اختلطت المفاهيم واختفت الحدود

من بين جمهرة المشاهدين داخل قاعة المسرح الوطني التي تعرض على خشبتها مسرحية (كوميدية)، سحبني من يدي صديقي الممثل وهو يقول لي : أتريد ان تضحك ام تبكي؟، هل تعتقد ان ما يقدم هو كوميديا؟، انا لم استطع الضحك بل كدت ابكي، فأخرج بنا لكي نتنفس هواء نقيا، وحين خرجت معه قال : من المؤسف ان نسمي هذا كوميديا بل ضحك على ذقون المشاهدين، قلت له وقد جلسنا على اقرب اريكة في صالة بناية المسرح : ولكنها تزرع البسمة على الشفاه، فرد بصوت عال : عمر الاسفاف ما زرع بسمة ولا حرك خلية من خلايا الاحساس او عضلة من عضلات الوجه، ان الكوميديا فن والفن رقي ونبل وذوق، وهذا لا علاقة له بكل ما ذكرته لك، وبعد ان هدأ قال : هل تعتقد ان لدينا كوميديا، يا صاحبي انظر الى واقعها وسوف تشعر بالحزن سواء كانت تلفزيونية او مسرحية!

هذا الذي سمعته من صديقي الممثل جعلني اتأمل وجه الكوميديا واتفحص ماهي عليه ومن ثم وجدتني اذهب لأستطلاع اراء اهل الفن في محاولة مني لمعرفة واقعها الحقيقي ولكن بهدوء، اي انني سارسم طريقي الى الكوميديا بتأني، ولأفهم الكوميديا بما يحيطها.

اول الطريق كان الى كلية الفنون الجميلة وكنت على طواله اتسلى بلقطات تمر على شاشة ذاكرتي من مسلسل (تحت موس الحلاق) للعملاق سليم البصري واشعر بأساريري تنفرج وتتألق اصوات ضاحكة في تفسي، حاولت ان اعقد مقارنة بينها وبين ما يقدم الان، لكن مصادفة مع الدكتور عقيل مهدي عميد كلية الفنون الجميلة جعلتني أؤجل ذلك، فطرحت عليه سؤالا عن الالتزام الفني فقال :لا تنفصل الفعالية المسرحية في الملهاة عنها في المأساة من قضية الالتزام الجاد بالفن، وعرف مسرحنا العراقي منذ مديات زمنية متفاوتة ازدهارا لفن الكوميديا حين ارتبط بالمفهومات الاجتماعية وعبر عن تلك الرؤى بمعالجات اسلوبية متقدمة مثل تجارب التأليف عند يوسف العاني و طه سالم وعادل كاظم ومحي الدين زنكنة وسواهم على صعيد التأليف او فيما قدمه المخرجون من عروض متقدمة لدى جيل الرواد وتلامذتهم وبالامكان الاشارة الى كثير من تجاربي تأليفا واخراجا تدخل ضمن الاسلوبيات التي تعنى بتقديم روائع الادب الدرامي العالمي مثل السحب والضفادع لارسطو فانيس، وحلاق اشبيليا لبومارشيه ومسرحياتي : يوسف يغني، ومغامرات مسرحية وكثير سواها.


شكرته ثم تحولت الى الدكتور صباح مهدي علي رئيس قسم السمعية والبصرية الذي سألته عن فن الكوميديا فاجاب : مما لاشك فيه ان فن الكوميديا من الفنون الصعبة وعلى امتداد العقود الماضية برز العديد من الفنانين الكوميديين في العراق استطاعوا ان يقدموا كوميديا ترتكز على ظواهر واهداف المجتمع العراقي. ولكن ما نشهده اليوم من كوميديا عبر الفضائيات العراقية تفتقد الى الكثير من مقومات العمل الفني. حيث تعتمد على التهريج والارتجال احيانا والممل اصبح نمطي في تقديم الدور. ناهيك عن الاساءة والانتقاص في المعالجة الدرامية للموقف الكوميدي.


