حلم العودة
يشغل مصطلح (العودة) حيزا كبيرا في حياة الإنسان المهاجر، من وطنه الأصل إلى بلد أجنبي، قريب أو بعيد، مسالم أو معاد، فهو يشكل أمله المنشود في الحياة، فيضحي بكل ما أوتي من قوة وفكر ووقت، حتى يجني في المستقبل القريب ثمرات جهده، التي هي الرجوع بسلام إلى وطنه الأب، وقضاء ما تبقي من لحظات عمره في سعة واستغناء عن سؤال الغير! كما أن هاجس العودة هذا لا ينشأ لدى المهاجرين فقط، من جراء ما يعانونه من عزلة واغتراب، أو ما يتعرضون إليه من عنصرية وإجحاف وغير ذلك، بل ثمة قسم كبير ممن اختار الهجرة طواعية، وليس إلى الأبد، وإنما لأجل العمل أو الدراسة أو بسبب الاضطهاد السياسي أو نحو ذلك، وكل أصناف هؤلاء المهاجرين يظل يراودهم حلم العودة إلى أرض أجدادهم، التي ينظرون إليها، وهم بين أحضان الغربة، كأنها الفردوس المفقود! لكن بعد أن يحققوا المطامح التي شدوا رحال الهجرة إليها، وهي إما جمع المال الكافي كما هو الشأن بالنسبة إلى اليد العاملة، أو نيل الشواهد العلمية اللازمة كما هو الأمر لدى الطلبة والباحثين، أو تحسن أوضاع البلدان الأصلية السياسية كما هو الشأن لدى اللاجئين السياسيين.
بيد أنه بعد مضي ما يقارب نصف قرن من الزمن، وتحقق أغلب المطامح المادية والمعنوية التي كان يتمناها المهاجرون الأول، ومن تلاهم من جيل الهجرة الثاني، يبدو أن مصطلح العودة يظل مفعوله السحري يسري في النفوس، لكن على صعيد التنفيذ يبقى محكوما بالنسبية والتردد. ليس لأن المهاجرين لا يفكرون بنفس الإحساس القديم في أوطانهم الأصلية/فراديسهم المفقودة، وإنما لأن السياق تغير، فنشأت تحديات جديدة لم تكن في حسبان، سواء المهاجرين من أصول غير أوروبية، أو الحكومات الغربية الجديدة، فأصبح مطمح الهجرة المعاكسة لا يتحقق، كما كان يعتقد جيل الهجرة الأول والثاني، عبر توفر بعض المال الذي يعين على العيش الكريم في البلدان الأصلية، لأن أغلب المهاجرين القدماء تمكنوا من جمع المال الكافي، وتشييد المنازل الجميلة التي تضاهي المنازل التي يسكنونها في بلاد الغربة، بل وإقامة مختلف المشاريع الاقتصادية، التي تدر عليهم من الأموال أكثر مما يتلقونه في الغرب، إلى درجة أن ثمة قولة مشهورة تتردد على ألسنة الكثير من المهاجرين، وهي: نحن أغنياء في بلداننا، لكن فقراء في المهجر!
قانون العودة في النموذج الهولندي
ترى لماذا يعجز المهاجرون عن تحقيق حلم حياتهم، الذي هو العودة إلى وطنهم الأب، بعد أن تأتت لهم شتى حوافز تلك العودة؟
قبل الشروع في تفكيك هذا السؤال المركب، الذي يعتبر المدخل الأساس إلى فهم جانب كبير من حياة المسلمين في الغرب، نرى أنه من الأهمية بمكان التريث عند الحيثيات القانونية لهذا الملف، لاسيما وأن النموذج الهولندي يطرح لشريحة من المهاجرين إمكانية العودة إلى بلدانهم الأصلية، عن طريق منحهم شتى الإعانات المادية التي تمكنهم من العيش الكريم في وطنهم الأب، ويعود ظهور أول قانون يشجع على عودة المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية، إلى منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، غير أنه كان قانونا أوليا سوف تعمد الدولة الهولندية في شهر أبريل من عام 2000 إلى تعديله، وإدخال بعض التحسينات عليه، فأضحى يتكون من صنفين من المقومات:
1-المقومات الأساسية، وهي عبارة عن تعويضات تعطى مرة واحدة للمهاجر الذي ينوي العودة إلى وطنه، وهي تتعلق بنفقات سفر الأفراد والأمتعة، زيادة على ذلك يتلقى العائد إعانة مادية إضافية أثناء الشهرين الأولين من إقامته الجديدة في بلده، وهي تدعى تعويض على الاستقرار من جديد.
