لعل تجربة حزب البعث العربي الإشتراكي المرة و المريرة في العراق تمثل الحصيلة العامة للتجربة السلطوية البعثية في العالم العربي منذ أن أنطلقت إرهاصاتها في نهاية أربعينيات القرن الماضي، ودخلت حيز الحكم و السلطة و التنفيذ مع بداية ستينيات القرن الماضي في وقت متقارب و متزامن في كل من القطرين العراقي( فبراير ) 1963 و السوري ( مارس ) 1963، ففي العراق وصل البعثيون للسلطة للمرة ألأولى من خلال إنقلاب عسكري دموي بالتحالف مع القوميين الناصريين و ضباط آخرين و بتسهيلات لوجستية من المخابرات الأميركية و كان هدف الإنقلاب القضاء المبرم و التام على الحركة اليسارية و الشيوعية في العراق التي شهدت إنتشارا و نموا واضحا في الوسط الشعبي العراقي بعد إنقلاب 14 تموز العسكري عام 1958 الذي أجهز على الشرعية الدستورية و فتح الطريق لضباط الجيش و للمغامرين من السياسيين لممارسات و تجارب دموية مستقبلية مروعة، و كان الخوف من إنتشار الأفكار الشيوعية في تلك الفترة أحد أهم ملامح الحرب الكونية الباردة و الصراع بين الكتلتين الغربية الرأسمالية و الشرقية الشيوعية، و كان الشرق الأوسط من أهم اللاعبين المتميزين و المجال الحيوي الأرحب لذلك الصراع الكوني!
أما في الشام فقد كان هدف الإنقلاب العسكري البعثي هو التخلص من النظام القطري الذي أسس لفصم الوحدة الإندماجية مع مصر و التي كان البعثيون أنفسهم أهم أطرافها!! بل و العاملين فيما بعد على تخريبها و فصم عراها بعد الخلاف الشديد مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي إشترط حل حزب البعث كشرط لقبول الوحدة وهو ما قبله البعثيون في البداية ثم إنقلبوا عليه في النهاية، ليمارسوا العمل السياسي ضد نظام عبد الناصر من بيروت و ليساهموا لا حقا في وأد الاجربة الوحدوية الأولى و الأخيرة في التاريخ العربي المعاصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، لتقترن هيمنة حزب البعث الجديدة في القطرين السوري و العراقي بالدعوة لإحياء تلك التجربة الوحدوية التي ثلمت لنقص التجربة و لأخطاء القيادة السياسية المصرية التي أوكلت شؤون الإقليم الشمالي ( سوريا ) لجماعة مكتب المشير عبد الحكيم عامر نائب القائد العام و حيث قاد مدير مكتبه شخصيا ملف الإنفصال النهائي، البعث السوري كان يعي جيدا بأنه لا عودة حقيقية ووشيكة للوحدة بشكلها القديم لأن نظام عبد الناصر قد فقد الثقة نهائيا بالبعثيين!
كما أن البعثيين هذه المرة ليسوا على إستعداد لتسليم رؤوسهم و ذقونهم لعبد الناصر و أجهزته الإستخبارية و رفضوا حل تنظيمهم لأنهم يعتقدون بأن التنظيم السياسي هو من يحمي الوحدة و يصونها و إن أسلوب الإدارة المصرية لملف الوحدة كان خاطئا و متسما بالسذاجة و عدم الكفاءة!!
