كان الطريق إلى جزيرة السندباد ممتعاً ومسلياً، وكانت بيوت المعقل تفوح منها رائحة الورد الزكية، إذ كان الناس يهتمون بزراعة الورد وخاصة الجوري... ذات مرة خرجنا من المدرسة في اتجاه تلك الجزيرة مشياً على اﻷقدام،وفي الطريق المحاذي لمحطة القطار تجرأ أحدنا وقطع وردةً من الحديقة،فطاردنا فلاح عجوز بسرعة فائقة حتى أمسك بزميلنا الذي شعر بالخوف، وبين الترقب والقلق حسم الفلاح اﻷمر وطلب منه أن يغرس برعماً، حينذاك شعرنا بشيء من الاطمئنان واقتربنا من العم الفلاّح وطلبنا منه أن يعلمنا ماعلم به صديقنا.. استمتعنا بالعمل وراحت أناملنا تغوص في التربة،ثم أخذ الفلاح يشرح لنا علاقته باﻷرض والغرس والنبتة.
تواصلنا في علاقتنا مع العم ونقلنا تجربتنا إلى بيوتنا، وبعد فترة ليست طويلة رأينا البراعم التي غرسناها تحمل ورداً عطراً، ففرحنا كثيراً وصرنا نواطير مخلصين لجهدنا نحرس الورد والغرس.
تغيرت اﻷحوال ومن يغرس الورد الآن يصبح مطلوباً للعدالة، فالورد قد يهدّد أمن الوطن أو يضّر بصحة المدينة، والعصابات المرخصة وغير المرخصة متفرغة لمراقبة من يحاولون إعادة الساعة إلى الوراء، إلى زمن الورد والنخل واﻷعناب.
الورد يمنحنا السلام ويعيد إلى قلوبنا الصفاء.. تعالوا نناضل من أجل زراعة الورد والنخل والشجر..دعونا نعيد الفراشات إلى مدينتنا، فالفراشات لاتعود من دون حدائق.. هيا ياصغار.. البصرة تناديكم واﻷنامل التي تحمل الورد لاترفع كفها الة القتل.
أراد بحارة بصريون أن يقضوا وقت استراحتهم بمنافسة ما، فقرروا اصطياد الطيور التي كانت تحيط بساحل شط العرب، وعندما تقدّم اﻷول وصوّب بندقيته نحو الطيور،فرّت خائفة مذعورة وحلقت بأجنحتها بعيداً،وفي لحظة خوفها وفزعها تذكرت أن حامل البندقية (بصراوي) فعادت وحطت على كتفيه وواحدة على فوهة بندقيته،ﻷن هذه الطيور تعرف جيداً أن بندقية البصراوي محشوة بالسنابل والزهور.. أتساءل الآن..من أبدل ذخيرة الحياة والحب والسلام بذخيرة الموت؟..من أبدل الزهور بالمتفجرات والسنابل بالقنابل؟
عندما تمر بجانب البيوت البصرية تداهم أذنيك أصوات أنين مختلفة اﻷنغام،لكن صوت اﻷم يبقى عالقاً في الذاكرة..أُمّ تردد بصوت تبكي له اﻷرض..صوت يولد من رحم الفجيعة حزناً على ولد فقدته في كبره..تردد في لحظة اغتياله الترديدة نفسها التي رددتها في لحظة ولادته ( صباحك بي صباحين.. صباح اليطرد الشر وصباح الكحل للعين)
ما أصعب أن يحكم البصرة اللصوص ويلوذ بالفرار أصحاب القانون!
البصرة مدينة الحب ولايمكن للحب أن يحيا فيها قبل أن تموت (البطة) ويسكن أصحابها مزابل التاريخ.
جاسب مجيد
التعليقات