2-مقومات العودة الدائمة، وهي تتضمن راتبا شهريا قارا يتلقاه المعني بالأمر بانتظام، بالإضافة إلى أنه يظل وأسرته طوال حياته مؤمنا من قبل الدولة الهولندية، التي تتكفل بتسديد سائر تكاليف المرض الطارئ أو المزمن.
كما أن القانون الهولندي قام بتحديد أصناف المهاجرين الذين لهم أحقية التمتع بقانون العودة، وهم صنفان، على أن يتعدى سن كل من يزمع العودة إلى وطنه الخامسة والأربعين:
-الصنف الأول: يتعلق بالأشخاص الذين ينحدرون أو ينحدر آباؤهم من دول مثل: تركيا، المغرب، السورينام، اليونان، البرتغال، إسبانيا وغيرها من الدول التي يسري على رعاياها المستقرين في هولندا هذا القانون.
-الصنف الثاني: يرتبط باللاجئين السياسيين الذين يرغبون في العودة إلى بلدانهم الأصلية، أو الذهاب إلى بلدان أخرى، انصب اختيارهم عليها.
وحتى يستفيد الراغبون في العودة من هذه الإمكانيات المتاحة من قبل الدولة الهولندية، يتحتم عليهم التنازل النهائي عن الجنسية الهولندية.
سر فشل فكرة العودة
عود على بدء، حيث طرحنا السؤال المتعلق بسر عجز المهاجرين المغاربة عن تحقيق حلم العودة، في الوقت الذي صاروا يملكون فيه مفاتيح هذه العودة القانونية والمادية.
إن المهاجرين الذين لم ترهبهم يوما ما مغامرة الهجرة إلى الشمال، الذي كان يعتبر آنذاك بمثابة المجهول، لأنهم كانوا لا يعرفون عنه إلا بعض المعلومات النادرة، من مثل أن ثمة عملا وافرا يجعل الإنسان يغتني في ظرف وجيز، وأن الحياة هنالك سهلة لتوفر مستلزمات العيش الرغيد، وأن جو تلك المناطق شديد البرودة، وأن نساء الغرب جميلات وشقراوات... وغير ذلك من نتف الأخبار غير الموثوقة. رغم، إذن، أن صورة الغرب، الذي سوف ُيهاجر إليه، كانت غامضة في أذهان الناس، فإنهم جازفوا بحياتهم من أجل أن يصلوا إلى ضفة المتوسط الشمالية، في مقابل ذلك رغم أن صورة الوطن، الذي يتمنى الكثيرون العودة إليه، تظل واضحة في أذهان الناس، ومستلزمات الاستقرار فيه من جديد، متوفرة، يعجز المهاجرون عن تحقيق هذا المبتغى، الذي هو قاب قوسين أو أدنى من حلم حياتهم الأبدي؛ وهو العودة!