أما في الجانب العراقي فإن بعثيي العراق لم يكونوا متلهفين حقيقة لتحقيق الوحدة مع مصر أو الشام نتيجة لمشاكل العراق الداخلية الصعبة، و الصراع ضد الشيوعين و الحركة الكردية الثائرة في الشمال إضافة لمشاكل عراقية أخرى، وقد وقعوا تحت تأثير مراكز القوى العسكرية من الضباط القوميين من جماعة عبد السلام عارف النائب السابق لعبد الكريم قاسم و أحد إنقلابيي تموز 1958 و الذي جاء به البعثيون ليكون رئيسا للجمهورية وهو لم يكن سهل الإنقياد بل تعمد في البداية تحصين مواقعه و إنتظار نتيجة الصراعات الدموية الساخنة بين حلفائه الألداء البعثيين و إنقساماتهم العميقة التي توجت بصراع دموي بين التيارات البعثية المتصارعة أو بين مؤسسة ( الحرس القومي ) البعثية الفاشية التي زرعت الرعب و الموت في الشارع العراقي و بين جماعة الضباط و العسكريين و بلغ التوتر مداه يوم 13 نوفمبر 1963 حينما تم إعتقال و إبعاد القيادة البعثية العراقية لأسبانيا مما مكن الرئيس القومي عبد السلام عارف بالتعاون مع الضباط البعثيين نفسهم بإدارة إنقلاب عسكري جديد في 18 نوفمبر أبعد البعثيين عن السلطة نهائيا و أنهى فترة حكم البعث الأولى التي إستمرت طيلة تسعة شهور كانت حافلة بالرعب و الفوضى و رياح الموت و سيادة الإرهاب وهو الأمر الذي تحدث عنه الأمين العام للحزب ميشيل عفلق ذاته، كما نسب للرئيس العراقي الأسبق و رئيس وزراء إنقلاب 1963 أحمد حسن البكر قوله : إنه كان يتعمد المشي في الشوارع الخلفية نظرا للمصائب التي تسبب بها حكم البعث للشعب العراقي، و قبل تلك الأحداث دخل البعثيون في العراق مع زملائهم في دمشق في مفاوضات وحدوية مع جمال عبد الناصر لم تصل إلى نتيجة سوى لبيان وحدوي ميت و جامد وهو الذي أعلن في 17 إبريل/ نيسان 1963 لم ينجز أية وحدة فعلية بسبب الخلافات و الشكوك و عدم الإستقرار داخل الأنظمة البعثية و بسبب مرارة التجربة الوحدوية السابقة و الفاشلة و التي أنهت ملف تحقيق الوحدة مجددا بعد تغير المعطيات الستراتيجية الإقليمية و الدولية و تبدل ملفات إدارة الصراع فظلت الوحدة كلمة رومانسية هائمة في الفكر البعثي النظري لم تجد أي مجال تطبيقي لها!، و العغريب أن الحزب الوحدوي البعثي قد عاش إنقساما مريرا منذ فبراير 1966 بعد إنقلاب اللجنة العسكرية السورية ضد القيادة القومية و التاريخية للبعث و طردهم لميشيل عفلق و رفض الفرع العراقي لذلك الإنقلاب ما ولد عداءا تاريخيا مريرا بين بعث العراق و الشام لم ينته أبدا و لم يقدر لأي طرف أن يلتقي مع الطرف الآخر بشكل حقيقي فيما بعد، و فشلت كل المحاولات الحثيثة لتحقيق وحدة حزب البعث الذي فشل فشلا ذريعا و مأساويا في ترميم ذاته و إصلاح واجهاته، بل أن الخلاف البعثي المتبادل قد أسس لقطيعة شاملة بين الشعبين العراقي و السوري إمتدت لعقود طويلة و أستمرت حتى سقوط بعث العراق تحت دبابات الإحتلال الأميركي رغم محاولات التقارب خلال العقد الأخير و إعتبارا من عام 1997 لأسباب إقتصادية محضة لا علاقة لها بأصل الصراع العقائدي و الذي تحول فيما بعد لعداء و نفور شخصي بين الرئيس السوري السابق حافظ الأسد و الرئيس العراقي السابق أيضا صدام حسين و هو عداء مرير إستوجب معه قطع العلاقات بالكامل و إدارة مؤامرات متبادلة من خلال دعم المعارضين و دعم محاولات الإنقلاب و إدارة التفجيرات و أعمال التخريب و إنقسام القيادات القومية و القطرية البعثية، فالفرع السوري يقول أن الفرع العراقي يميني مرتبط بالإمبريالية، بينما يشيع الفرع العراقي بأن البعث السوري طائفي و حاقد على الأمة العربية!!كما انه المسؤول عن ضياع هضبة الجولان و تسليمها لإسرائيل في حرب حزيران 1967!!، و كانت أهم محاولة لإعادة ترميم صفوف حزب البعث قد تمت في أخريات أيام الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر من خلال ما سمي في حينه بميثاق العمل الوحدوي بين سوريا و العراق في عام 1978 و في المرحلة التي أعقبت توقيع المرحوم الرئيس المصري أنور السادات لمعاهدة كامب ديفيد، و هو تقارب وصل لحد التلويح بإعلان دولة وحدوية عراقية/ سورية و توحيد حزب البعث على أن يكون البكر رئيسا لدولة الوحدة و الأسد أمينا عاما لحزب البعث الموحد!! و هو الأمر الذي رفضه نائب الرئيس القوي جدا وقتذاك صدام حسين الذي عمل جاهدا و بأساليب مختلفة و لكنها معروفة على إجهاض ذلك التقارب و قاد إنقلابا داخليا شرسا أدى لإبعاد الرئيس البكر و لإعدام 22 قيادي من القيادة القطرية و مجلس قيادة الثورة و الكادر العسكري و الحزبي المتقدم و إعتقال نائب الأمين العام للحزب المرحوم الدكتور منيف الرزاز و إعدام كل من يتحدث بأحاديث الوحدة مع البعث السوري و كان ذلك في 16 تموز/ يوليو 1979!!
