أعبر بداية عن أسفي الشديد إذا ما جرحت مشاعر الأخ اليساري محمود حافظ من لبنان الذي عقب على مقالتي حول ما يسمى بالحزب الشيوعي اللبناني وأمينه العام خالد حدادة تعقيباً ساخراً وجارحاً في مواضع عديدة. للمصادفة فقط لم أطالع تعقيب السيد حافظ إلا اليوم لأجد نفسي شاكراً للأخ حافظ لأنه سمح لي أن أشرح لليساري حافظ وغير حافظ بعض المفاهيم الماركسية بالغة الأهمية التي يسخر منها أيضاً اليساري حافظ وهو أمر طبيعي حيث المدلول العام لصفة quot;اليساريquot; هو عدم الاسترشاد بماركس. أمانة السيد حافظ التي أقدرها عالياً مثلما أحترم نوازعه في اعتقاد ما يعتقد ومنها السياسات الوطنية رغم بلائها، أمانته اقتضته أن يعترف بأن معرفته في العلوم الماركسية متواضعة ورغم ذلك تجرأ على أن يتنطح ل quot; جهبذ quot; الماركسية كما وصف ساخراً. لا يحق لي تجاهل معلومات السيد حافظ المتواضعة وقد تعلمت التواضع من القائد الشيوعي الأبرز في التاريخ الرفيق ستالين. في تعقيب حافظ ثمان نقاط رئيسية أعلق عليها باختصار شديد..


1)ساق لخاطري الأخ محمود حافظ أن أصبح جهبذاً في الماركسية وأني لأشكره على مثل هذه الخاطرة الجميلة التي لم أرتق ِبعد في العلوم الماركسية ليحق لي أن أتمناها. أخي حافظ، العلوم الماركسية محيط بحاره عالية وقد أبحرت طويلاً فيه وما زلت على الشواطئ. وعلى العموم فأنا أشكرك على السخرية المملوحة من لدنك.


2)أما عن كوني دجالاً تنبأ بانهيار الإتحاد السوفياتي قبل 27 عاماً من انهياره فلعلي أزيدك إنبهاراً وقد كنت قد تنبأت أيضاً بقدوم غورباتشوف في العام 1985 بل وحددت سياساته أيضاً منذ ذلك التاريخ (1963) وهي سياسات خروشتشوف دون رتوش. أعيد الأخ محمود حافظ إلى تقرير خروشتشوف للمؤتمر العام الثاني والعشرين عام 1961 حيث قال : في الثمانينيات سوف يتجاوز مجمل الإنتاج القومي للإتحاد السوفياتي مجمله في الولايات المتحدة محسوباً بحصة الفرد الواحد وفي العام 1990 سيبزغ فجر الشيوعية. تأخر وصول التقرير إلينا في المعتقل زهاء عامين وحالما قرأت تخرصات خروشتشوف حول إلغاء دكتاتورية البروليتاريا ووقف سياسة الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي وهرطقة quot; حكومة الشعب كله quot; صرخت عالياً مستنكراً هرطقات ذلك التحريفي الخطير ورددت مستنكراً بأنه في الثمانينيات سيرتقي أبن لخرشتشوف بالمعمودية سدة الرئاسة في الحزب والدولة السوفيتية وفي العام 1990 سينهار الاتحاد السوفياتي. لقد تم ذلك بصورة عجيبة؛ ولعلمك فقد تشكلت جماعة موسكوفية في العام 1986 كرست غورباتشوف إبناً بالمعمودية لخرشتشوف وفي العام 1990 انهار الاتحاد السوفياتي. موقفي من خروشتشوف أبعدني عن الحزب، وما هو أغرب من نبوءتي هو أن كافة الأحزاب الشيوعية لم تصدر نقداً لخروشتشوف حتى اليوم، بل ما زال معظمها يعتبره مصححاً لعِوج ٍلم يقو على تصحيحة وهذا غباء لا نظير له. وإجمالاً أقول أن من ينصرف لدراسة ماركس يكتسب حسّاً بالتاريخ يفتقده الآخرون.