تركت دكتور صباح وان اتامل ما قاله من مقارنة بين كوميديا الامس واليوم،فأبتسم للماضي وامتعض للحاضر، وبين دوراني في الكلية صادفني صاحبي الممثل اياه وسرعان ما استغرب من وجودي فقلت له : جاءت بي الكوميديا التي تحدثت لي عنها فكانت لي رغبة ان اجدها عند من يعرفها، فقال لي تعال الى حيث الفنان خالد احمد مصطفى الممثل والمدرس في كلية الفنون الجميلة وهنا قال له صاحبي : انه يسأل عن الكوميديا عندكم فأفيدوه فقال بأختصار: قبل عشر سنوات ونيف تحدد الشكل الكوميدي في المسرحية العراقية بالمسرح الشعبي حصرا او ما يسمى بـ (المسرح التجاري) اما على الصعيد الاكاديمي وهو المفترق الصحيح في فهم وطرح الكوميديا، فقد انحسر باعمال تعتمد (التراجيكوميديا) و (الكوميديا السوداء) والتي هي بحاجة الى تثقيف عال لفهمها، على هذا الاساس تختفي حدود المسرح الكوميدي في العراق الان لتتداخل المفاهيم ولعدم تحديد المصطلح اولا، ولقلة العروض المسرحية ثانيا، واذ كان على مقربة منه الدكتورحسين علي هارف المخرج والناقد المسرحي فقد قال : لااعتقد ان ما يقدم الان يرتبط موضوعيا وفنيا بـ (الكوميديا) التي لها اشتراطاتها الفنية ووظائفها التي ترتقي بها الى مستويات راقية. فالكوميديا تخاطب الذهن وتحفزه للتأمل والتفكير وتدعوه للتغيير. والكوميديا لا تقترن بـ (الالفاظ) فقط كما هو سائد ومعمول به - بل تقترن بـ (الشخصية) و(الموقف) و (السلوك) ومعظم ما يقدم من مواقف فكاهية يقترن باهداف سياسية (مرحلية) - وهذا ليس من اختصاص الفن الذي يجب ان يعنى بما هو انساني ووجداني ودائم.

قلت لصاحبي سأكتفي بهذا القدر من الكلية وساعود ادراجي الى الفنانين، فقال اذن خذ رأيي فقلت له وانا ابتعد عنه : رأيك محفوظ!!، حاولت ان استفز مشاعري لأكتشاف الكوميديا الراقية التي يتلقاها المشاهد بقدر كبير من الاعجاب فلا تخدش حياءه ولايجد نفسه صاغية لكلمات الشارع المبتذلة والحركات البهلوانية التي تجعله يضحك على الممثل وليس على ما يقدمه حيث ان الممثل لا يفرق مابين المسرح والتلفزيون، فيأتي بالسمج والمكروه ويحط من قدر نفسه، بل انه لا يمتلك اية ثقافة فيلعب على حبل الكلمات اكثر من الموقف فيرهق نفسه بالتهريج مثلما يرهق المتلقي، لم اجد بين المسلسلات التلفزيونية غير صياح وكلام ممجوج ينضح سخرية من ذات الممثل والمواطن.

قلت للفنان حيدر منعثر : مارأيك بالواقع الكوميدي، فأجاب وما كان يريد الاجابة : الواقع الكوميدي لا ينفصل عن مجمل الواقع الفني عموما في خارطة الفن العراقي ولكن لابد من الاشارة الى ان هناك نظاما اذا جاز لنا التعبير ان نسميه هكذا قد ظهر في السنوات الاخيرة. نظام عمل كوميدي لم يرتق او يرتفع بهذا الفن النبيل الى مستوى نبيل وقيمة الفن الكوميدي الذي نريده. لقد اختلطت المفاهيم واشيع من كوميدي يحاكي السطح والمستهلك بينما نريد للكوميديا ان تكون اكبر واعمق في جذورها وتصديها لاخطرقضايانا، واضاف حيدر : الكوميديا فكر وطريقة واسلوب، الان الكوميديا اذا قدمت بفكر ستصطدم باللافكر المتسيد في تقديم هكذا اعمال للاسف، فأنا قدمت الكوميديا التي تعتمد على الافكار في وقت كان من الصعب ان تحمل الكوميديا افكارا مهمة، ولهذا كان لحيدر الكوميدي قيمة ليست بمجمل الضحكات التي يثيرها حيدر في الناس ولكن بالقيمة الحقيقية في الافكار المهربة والمسربة من خلال هذه الكوميديا..، في التلفزيون شروط الكوميديا التي يتحكم فيها منتجو التلفزيون هي غير الكوميديا التي افكر بها، هناك فايروس (تهريج) مسيطر على انتاجات هذا الفن من الدراما الذي انا لا اضع نفسي فيه، فما يحدث الان في بعض العروض الكوميدية التلفزيونية ان الممثلين يتحدثون عن مشكلة في المجتمع ولا يقدمون هذه المشكلة بالشكل الحقيقي ولا يرتقون بها الى مستوى المشاهد الممتعة.

