للحديث عن أسباب ظاهرة التشنج عند الكاتب العراقي علينا أن نسلط الضوء على ظاهرة التشنج وعدم قبول الرأي الآخر عند الفرد العربي بصورة عامة ومن ثم الفرد العراقي ثم الكاتب أو المثقف العراقي. كي تصبح الأمور واضحة ينبغي لنا إلقاء نظرة بانورامية على صورة المجتمع العربي وارثه الثقافي رغم أن الموضوع يخص الكاتب العراقي وحده.

لكن لا يمكن إعطاء كل هذه الأمور حقها في مقالة واحدة لذا ارتأينا فقط ملامستها بشكل خفيف لعلاقتها المباشرة- من وجهة نظرنا- بأسباب الظاهرة موضوعة البحث.
هناك أسباب كثيرة لظاهرة التشنج غير الصحية عند الكاتب العربي عامة والعراقي خاصة أهمها:

1. اغلب الكتاب العراقيين غير مثقفين

قد يتبادر الى ذهن القارئ تساؤل ((هل هناك فرق بين الكاتب والمثقف؟)) الجواب نعم لان مفهوم الثقافة عند العرب يختلف تماما عن المفهوم العالمي لها، فالثقافة عندنا تمتزج بالمعرفة والمثقف يعني المتعلم أو الحاصل على شهادة أكاديمية تؤهله للكتابة حتى وان لم يؤثر تعليمه الأكاديمي قيد شعره على سلوكه البدائي البدوي. وهذا طبعا تعريف غير صائب لان الذي لا ينعكس تعليمه الأكاديمي على سلوكه وكتاباته ليس بمثقف بل يمكن أن نطلق عليه لقب متعلم أو شخص ذو معرفة. نسبة كبيرة من الكتاب العراقيين هم أصحاب معرفة أو حملة شهادات أكاديمية لم يرتق معظمهم الى رتبة مثقف.
لقد فشل اغلب الكتاب العرب والعراقيين في تهذيب الطبيعة الفظه التي تميز الشخص العربي وبقوا أسرى ل((لاوعيهم)) البدوي هذا اللاوعي صار من العوامل الرئيسية التي تسير مزاج الكاتب وتعكس الأسلوب الجاف والمتشنج في تصديه ومعالجته للأمور. ومما ساعد على استمرار هذه الظاهرة هو أن مناهج التعليم العربية ومصادر المعرفة الأخرى كالأعلام وغيره هي مصادر معرفية انتقائية وغير محايدة لان هدفها ليس البحث عن الحقيقة أو أيجاد الحلول الناجعة للمشاكل العربية المزمنة وعلى كل أصعدة الحياة بل أن هدفها الرئيس هو تدريس الأبناء نوعا ثقافيا واحدا. هذا النوع يتجسد في أفكار الآباء والحفاظ على سلامة التقاليد واللغة والإرث الثقافي. وهذا احد أهم الأسباب التي تدفع الكاتب العراقي للهجوم بشدة على أصحاب الأفكار الجديدة أو الغريبة على ثقافته اعتقادا منه انه يؤدي واجبا وطنيا مقدسا في طرد كل الأفكار الدخيلة التي يراها موجهة ضد هويته الثقافية.

2.الاستقطاب الأيديولوجي:

كلنا يعرف أن اغلب الكتاب العراقيين هم سياسيون قبل أن يكونوا مثقفين وهذه قد تكون ظاهرة عربية عامة من أسبابها غياب الحرية والديمقراطية والعدالة وبما أن الكاتب يمثل لسان الشعب فلابد له أن يكون من معارضي النظام السياسي ومعارضو الأنظمة عندما ينتظمون فأنهم يشكلون أحزابا سياسية تجد نفسها تتبنى أفكارا عالمية أو وطنية تسير بالضد من أفكار الطبقة الحاكمة. وبما أن الطبيعة الثقافية للعربي عامة والعراقي خاصة هي طبيعة راديكالية فهو يحب حتى القداسة أو يكره حتى الموت وبالتالي فان الأفكار التي يؤمن بها هي أفكار مقدسة بالنسبة له لا يسمح لآخرين المساس بها بتاتا والذي يؤكد هذه الظاهرة هو انقسام الكتاب العراقيين الأيديولوجي هذه الأيام فمنهم الشيوعي الذي لا يمكن أن يقبل بأفكار الإسلامي ومنهم الإسلامي الذي لا يمكن أن يسمح لنفسه بالاستماع الى طرح البعثي رغم أن السياسة هي أم الشرور والأحزاب المذكورة كلها ارتكبت أخطاءا بحق الشعب العراقي ولكن بنسب متفاوتة.