3)يدعي اليساري محمود حافظ أن قانوناً جديداً للقيمة قد أبتدع وهو ما أنقذ الرأسمالية من مصيرها. يبدو أن السيد حافظ لا يمتلك من علوم الإقتصاد شيئاً، فالقوانين الفاعلة في النظام الإقتصادي لا يتم سبكها عند الحداد. القانون يولد بفعل العلاقات بين الأشياء، بين عناصر الإقتصاد. لكل نظام قوانينه الخاصة به، تولد معه وتنتهي بانتهائه. ليس من قوة تستطيع أن تعدل القانون أو أن تغيره طالما أن هذه القوة من عناصر النظام. نعم هناك بعض الأفاقين الذين ادّعوا أن المعرفة غدت العامل الحدي في تعيين قيمة البضاعة عوضاً عن قوى العمل. وليس هذا إلا من هرطقات طلائعيي الطبقة الوسطى وقد أخذت تفترس الطبقة العاملة بصورة وحشية فاقت وحشية الرأسمالية. الحقيقة التي على العاملين بالشأن العام التوقف عندها بتمعّن هي أنه ليس من مصلحة الذين استبدلوا الماركسية بالسياسات الوطنية البالية أن يعترفوا بأن نظام الإنتاج الرأسمالي قد انهار عالمياً ولم يعد من مفاعيله شيء يذكر لأنهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالموت من خلال تسريحهم من العمل في السياسة. من لديه إلمام بسيط بشروط الإنتاج الرأسمالي عليه أن يعترف بأن الرأسمالية قد أصبحت أثراً بعد عين في مراكزها الكلاسيكية ـ ومن المفيد للسيد محمود حافظ قراءة كتابي quot; جديد الإقتصاد السياسي quot; المنشور في موقعي على الشبكة.


4)السيد حافظ يعمل في السياسة ولا يقرأ ماركس وهذا عين الضلالة. هو يعتبر أن فائض الإنتاج في الإتحاد السوفياتي كان يتحقق من فائض القيمة !! مثل هذا الإفتراض المثير للسخرية لا يفترضه سوى الذين لم يتعلموا المبادئ الأولية للإشتراكية كما حال اليساريين وبعض شيوعيي القشرة من مثل كريم مروه وخالد حداده. العمال السوفييت لم يكونوا عمالاً مأجورين كما في النظام الرأسمالي. كانوا يعملون تطوعاً ويقبضون معاشات من الدولة وليس أجوراً. لم تكن الدولة تحوّل إنتاجهم إلى نقد كما في السوق الرأسمالية كيما تعيّن أجورهم وتحدد quot; فائض القيمة quot;. أما قول حافظ أن الدولة السوفياتية انهارت لكثرة ما أنفقت على الدول الصديقة فهو قول سطحي يفتقر إلى أي عمق. انهار الإتحاد السوفياتي بفعل الصراع الطبقي ما بين البروليتاريا السوفياتية من جهة والطبقة الوسطى يقودها العسكر والفلاحون من جهة أخرى. انتصرت الطبقة الوسطى من خلال الإنقلاب العسكري الذي قام به المارشال جوكوف في حزيران يونيو 1957 لصالح خروشتشوف، ثم كان انتصارها حاسماً من خلال الإنقلاب العسكري في نوفمبر 1964 وطرد خروشتشوف من كافة مناصبه في الحزب والدولة. وهكذا رأينا العسكر يفككون الإتحاد السوفياتي في عامي 90 و 91.


5)أما عما يصفه حافظ بعبادة ماركس فما ذلك إلا تبرير لعدم استرشاد اليساري بماركس. لن أناقش اليساريين، وأنا أتحسس من جميعهم، في مسألة ابتعادهم عن ماركس وهم الخاسرون ؛ لكن أرجو من الأخ حافظ أن يأخذني بحلمه ويتفكر قليلاً عندما أؤكد له بأن الماركسية ما زالت مؤهلة لتفكيك مختلف القضايا مهما كانت صعبة ومقاربتها بوضوح تام. ليس غير ماركس من لا زال قادراً على حل جميع قضايانا الصعبة في مختلف الحقول. لئن اعتبر مني هذا عبادة لماركس فلن أجزع.


6)الخطاب الوطني البالي يتطلب من حافظ، وهو اليساري كما يقول، وغير حافظ من الذين ما فتئوا يعملون بالمسألة الوطنية بعد أن جرى عليها التقادم طويلاً، يتطلب خطابهم أن يتهمونا بالعمالة لأمريكا وليس لليابان أو الصين الشعبية باعتبار أن الإنتاج الرأسمالي في هذين البلدين أوسع منه في الولايات المتحدة. أميركا اليوم ليست بحاجة لعملاء لأن نظامها الإقتصادي المفلس حقاً لا يحتاج إلى عملاء. ما أطلبه من اليساريين والوطنيين أن يتوقفوا عن ترويج الأفيون لشعوبهم. رجال الإكليروس يروجون التدين بين الناس كيلا تشويهم الآلهة بنار جهنم، ويسعى اليساريون والوطنيون سعيهم إذ يروجون المسألة الوطنية بعد أن شبعت موتاً ويتهمون من لا يتقبل دعاواهم بالعمالة لأمريكا. نحن لا نبيع الأفيون عندما نطالب بفهم السياسات الأمريكية الحالية على حقيقتها دون أن يفوتنا أن نشير إلى أن السياسات الأميركية الحالية هي أخطر على مصير البشرية من السياسات الإمبريالية القديمة وهذا يتطلب بالطبع مقاربات مختلفة، عدم الأخذ بها أو التأخر في ذلك إنما هو انتصار للسياسات الأميركية الحالية بالغة الأذى وهو ذات التهمة التي يتهموننا بها.


