجح كفّته إلا لتحقيق المزيد من الحريات، وهو العلاج الناجع لكل من اختار أن يدقّ باب الحرية ليلج مساحات المستقبل.
يقول جيفرسون:quot;كل الناس خُلقوا متساوين وخالقهم وهبهم حقوقاً لا يجوز التفريط بهاquot;. وهاهو من يلقّب بـ quot;كيندي الأسودquot; يتبوأ أعلى كرسي تنفيذي في البلاد بعد أن كان يمنع على الرجل الملوّن مجالسة الرجل الأبيض على المقعد نفسه في حافلات النقل الأميركية، ومنذ فترة زمنية لا تتجاوز البضعة عقود فقط!


حبّة الديمقراطية الأميركية ليست بالفياغرا السياسي سريع المفعول، سريع الزوال، إنما هي ترياق الشعوب التي تعاني من فقر دم مزمن في جهاز الحريّات المناعي.. فهل من يفقه؟!

مرح البقاعي