وحين اتجهت الى الكاتب الكاتب فاروق محمد قال : هذا السؤال يثير اكثر من سؤال ونحن نعيش وسط هذا الاضطراب ولا نجد وضعا مستقرا تنساب فيه الاعمال المسرحية والتلفزيونية بسلاسة تجعلنا نتابع ونقيم ونقوم. عن اي كوميديا نتحدث اليوم..؟ هل نذكر الماضي واعمال الامس التي قلنا فيها رأينا ايام عرضها او نذكر المواقف والنتف السريعة التي تعرضها بعض الفضائيات..؟
وحين ادركت ان فاروق محمد يشعر بالاسى، طلبت منه ان يعطيني اجابة واضحة قال :لا توجد اجابة واضحة عندي !!، وبعد ان قرأت ما اوحى به لي فاروق رحت اتصور الخطورة التي تحملها الكوميديا بين ثناياها لا سيما ان المواطن العراقي بحاجة الان الى ما يزيح عن صدره الهموم اليومية بطريقة راقية ومثقفة وسلسة، حملت افكاري ودرت باحثا عمن يفسر لي ما يحدث فقال لي الفنان كامل ابراهيم : من المعروف بان الكوميديا هي من ارقى انواع فن التمثيل ولكن في العراق اصبحت الكوميديا هي عمل من لا يستطيع ان يجسد شيئا في التمثيل مع بعض الاستثناءات. فنحن الان نعيش حالة كوميديا مستمرة فكل مناحي الحياة اشتملت الكوميديا من خلال الوضع الساخر الذي نعيشه ونتمنى ان ينتهي هذا الوضع في اسرع وقت.

هذا الكلام جعلني اضع نقطة في اخر السطر واتحول للبحث عن اجابة ترسم صورة للواقع الكوميدي في الفن كأني اعود الى بداية حديثي مع صديقي الممثل، فاطلعت الففنان يحيى ابراهيم على ما بي فاجاب انه سيوضح لي شيئا فقال : بدأ الفنانون الكوميديون يتخلصون من سلبيات كوميديا المرحلة السابقة التي كانت تطرح الانسان العراقي وخاصة ابن الجنوب بشكل سلبي وسيء واذ نلاحظ نجد ان اقدم الحضارات نشأت في مناطق مهمة من جنوب العراق، الان استطيع ان اقول ان الكوميديا تحولت الى (ملهى سياسي) واعتقد ان هذه الكوميديا تعمل لخدمة الانسان العراقي وتكون رقيبا على عمل الحكومات، وعلى الفنانين الكوميديين ان يعوا ان الكوميديا فن مهم وقريب ومؤثر في المجتمع العراقي وانا اعتقد ان الكوميديا ستزدهر في العراق ويوجد لدينا فنانون كثيرون ولكنهم محجمون بسبب الانظمة وسياسة القنوات اما الآن فأعتقد ان الآفاق مفتوحة امامهم ليأسسوا مدرسة كوميدية فنية.

وبين اقترابي من نهاية رحلتي والمشهد راحت اجزاء منه تتوضح وجدت الفنان عدنان شلاش يقف على باب المسرح الوطني ساهما فرحت اسأله عن احواله واخباره لأصل به الى ما اريد ان يحدثني عنه، فنظر الي كأنه يستغرب سؤالي وبعد لحظات اجاب قائلا بنبرة هادئة : الكوميديا تأتي في وقت يضحك الانسان فيه على النكتة او تشيع فيه اجواء السعادة والرفاهية وفي اجواء المجتمع المتقدم ومن الخطأ ان نقــول انها تضحــك وتزدهر امـــام وجوه الناس المتعبين.. الكوميديا هي ارقــى فن ومن خلال الكوميديا ننتقد الظواهر السيئة في الدولة واجهزتها ونحارب الفساد الاداري، ثم لمن نوجه النقد وبأية وسيلة حيث لا ضوء ولا مسرح ولا ممثلون ولا متلقي.

واضاف عدنان: في زمن مضى قبل خمسين عاما كانت تعرض المسرحيات في اقضية ونواحي نائية وبعيدة عن مركز العاصمة وكان الناس يدركون ان السلطة تتحسس النقد، فالمجتمع يتغير من خلال تصحيح هذه الظواهر، اذن.. هناك مجتمع يمتلك شيئا من الثقافة ولديه بعض الوقت لكي يستمتع ويصغي للنقد.. اما الان فالمسألة عكسية في مجتمع فيه الظواهر السلبية اذن.. فلا مجال للكوميديا في هذا الزمن المليء بالاحزان والدموع ان تملأ افواهنا بالبسمة، فالفن هو انبثاق الحياة.

واذن..فانا الان اقف على مفترق طرق لأستطلاعي بعد كل الذي سمعته، وقررت ان انقل تلك الاراء واترك للاخرين حرية الرأي فيها.

عبد الجبار العتابي

بغداد