الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع وهي الرافد الذي يغذي الحياة ويمدها بالإستمرارية المتمثلة بالأجيال التي تتعاقب فيها وفق نظام يرتضيه الله تعالى وتقبله الإنسانية وهذه النواة لابد أن تكون هي العنوان الذي يمكن أن نستدل به على صلاح ذلك المجتمع أو عدمه بتعبير آخر إذا صلح الآباء والأمهات فإن الجيل الذي يبني أسس الحياة لابد أن تظهر عليه وبه نتائج الصلاح أما في حالة فساد الآباء والأمهات فإن البنيان لا بد أن تكون أركانه آيلة للسقوط ومن هنا نجد الإنحراف الذي يحل بالمجتمع بسبب القدوة غير الصالحة لا سيما الأم التي تتحمل العبء الأكبر من تربية الجيل فلا يمكن لتلك الأم أن ترعى الأبناء وتربيهم التربية الحسنة إذا كانت هي أصلاً لا تتناهى عن فعل القبيح وأما قول النبي ( ص ): من أن [ الجنة تحت أقدام الأمهات ] فلا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه بل يجب تقييده بالأمهات الصالحات المؤمنات لأن الله تعالى يشترط الإيمان في هذا الجانب كما قال: ( والذين آمنوا واُتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) الطور 21. إذاً شرط الإيمان يلقى على عاتق الطرفين، ومن هنا نجد أن الحقوق تترتب على الآباء أنفسهم لأنهم هم الذين يتحملون مسؤولية تربية أبنائهم ثم بعد ذلك فإن الشارع يطالب الأبناء بأداء واجبهم.

أما إذا كان الأب لا يأبه بأبنائه ولا يتيح لهم فرصة اللقاء به أو إرشادهم فلا يمكن أن يطالب الإبن بنوع من البر قبال هذا الأب، نعم القرآن الكريم يشير إلى مصاحبتهم بالمعروف دون الطاعة التي نهى عنها في قوله تعالى: ( ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) العنكبوت 8.

وقد ذهب الكثير من المفسرين عند مرورهم بهذه الآية الكريمة إلى أن الشرك هنا هو أن يجعل الإنسان شريكاً لله في الخلق والتدبير وهذا النوع من الشرك هو الذي يبنى عليه عدم طاعة الوالدين.

وهذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أن للشرك مفهوماً آخر تنطوي تحته معاني لا حصر لها وهذا المفهوم لا نستطيع حصره بالشريك المشابه للخالق جل جلاله، وإنما يمتد إلى مصاديق كثيرة فهو كالبحر فعند سماع الإنسان لهذا اللفظ يتجسد في ذهنه الصورة التي يكون البحر عليها، ولكنه لا يستطيع الإحاطة بذلك البحر وأسراره وما بداخله من مخلوقات. فقد يكون المجهول فيه أكبر من المعلوم. لذلك يقسم الفقهاء الشرك إلى أقسام عديدة من أهمها شرك النية: وهي أن تطيع غير الله في الأمور التي يجب طاعة الله فيها. وشرك آخر: وهو شرك المحبة وهذا النوع من الشرك يجعل الإنسان يعتقد أن حب غير الله أقرب إلى نفسه من حبه تعالى. وكذلك شرك الطاعة: وهي أن تطيع المخلوق في معصية الخالق، وهنالك أنواع عديدة من أنواع الشرك يذكرها الفقهاء ليس محلها البحث الذي خصص لهذا المقال لذلك أعرضنا عنها.

وبالجملة نستطيع القول أن الشرك الذي يدعوا له الوالدان لايعني أن تجعل لله نداً فقط بل يمتد إلى أنواع أخرى وعلى هذا التقدير لا يجب طاعة الآباء والأمهات في كل ما يؤدي إلى معصية الله تعالى. أما إذا كان الأبوان من القسم الذي يجب على الأبناء طاعتهم فهنا لابد من برهما وإلا ترتبت على عدمه العقوبة الإلهية والقرآن الكريم يشير إلى توصية الأبناء في هذا الجانب بقوله
تعالى: ( ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ) الأحقاف 15. وفي هذه الآية الكريمة نجد الحق تبارك وتعالى يوصي الإنسان بوالديه وقد جعل الجزء الأكبر من الوصية عائداً إلى الأم وهذا لا يعني أن الآية تلغي دور الأب وذلك لأن دور الأب واضح ومشاهد من قبل أبنائه كتوفير المأكل والملبس والرعاية في مختلف شؤون الحياة، أما ما يكون من ناحية الأم فإن دورها وما تقدمه لأبنائها من رعاية كل هذا يكون مخفياً وغير معلوم من قبل الأبناء ولا يمكن لأحد غيرها الإطلاع عليه لأن المتاعب تبدأ مع الأم من أول لحظات الحمل إلى جميع مراحل حياة أبنائها فهذه المسؤولية لا يتحملها الأب بقدر ما تتحملها الأم لذلك أكد القرآن الكريم على الإهتمام بالأم وتفصيل مهامها ليلفت أنظارنا إلى الجزء المهم من حياة الإنسان وهو في غفلة عنه. فإن قيل: كيف يخاطب القرآن الكريم الإنسان عند بلوغه الأربعين أن يشكر لوالديه؟

