حالة الانتظار والترقب لما سوف يأتي حولت الإنسان العربي إلى شخصية لا تنجز أعمالها. إنما شخصية سلبية في تعاطيها مع الواقع ومشكلاته. فما إن يمر المراقب العادي بنظرة سريعة على الدول العربية بمختلف أنظمتها ومستواها المعيشي حتى يلاحظ أن التوقف والانتظار سمتان تعبران عن هوية العالم العربي المترهلة بأوضح أشكالها وعلى جميع المستويات. وأن الحكومات والشعوب وكل مظاهر الحياة تتبع عقارب ساعة ليس لها علاقة بعقارب الساعة الزمنية المعروفة التي تكاد تكون في يد كل مواطن عربي مهما كان مركزه وتتوسط أغلب العواصم العربية. هذه الهوية تنم عن يأس وانعدام رغبة في الحياة والإنجاز. وما حقيقة احتلال العالم العربي لذيل قائمة الإبداع والإختراع حول العالم إلا دليلاً على ذلك.

اليأس دفع الجميع باتجاه اتخاذ موقف التطرف من الحياة وحركتها بتبني أقصى ما يمكن للأفكار أن تحتمل والتعبير عنها بسلوكيات متطرفة تخلو من حس العقلانية لدرجة تجعل الشخصية العربية منقسمة على حالها مضطرة على الإنظمام إلى أحد فريقين يعملان ضد بعضهما ولايقبلان بوجود فريق ثالث يلعب دور الوسطية وإن كان الثمن هو الحياة!

الكل يُفصّل يأسه على حسب الحاجة أو الخلفية الفكرية أوالدينية أوالطائفية أوغيرها من الخلفيات التي تركت ترسبات من الصعب إزالتها وعلاج المصابين بدائها بداية من رجل الشارع العادي الذي يقطع طريق يومه مفكراً برغيف الخبز الذي يجلبه لأولاده في آخر النهار ولغاية رأس الهرم المتمثل بالقيادة السياسية العليا. فالفريق الأول يبحث عن الخلاص السريع بكافة أشكاله حتى وإن تشكل أحد وجوه خلاصه على هيئة عمليات شبه انتحارية أو إنتحارية وتفجيرية بالفعل، يذهب ضحيتها من يذهب. وهذه الأزمة مكشوفة للعيان يمكن مشاهدتها على شاشات الإعلام كلما جد منها جديد في شوارع الدم التي تنتشر في العالم كافة أو العالم العربي بشكل خاص، وهي غالباً ما تعتمد على رؤية للحياة من زاوية الإيمان بمقدس أرضي أكثر من كونه إيمان بمقدس سماوي.

أما الفريق الثاني فأزمته التمسك بخيار الإنتظار والترقب إلى أقصى مداه، حتى وإن تشكل أحد وجوهه على أداء حكومي مترهل، أوالإيمان بخرافة تاريخية تتمثل بمخلص يأتي ممتطياً صهوة حصان أبيض يقوم بتغيير الدنيا على اعتبار أنه يتمتع بقوى خارقة ليس لأحد أن يهزمها، ويدور الفلك على تلك الشخصية وتفاصيلها. أزمة هذا الفريق خفية لا يمكن ملاحظتها من خلال عمليات تفجير أو انتحار. لأنها تؤمن بالانتظار فحسب لخلاص سيأتي بهبوط قوة ما ذات يوم لتغيير الواقع. ويعتبر الانتظار خياراً لا يمكن التنازل عنه أو المساس به بل ويضطر بعض من أعضاء ذلك الفريق للتعبير عن انتظاره ذاك بالحديث عن مهدي منتظر سيهبط ذات يوم من تلقاء نفسه أو تأتي به الطبيعة كما تتحدث كتب التراث و بل ويعمل أيضاً على تشكيل جيوش جرارة تنتظر بدورها أيضاً قدوم ذلك المهدي لتباشر القتال والجهاد تحت لوائه.

مسألة الإنتظار هذه ساهمت في تشكيلها بالأساس حقب تاريخية مليئة بالشعور بالإحباط والإنكسار والهزائم وتراث ديني حرفته شخصيات أقل فاعليه في تاريخ الإنسانية من المومياءات الفرعونية. وتجذرت مسألة الانتظار حتى أخذت أشكالاً تتجاوز مسألة ربطها بفكر ديني أوطائفي معين وإنما أصبحت مسألة عامة ومنهجاً أصيل في حياة الإنسان العربي يتشربها منذ بواكير تشكل وعيه بالعالم الخارجي، في بيئته الأسرية ومن ثم يتلقاها كثابت من ثوابت العملية التعليمة بشكل يحدد منهج نشاطه العقلي في حياته اللاحقة. فما إن تغلق على الطالب أبواب الفصل الدراسي حتى يجد نفسه أمام معلمه الذي كاد أن يكون رسولاً quot;والحمد لله أنه لم يكن!!quot; يراقب ساعته ليعرف كم تبعد عنه نهاية الحصة الدراسية. وهنا يجد الطالب نفسه يراقب أيضاً وبشكل لا شعوري نهاية الحصة الدراسية. وتتطور الحالة فيما بعد لتنقسم إلى ثلاثة أنواع من الانتظار تشكل محور اهتماماته، وهي عطلة نهاية الأسبوع وعطلة منتصف العام والعطلة الصيفية.

الإنتحار والإنتظار وجهان لعملة واحدة هي اليأس. وبالتالي عدم الإنجاز. تلك المسألة التي لا تقع ضمن أجندة الإنسان العربي. فاللجان تلد اللجان والحكومات تعيد اجترار اسمائها وبرامجها وخططها التي رسمتها منذ أن تشكلت أول مرة دليلاً على عدم الرغبة في التحرك للأمام والتغير اعتماداً على أن مبدأ التجربة والخطأ هو المبدأ الأول للمعرفة والإصلاح. فواقع العمل الحكومي لا يتغير لأنه ثابت وإن أي محاولة للمساس به يعني التطاول على الدولة وسيادة النظام الذي هو بالأساس مخلوق وهمي من الصعوبة بمكان وزمان عربي أن يرى. هذا بدوره أفرز مواطناً أكثر أنتظاراً ومحملاً بكل أسباب ومبررات الاستياء والتململ مما يحدث.
ماذا تنتظر؟ هو السؤال الأخطر في هذه المسألة كلها. لأنه سؤال لا يقوى الإجابة عليه أحد إن وجهه إلى نفسه مادام يمتهن اليأس والعجز والخوف من المبادرة بالتغيير والاكتفاء بالانتظار بداية من قائد الدولة إلى الوزير إلى الشرطي إلى الطالب والعربة تسير. سقوط مبدأ التجربة والخطأ من عقلية الإنسان العربي أدى إلى ترسخ حالة من الخوف من القادم الجديد وبالتالي رسوخ حالة من الإتكالية والسلبية في اتخاذ القرار ومحاربة الإبداع وعدم الإيمان به والدفاع عن سياسة بقاء الحال على ما هو عليه كخيار استراتيجي لا يجب التنازل عنه.

مالك عبيد