و حيث بدأت الدراما البعثية في العراق تدخل مرحلة الكوابيس و في إنقلاب لا يختلف إلا من حيث الشكل مع إنقلاب الزعيم النازي هتلر في ليلة السكاكين الطويلة المعروفة عبر الإجهاز على زعيم الشبيبة النازية ( إرنست روهم ) و بزوغ القيادة الفاشية الواحدة المدعومة عائليا تحت إسم و عنوان حزب البعث الذي تحول قادته لمجموعة من المطبلين و المصفقين فقط لا غير!! فالأمين العام للحزب ميشيل عفلق إلتزم الصمت التام في لغز تاريخي و مريب، ووحدة الحزب تحولت لشظايا متطايرة فلم يقدر لها أن تتحقق أبدا بعد ذلك!!، أما القيادات القومية الحزبية فهي مؤسسة كارتونية لا قيمة ميدانية لها، فقد جمع النظام العراقي بعض البعثيين العرب من الذين لا إمتدادات سياسية لهم في بلدانهم و شكل منهم قيادة قومية لم تفعل شيئا أبدا و كانت ظلا باتا على الدوام فمن السودان كان بدر الدين مدثر، و من لبنان كان عبد المجيد الرافعي، و من السعودية كان علي غنام أما من اليمن فكان قاسم سلام!! و لم يتسن أبدا فتح فروع بعثية بمستوى قيادات قطرية في غالبية الدول العربية لا في مصر و لا في المغرب و لا في الخليج العربي، أما القيادة القومية السورية فكانت ركيكة للغاية لا تضم فعليا سوى البعث اللبناني المرتبط بهم و البعث العراقي الذي كانت غالبية قياداته ذات ولاءات مزدوجة عادت غالبيتها للعراق فيما بعد كما حصل مع الرفيق ( سهيل السهيل ) و ( الرفيق عبد الجبار الكبيسي ).. و آخرون من مستويات حزبية أقل...!، لقد كانت مهزلة قومية شاملة، ودراما صراع دموي إغريقية تسبب بها حزب البعث في الواقع العربي الذي بدلا من أن يحقق الوحدة بمفهوم ( إنقلابي على الذات )!! حاول تحقيقها بطريقة بدائية عن طريق الضم و الغزو و الإلحاق و القسر كما حصل في جريمة الغزو الصدامي لدولة الكويت عام 1990 و هي الجريمة الحمقاء التي كانت بمثابة بداية النهاية لحكم و زمن البعث العراقي، الغريب أن ألأمين العام ميشيل عفلق و حتى وفاته و دفنه في العراق عام 1989 ظل ساكتا عن أحداث العراق لأسباب غير مفهومة رغم أنه صاحب كلمة التمجيد الكبرى لصدام حينما قال : ( إن صدام حسين هدية الحزب للعراق، و هدية العراق للأمة العربية... ) فيالها من هدية؟.
المهم و الخلاصة في كل العرض السريع إن الحزب و حتى لحظة إندثاره قد فشل في توحيد ذاته و ترميم أجزائه، فهل يرتجى منه بعد ذلك توحيد الأمة العربية..؟
إنها سطور قليلة لمآسي دموية مروعة جعلت من العالم العربي المعاصر عاريا و كسيحا أمام المتغيرات الكونية الكبرى!.
داود البصري
التعليقات