3. الاستقطاب الطبقي

انقسم الكتاب والمثقفين العراقيين في الأربعين سنة الماضية الى طبقتين:
الطبقة العليا.
وهي الطبقة التي سارت في فلك السلطة وأصبحت قلمها الذي تضاهي قوة فوهته فوهة البندقية الموجهة ضد المضطهدين من أبناء الشعب فحصلوا على امتيازات كثيرة بضمنها وظائف حكومية عليا وسلطة ووجاهة. لكن يجب أن نتذكر دائما أن من بين هؤلاء من لم يجد منفذا للتعبير عن إبداعه إلا من خلال السلطة فاستعملها واستعملته فكان يكره النظام ولكن لم يكترث النظام لهذه الكراهية طالما أن بنادق كتاب هذا النوع الثقافية(أي أقلامهم) موجهة بالاتجاه المطلوب.
الطبقة الدنيا. وهي طبقة الكتاب المتضررين من السلطة الحاكمة أما لأنهم آثروا الوقوف بخندق الشعب ضد السلطة أو أنهم فشلوا في مزاحمة المتملقين في الحصول على موطئ قدم في ركب الحاكم أو أنهم من الأجيال الشابة الفقيرة التي دخلت الميدان الثقافي حديثا، ولكن مهما كانت الأسباب فقد تكونت طبقة من هؤلاء الكتاب أوصدت باب التوبة والعودة الى حضن المجتمع أمام كتاب الطبقة العليا بعد عام 2003 من خلال عدم تفويت أي مناسبة في تذكيرهم بماضيهم المشين واستعداء الآخرين عليهم من خلال الاستشهاد بنتاجات ثقافية قديمة نشرت لهم ( قد تكون نتاجات سابقة لنضوجهم الفكري) فلم يبق لهؤلاء من خيار ألا التخندق والدفاع عن ماضيهم، والدفاع عن ماضيهم يعني الدفاع عن النظام السابق.

4.التخندق الطائفي والقومي

الكاتب ابن مجتمعه يؤثر احدهما بالآخر وما حدث من تجاذب طائفي بعد سقوط نظام البعث في العراق أدى الى حفر الخنادق الثقافية فاجبر الكاتب العراقي على اختيار احد هذه الخنادق فاستهلك معظم وقته وتركز جل إنتاجه الفكري على دحض أفكار الخندق الآخر لتتحول في النهاية كتاباته الى سجالات فكرية فجة أو بالأحرى هجاءات فكرية مُرة لتؤدي بالتالي الى تأسيس ((الأدب الطائفي)) الذي هو محاكاة ل((أدب المعركة)) الصدامية أو إحياء ل((أدب الحركة الشعوبية)) فأعاد عقارب الساعة الى زمن ازدهار أدب الهجاء العربي الذي تربع على عرشه شاعرا العصر الأموي جرير والفرزدق فانسلخ عن واقع الحركة الفكرية العالمية المعاصرة التي أهم ما يميزها هو التعددية والتنوع الفكري.

5.عدم تنوع مصادر الثقافة

لقد قيل quot;تعرّف الأشياء بنقائضهاquot; فتوَفر النقيض يوفر المقارنة والمقارنة تمثل الصراع بين الفكرة ونقيضها. يُوَلًد هكذا صراع حالة جديدة مكونة من خليط من العوامل الايجابية في الفكرة والنقيض أكثر تطورا وأسمى من الفكرة ونقيضها(حسب الديالكتيك الهيكلي) ويمكن تسمية الوليد من عملية الديالكتيك الفكري بالوسطية أو الاعتدال الذي يشكل اللبنة الاساسية في بناء ثقافة التسامح وقبول الأفكار المعارضة لأنه يهذب الكاتب ويزرع الشك في ثوابته الفكرية وبالتالي يخفف اللهجة المتشنجة في الرد على ذوي الأفكار غير المألوفة (الافكارالليبرالية أو الغريبة على أفكار المجتمع التقليدية).
لم يتسنى للكاتب العراقي لأسباب سياسية واقتصادية فرصة السفر أو الدراسة والبحث حول التجارب الثقافية العالمية وبالتالي فلقد حرم اغلب الكتاب العراقيين من التعرض لثقافات شعوب العالم الأخرى، فأحادية المصدر المعرفي هذه كونت لديهم قناعة مطلقة أنهم وحدهم يمتلكون معرفة الحقيقة غير القابلة للشك. ساعد على هذه النزعة قلة الكتب المترجمة التي تعكس ثقافات المجتمعات الأخرى ومنع أكثرها فائدة من قبل سلطة البعث الدكتاتورية.