إن السياق العام الجديد الذي ينتظم فيه المهاجرون، تغير تغيرا جذريا عما كان عليه قبل أربعة أو ثلاثة عقود، مما أثر بعمق في عقلية الكثيرين منهم، فصاروا يفكرون بكيفية مغايرة جدا فيما كانوا يخططون له، وهم غرباء وفرادى في بلاد المهجر، لأنه نشأت في السياق الجديد أمور غير متوقعة، وهي في حد ذاتها تشكل تحديات صلدة في وجه كل من يطمح إلى العودة، مما أضفى على مفهوم العودة طابعا إشكاليا، لأنه أصبح من المستحيل لدى عدد كبير من المهاجرين، مجرد التفكير في الرجوع إلى الوطن، فما بالك والممارسة الواقعية لهذا الحلم الصعب، من غير أن تنشأ مخاطر عويصة أكثر إشكالية، كتدمير مؤسسة الأسرة التي أنفق المهاجرون زهرة حياتهم في تشييدها!
وتتجلى أهم التحديات الجديدة التي بدأت تعرقل مشروع العودة، الذي هو حلم أغلب المهاجرين الجنوبيين (ونخص في هذا الصدد اليد العاملة المغربية)، في العناصر الآتية:
-منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي شرع المهاجرون من أصول أفريقية وإسلامية، الذين اختاروا أوروبا الغربية مستقرا لهم، في تكوين مؤسسة الأسرة، وذلك باستغلال قانون التجمع العائلي، الذي يخول لهم الإتيان بأسرهم من البلدان الأصلية، والاستقرار الكامل في الغرب، وترتب عن ذلك ازدياد نسبة اليد العاملة المهاجرة، التي سوف تتمكن في زمن قياسي من أن تشكل تكتلات عائلية متشعبة، تبدأ من الجيل الأول أو جيل الآباء الذين صاروا أجدادا لأحفاد ولدوا في المهاجر، فأصبحوا يمثلون الجيل الثالث أو الأخير، فأضحت العديد من العائلات مستغنية عن فكرة العودة، ولو أن هاجسها يسكنها باستمرار، لاسيما وأنها أصبحت أكثر تجذرا في التربة الغربية، إلى حد أنها غدت لا تملك في الوطن إلا أقارب قلائل من ناحية الجد أو الأب.
-هذه الوضعية التي تبدو، من ناحية أولى، صحية بالنسبة إلى الأجيال التي تربت وولدت في الغرب، تشكل، من ناحية أخرى، تحديا بالنسبة إلى الجيل الأول والثاني اللذين مازالا تربطهما أواصر عائلية وروحية متينة بالوطن، حيث إن ثمة الكثير ممن يفكر بجدية في العودة المؤقتة، عن طريق إقامة مشاريع اقتصادية في بلده الأصلي، يمون بها أسرته التي ينوي في أن تستقر هنالك، في حين يبقى هو يتحرك بين الوطن والمهجر، حتى يتأتى له الاستقرار المادي التام، أو في العودة النهائية، عن طريق استغلال، على سبيل المثال، قانون العودة الذي تسنه الدولة الهولندية منذ أكثر من عقدين، وهو قانون مؤداه أن يرجع المهاجر نهائيا إلى بلده الأصلي، مقابل أن يتلقى تعويضا ماديا شهريا، يقدر بأكثر من 600 يورو، بالإضافة إلى تسهيلات أخرى مثل التنقل بين الوطن وهولندا، والحق في التأمينات وغير ذلك. لكن رغم هذه الإمكانيات السانحة لعودة العديد من المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، فإن ثمة جملة من العوائق التي تحيل دون تحقيق حلم العودة، تأتي على رأسها رفض الكثير من الزوجات لهذه الفكرة، تحت ذريعة مختلف الأسباب الخفية والمعلنة، من مثل أن الأبناء ولدوا وترعرعوا وتعلموا في الغرب، وأنه يصعب إدماجهم من جديد في مجتمعهم الأصلي، وأن أغلب أفراد العائلة، كالوالدين والإخوة والأبناء وغير ذلك، يوجدون في الغرب، وأن إمكانيات العيش الكريم في الوطن قليلة، وأن الزوجات يتمتعن بالحرية الكافية، وأنهن يخفن من أن يتزوج عليهن الزوج مرة ثانية لأن القانون يسمح له بذلك، وغيرها من الذرائع الواهية أو المبررة.