أقول: يخاطب القرآن الكريم الإنسان في هذا العمر لعلمه أن الرعاية الأبوية قد آتت ثمارها لديه أما في حالة فقده تلك الرعاية فإن العملية تكون سالبة باُنتفاء الموضوع. أما في حالة حصول الإبن على الصلاح من جهة أخرى، بما في ذلك المن واللطف الإلهي فهنا يكون الإبن هو المرشد لأبويه وليس العكس كما حصل مع إبراهيم ( ع ) وأبيه آزر، فأول الأعمال التي قام بها إبراهيم إنه دعا أباه إلى نبذ عبادة الأصنام وتوحيد الله تعالى وكان دعائه مقروناً بلين الجانب والتحبب إلى أبيه إلا أن الأب قابل ذلك اللطف بالحماقة والسفاهة فما كان منه إلا أن يقول لإبراهيم كما ذكرت الآية الكريمة: ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنتهي لأرجمنك واُهجرني مليا ً ) مريم 46.

ومع كل ما تقدم من فعل الأب إلا أن إبراهيم خاطبه كما في قوله تعالى: ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ) مريم 47. وكذلك قوله: ( واُغفر لأبي إنه كان من الضالين ) الشعراء 86. وهذا الإستغفار أحدث شبهة كبيرة لدى البعض لبعدهم عن أسرار القرآن الكريم والجواب على ذلك إن الإستغفار للشخص الذي يرجى منه الإيمان جائز شرعاً مهما كان توجه المستغفر له ولكن إذا علم المستغفر أن المستغفر له أصبح من الذين ختم الله على قلوبهم فعندها يجب عليه ترك الإستغفار لأن الأول أصبح في عداد الذين لا فائدة ترجى من إيمانهم كما قال تعالى: ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) التوبة 113. فهنا قد نهاهم تعالى عن الإستغفار بعد أن حصل لديهم العلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم لذلك عقب تعالى بقوله: ( وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) التوبة 114. وهذا يدل على أن وعد إبراهيم لأبيه كان مشروطاً بالإيمان فلما تبين عدائه لله تبرأ منه.

فإن قيل: لقد ورد في الخبر أن النبي ( ص ) قال [ مازلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ] وهذا يدل على أن الأنبياء لم يولدوا إلا من الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة؟ أقول: نعم هذا صحيح ويؤيده قوله تعالى: ( وتقلبك في الساجدين ) الشعراء 219. إلا أن الآيات التي أشارت إلى موقف إبراهيم ( ع ) من أبيه آزر لا تدل على أن المقصود هو الأب الحقيقي لإبراهيم وإنما آزر هو عمه وهنا نحتاج إلى بعض الإطناب في الدليل: هناك مجموعة من الآيات وردت فيها كلمة ( لأبيه ) واحدة منها ليوسف في قوله تعالى: ( إذ قال يوسف لأبيه ) يوسف 4 ولم تذكر الآية أن أباه هو يعقوب ولكن في القرائن الأخرى يتضح ذلك. أما الآيات الأخرى فجميعها ذكرت إبراهيم في قوله: ( وإذ قال إبراهيم لأبيه ) في أكثر من موضع ولم تحدد الآيات إسم الأب إلا آية واحدة فقط ذكرت أن أباه هو آزر في قوله: ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ظلال مبين ) الأنعام 74.

وهذه هي الآية الوحيدة التي ذكرت آزر بالإسم وقد دلت دلالة واضحة على أن آزر هو ليس الأب الفعلي لإبراهيم لأنه عندما نريد الحديث عن الأشياء بطبيعتها الأصلية لا نحتاج إلى قرينة صارفة لأن الأصل يفهم بدون قرائن ولأجل التقريب أضرب لك المثل التالي: عندما يخبرك صديقك أن اليوم مباراة بالكرة بين كذا فريقين فمن الطبيعي سوف يتبادر إلى ذهنك أن المباراة في كرة القدم لأنها الأصل في ألعاب الكرة أما إذا كانت المباراة التي يريد أن يخبرك عنها في كرة السلة فلا بد أن يذكر لك أن المباراة بين الفريقين هي في كرة السلة فهنا لا بد أن يأتي بالقرينة الصارفة لأن الكلام ليس في اللعبة التي هي الأصل في ألعاب الكرة. وهذا المثال على بساطته يصل بنا إلى أن الآية الكريمة عندما أتت بقرينة آزر دلت على أن هذا هو ليس الأب الحقيقي لإبراهيم وإلا لا داعي لذكره بالإسم كما في يوسف. والأب في جميع لغات العالم يطلق على الوالد والعم والجد بنوعيه وزوج الأم أو المربي وكذلك الأب الروحي بل وحتى الأم نفسها لها نصيب من هذه التسمية وهذا العرف جرى في القرآن الكريم أيضاً فإننا نجد القرآن الكريم يطلق لفظ الأب على الوالد والجد كما في قوله: ( واُتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) يوسف 38.

وكذلك يطلق الأب ويريد به العم كما في قوله: ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) البقرة 133. والآية ظاهرة في أن إبراهيم هو الجد ليعقوب وإسحاق والده الفعلي أما إسماعيل فهو العم والآية أطلقت على الجميع آباء فتأمل ذلك.

عبدالله بدر إسكندر المالكي