6. التأثير الإسلامي في اللاوعي المجتمعي

لا يختلف اثنان على الدور الكبير الذي يلعبه الدين الإسلامي في بناء الشخصية العراقية وبلورة أفكارها للحد الذي أصبح من شبه المستحيل على الكاتب العراقي النأي بكتاباته عن التأثير الديني حتى وان ادعى العلمانية أو الإلحاد فالدين يمثل النصف الأكبر الغاطس من جبل جليد الشخصية العراقية الذي لابد له من طبع بصماته على نتاجات الكاتب العراقي وبما أن الدين الإسلامي لا يقر التعددية لأنه يخضع كل شيء للمنطق الثنائي أي منطق النقائض وهذه النقائض توزن بميزان واحد ألا وهو ميزان الحق والباطل فالأفكار تنقسم حسب المنطق الإسلامي الى قسمين فإما خير وأما شر ولا وجود لمنطقة وسطى بين النقيضين، أي بمعنى آخر يرى الكاتب العراقي واعتمادا على هذا المنطق أن أفكاره هي الحق والخير بعينه وأفكار المختلفين معه هي أفكار باطلة وشريرة ومؤامرات شيطانية ضد مبادئ الخير والإنسانية وهو وحده من يحتكر الحقيقة المطلقة التي لا تقر نسبية الأفكار. قد يقول قائل ليس الدين الاسلامي وحده في هذا بل ان كل الديانات تزن بنفس الميزان (ميزان الحق والباطل). هذا صحيح ولكن الفرق بيننا وبين معتنقي الديانات الاخرى هو انهم كانوا قد تحرروا من سيطرة دياناتهم التي كانت تتحكم بكل مفاصل حياتهم عندما تم الفصل بين الدين والسياسة في مجتمعاتهم فاعيد - بمرور الزمن- ترتيب البنية الثقافية لتلك المجتمعات اعتمادا على المصادر الفكرية الوضعية التي حلت محل الأفكار الدينية المطلقة واعيد تعريف الدين على اساس كونه العلاقة الخاصة بين الانسان وربه في الوقت الذي لازال الدين يعرف عندنا على انه الدستور الإلهي المطلق الذي يحدد علاقة الفرد بالمجتمع والدولة وليس علاقة الفرد بربه فحسب.

7. الثبات على المباديء من الرجولة

الأفكار بالنسبة للكاتب العراقي مباديء وأحد أهم صفات الرجولة عندنا هوالثبات على المبدأ. لذا فانه-ووفقا لهذا المفهوم- من العيب على الشخص الذي عرف عنه تبنيه لافكار معينة التخلي عنها حتى عند ثبوت عدم فاعليتها. وهذا المبدأ كذلك ينطبق على الديانات وحتى مذاهب الدين الواحد لذلك فانه من النادر ان تسمع عن شخص عربي غير دينه او مذهبه. أذكر انني مرة تحدثت مع مثقف انتمى للحزب الشيوعي العراقي وقد اعترف لي ان ثبت له -بعد عمل اكثر من عشرين سنة مع الحزب- مثالية الافكار الشيوعية الزائدة التي ادت الى تحطمها على بوابة المجتمع الديني المحافط في العراق. لكن أخذت الرجل العزة بالأثم ورفض ان يعترف علنا بعدم ملائمة الافكار الشيوعية للوضع العراقي الراهن متحججا (( ماذا سيقول الناس عني الآن وقد عرفوني مناضلا شيوعيا لعقود خلت؟)).
لقد ذكرت في مقال سابق ان الافكار لدينا تولد لتحيا الى الأبد فهي كالجامع من السهل بناءه لكن لاأحد يجرؤ على تهديمه لتؤدي هذه النزعة بنا بالتالي الى رفض نسبية افكارنا التي اصبحت جزء مكون لشخصياتنا لذا تثور ثائرة كتَابنا اذاما تصدى احد لافكارهم او انتقدها لأن نقد الافكار يفهم على انه محاولة للانتقاص من شخصية أو الحط من قدر الكاتب.


نعيم مرواني
[email protected]