7)حكاية حزب الله الكاذبة حول العدوان المبيت افتضح أمرها في تقرير لجنة فينوغراد الأول وقد كف بعده حزب الله تماماً عن إدارة اسطوانته الكاذبة. بعد التقرير الثاني عاد حزب الله إلى اسطوانته القديمة مع أن التقرير يقول حول خطة المواجهة الموضوعة والتي من المشترط أن تكون لدى أي دولة في حالة مواجهة جارتها حربياً. وحتى لو بيّتت إسرائيل اجتياحاً للبنان فما كان هذا الاجتياح المزعوم ليقع إلا بعد عملية لحزب الله تتجاوز الخط الأزرق. ثم ما كان فعلاً لم يكن اجتياحاً وقد أعلنت إسرائيل مراراً ذلك لدى بدء الحرب، والقوات التي حاربت حرب تموز لم تكن معدة للاجتياح وهو ما ركز عليه تقرير فينوغراد. أما عن هزيمة إسرائيل المزعومة فنعيد محمود حافظ وخالد حداده وأشباههما قبل وقف الأعمال الحربية بيومين أو ثلاثة وقد ظهر حسن نصرالله على التلفزيون لا يكاد يحبس دموعه يناشد أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة ـ ويقصد السعودية ـ للعمل على إقناع صديقتهم أمريكا بالموافقة على قرار من مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار. صحيح أن إسرائيل لم تستطع أن تقضي على حزب الله كما طلبت أميركا منها ذلك، لكن خسائر لبنان ساوت أضعاف خسائر إسرائيل. ما علينا أن نعترف به في هذا الشأن هو أن حزب الله فصيل من الحرس الثوري الإيراني ينفذ خطط النظام الفارسي المتأسلم في لبنان والمنطقة. إن هذا المشروع الإيراني المتأسلم لهو أخطر مائة مرة من المخطط الصهيوني. كيف نستدل على ذلك ؟ لنسأل العرب في عربستان الإيرانية وعرب الجليل شمال إسرائيل. الفرق بين حالتي العربين هائل وكبير. ففي حين يساق عرب عربستان بالجملة إلى السجن والإعدام يحتل العرب في الجليل 10ِ% من مقاعد الكنيست ويدير أحد العرب جلسات الكنيست في بعض الحالات. وعندما اقترح بعض الصهاينة المتطرفين مبادلة مدينة أم الفحم في إسرائيل بباقة الشرقية من الضفة الغربية كما أذكر قام سكان أم الفحم بمظاهرة رافضين ذلك الإقتراح العنصري مفضلين البقاء جزءاً من إسرائيل على أن يكونوا جزءاً من فلسطين العربية!! عداء الإيرانيين وعملاؤهم المفتعل لإسرائيل يستهدف فقط الغطاء على المشروع الفارسي المتأسلم وهذا لا يسمح للعرب بترتيب صفوفهم لمقاومة المشروع الصهيوني كما يجب وهو بالتالي خدمة لإسرائيل.


8)المناضل خالد حداده ضد الإستعمار. نعم هذا صحيح ونحن ندينه لذلك كما ندين جميع الذين يناضلون ضد الإمبريالية !! لا عجب، فقد كتب ميغيل دي سيرفانتيس مسرحية دونكيشوته في صدر القرن السابع عشر ليسخر من دونكيشوته وهو يحارب طواحين الهواء بسيفه الخشبي في محاولة منه لإعادة نظام الفرسان النبلاء بعد أن انهار في القرن السادس عشر. نحن نسخر من نضال خالد حداده ضد الإمبريالية التي دفنها العالم في السبعينيات. أليس في هذا تضليل للشعب ؟! من المؤسف حقاً أن يتقدم صفوف الحزب الشيوعي اللبناني صاحب التقاليد العريقة في النضال الطبقي أناس لا يفقهون من الماركسية ألفباءها. نقرأ كريم مروّه فنسمع ماركس في قبره متضرعاً ألا يأتي على ذكره البورجوازيون الوضعاء. راهنت مراراً وسأراهن مرة أخرى على أن كريم مروه وخالد حداده وأمثالهما في الحزب الشيوعي اللبناني يجهلون جهلاً مطبقاً كل مفاعيل الاشتراكية الماركسية. يحسبونها العدالة الإجتماعية وماركس كان قد بصق بقوة على مفهوم العدالة الإجتماعية. ألا تستحق الطبقة العاملة اللبنانية أن يقودها نظرياً على الأقل من له إلمام بالعلوم الماركسية ؟!

وأخيراً أرجو أن أكون قد نجحت في شرح ما التبس على أخينا العزيز محمود حافظ وله كل محبتنا.

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01