-ثم إن الأبناء الذين يندرجون في بوتقة الجيل الثالث أو الأخير، تلقوا تعليما غربيا، غالبا ما يختلف عن التعليم السائد في البلدان الأصلية، لغة ومنهجية وآفاقا، بل وثمة من البلدان التي لا تجمعها مع المغرب اتفاقيات خاصة بمعادلة الشواهد العلمية، وأحيانا لا يكون هناك تبادل الاعتراف بتلك الشواهد، مثل حالة هولندا على سبيل المثال لا الحصر، مما يعرقل فكرة العودة التي يخطط لها الآباء، فتزداد إشكالية!
-كما أن ثمة قسما لا يستهان به من المهاجرين الذين اختاروا الزواج من الأجانب، سواء من أصل هولندي، أو من أصول مغايرة؛ أفريقية أو أسيوية أو غيرهما، وبعد مضي ردح من الزمن عن هذا الزواج، الذي يشبه المجازفة العمياء حسب ما يحكيه الكثيرون من ضحاياه، بدأت تكتشف عواقبه الوخيمة على الأبناء، وعلى العلاقة بالوطن، فتبدد حلم العودة عند أغلب من قدر عليهم (من النساء خاصة) مثل هذا الزواج!
-وتجدر الإشارة أخيرا كذلك، إلى أن هناك عددا كبيرا من المهاجرين المغاربة، الذين تهيأت لهم كل الإمكانيات المادية والاجتماعية والعائلية للعودة إلى وطنهم، لكن ماانفك يساورهم التردد، وذلك جراء مجموعة من العوامل سواء النفسية، حيث اعتادوا على فكرة أن الحياة في المغرب غير مضمونة، لاسيما لأبنائهم الذين سوف يعانون لا محالة في المستقبل القريب من آفة البطالة، أو الإدارية حيث اعتادوا على العيش في واقع منظم إداريا، يوفر لهم خدمات عالية الجودة، في الإدارة والتعليم والمستشفى وحركة المرور والتأمينات والقطاع الخاص وغير ذلك، يحسون وهم يزورون أوطانهم زيارات قصيرة، أن تلك الخدمات تكاد تنعدم، مما يزرع في نفوسهم الريبة من المغامرة بالعودة النهائية إلى الوطن!
في نهاية المطاف، أود أن أختتم هذا المقال بكلام كنت قد أدليت به في مقدمة كتابي (المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل) وهو: إن الجيل الأول هاجر إلى الغرب بعقلية مسكونه بفكرة جمع المال، والعودة إلى الوطن، لكنه لم يجمع مالا، ولم يعد إلى الوطن! فكانت الضحية هم الأبناء الذين يمثلون الجيل الأخير، الضائع بين ركام الذاكرة وبريق الثقافة الغربية، فماذا يُنتظر من هذا الضائع، إلا ما نجنيه الآن من حماقات مجموعة من الشباب المسلم، الذي يترجّح إما بين أدنى درجة من الإيمان، وهي العصيان الذي لا يخلف إلا انحرافات غير مقبولة شرعا أو منطقا، وإما بين أقصى درجة من الإيمان غير الموجه، وهي الغلو والتطرف الذي لا يسبب كذلك إلا انحرافات غير مقبولة كذلك شرعا أو منطقا، وكلا النموذجين يقدمان صورة مشوهة للإسلام، وقلّما نجد مسلمين يتموقعون وسط هذا المعيار، فينسجون نظرة إسلامية معتدلة غير منساقة، لا إلى أولاء، ولا إلى هؤلاء.
التجاني بولعوالي
كاتب مغربي مقيم بهولندا
رئيس تحرير مجلة الفوانيس الإلكترونية
http://www.tijaniboulaouali.nl
التعليقات