التبدُّل والتحُّول، جزئيَّاً أو كليَّاً، هما منطق الحياة، ونسغ الحراك الساعي للتجدُّد والتغيير. قد يكون لولادة فكرةٍ ما، في لحظة ما، دوراً محوريَّاً ومفصليَّاً في حياة صاحبها، لجهة تعديل أو تغيير تفكيره وسلوكه، من التطرُّف نحو الاعتدال، أو العكس. وقد تسهم الفكرة الوليدة الطازجة في تغيير أفكار أو مزاج أو سلوك أشخاص آخرين، وربما تغيير مجتمعات بأسرها. وخزائن التاريخ مليئة بالأمثلة الدالَّة على ذلك. والتراث الإسلامي يكشف لنا عن تجربة سلمان الفارسي، الذي كان زاردشتيَّاً، ثم صار مسيحيَّاً ثم مسلماً. وحين نشب الخلاف على مسألة الولايَّة، اصطفَّ إلى جانب فريق علي بن أبي طالب، ثم هجره أيضاً، لينتهي به المطاف متصوِّفاً زاهداً. وهذا ما دفع المذهب التوحيدي (الدروز) إيلاء أهميَّة كبرى للصحابي سلمان الفارسي، لكون قوام الانعطافات الحاصلة في تجربته، هو السعي لابتغاء الحقيقة، فاختزل في مشواره، خلاصة أديان عدَّة. وكذا، الإمام الغزالي، الذي يشرح في كتابه quot;المنقذ من الضلال...quot;، رحلته بين الفرق الإسلاميَّة توخيَّاً الحقيقة.
أوروبيَّاً، عصر النهضة والتنوير زاخر بالأسماء التي كانت كنسيَّة، أو ذات منشأ وتربيَّة كنسيَّة، سعت بضراوة للانعتاق من سلطة وسطوة الكنيسة. مروراً بحقبة ما بعد الحرب العالميَّة الأولى، وما كانت تعجُّ به من تيارات ومذاهب فكريَّة وأدبيَّة وفنيَّة غزيرة، وانتقال المثقف فيما بينها، إلى أن يستقرَّ به المآل على أحدها. وبوصولنا للنصف الثاني من القرن العشرين، نلحظ أن الكثير من أقطاب وأنصار اليسار الأوروبي، المدافعين عن الماركسيَّة، وحتى المعجبين بالستالينيَّة، انتهى بهم المطاف إلى الضدِّ منها، كـquot;جان بول سارترquot;. وحاول الأدب الأوروبي ترجمة القلق والسعي الإنساني نحو الحقيقة، عبر المرور بقنوات فكريَّة متعدِّدة، وربما متباينة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، رواية quot;سيدهارتاquot; للألماني هيرمن هسَّه.
بالنظر إلى السلوك والوعي الثقافي الكردي في سورية والعراق، ومقاربته بنظيره العربي، يلحظ المتتبِّع تقاطعات عديدة، تصل في بعضها لحدِّ التماهي، لجهة التأثُّر أو أحياناً التبعيَّة للتجربة العربيَّة. وربما اصطفاف معشر لا بأس به من العلمانيين والعقلانيين واللبراليين العرب خلف داعية ديني _ سياسي معمَّم، يجيد طهي الخُطب، ونثر العطب، واتخاذه رمزاً وبطلاً وبوصلة للنصر والتحرير واستعادة أمجاد الأمَّة...، هي أحد أوجه الرداءة المستشرية والناخرة في أداء النخب العربيَّة. ما يعطي انطباعاً، إن العقل العربي لا زال أسير البلاغات والخطب الناريَّة، التي لا ترى في المجتمعات العربيَّة إلا حطباً ووقوداً للنصر القادم من الغدّ، وإن العدو لن يتمَّ صرعه إلا على جثث مجتمعاتها!. هكذا يخبرنا الراهن العربي، الذي يشي بانزلاق متصاعد نحو الوراء. أمَّا الراهن الكردي، فبعض حيثياته، تشير إلى أنه نسخة أسوأ من جاره العربي، وأن حجم البؤس الثقافي لدى البعض قد وصل لحدِّ التخمة والورم.
يفهم بعض المثقفون الأكراد، التصريحات المتقلِّبة والزئقبيَّة والمتضاربة والمتناقضة للرئيس العراقي، ورئيس الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني، واستهتاره وعدم اكتراثه بمعاناة أكراد تركيا وسورية والعراق، وسعيه لتمتين علاقاته مع نظم هذه الدول التي تضطهد الأكراد...، يفهمونه على أنه حنكة ودهاء وعقلانيَّة وبراغماتيَّة ومن مقتضيات وضرورات quot;فنِّ الممكنquot;!. في حين، أنهم يفهمون تخلِّي أوجلان عن الدولة القوميَّة وتبنِّيه للدولة الوطنيَّة كحل لقضايا الأكراد ضمن الدول التي يتوزَّعون عليها، على أنه انهزام واستسلام وخيانة وتصفية للقضيَّة وهدر للدماء والتضحيات، لإنقاذ نفسه من حبل المشنقة...!. يتفهَّم بعض المثقفون الأكراد الفساد العرمرم الذي يجتاح كردستان العراق، وتورُّط غالبيَّة أقطاب وأوساط الطبقة السياسيَّة فيه، على أنه من بديهيات التجربة الناشئة، التي ينبغي التستُّر والتكتُّم عليها، مخافة أن يستثمر أعداء الكُرد وكردستان، من بعض الشوفينيين الأتراك والفرس والعرب حديث الأكراد عن الفساد، للنيل من التجربة الكرديَّة...، ولا أعلم، لماذا لا يفهمون أن التعامي عن مرض الفساد، وعدم كشف وفضح أقطابه، لا يحصِّن التجربة الكرديَّة، بل يجعلها هشَّة في مواجهة الأخطار الخارجيَّة. وإن هذا السلوك، هو شراكة ضمنيَّة مع أعداء التجربة عليها؟!.
أحد المثقفين الأكراد، غيَّر انتماءه السياسي من الاتحاد الوطني إلى الديموقراطي الكردستاني، وصار وزيراً في إدارة هذا الحزب، لمجرَّد أن الأخير، تكفَّل بدفع ديونه التي خسرها على طاولات القمار في أوروبا، بعد أن تمنَّع حزبه الأول من سدادها، (بحسب مصادر الاتحاد الوطني)، هذا المثقف الرصين والحصيف، يتجهد دوماً، لربط العمال الكردستاني بـquot;القاعدةquot; وquot;أنصار الإسلامquot; والمنظمات الأصوليَّة، دون معطيات أو معلومات، وصولاً للتشويش، والزيادة من منسوب العداء الأمريكي لهذا الحزب. في حين، أن العمال الكردستاني حارب وطرد quot;أنصار الإسلامquot; من المنطقة الحدوديَّة العراقيَّة _ الإيرانيَّة، وأمريكا والاتحاد الوطني يعلمان ذلك، ناهيك إلى أن العمال الكردستاني، حزبٌ علماني يساري، وقد خلقت المخابرات التركيَّة منظمات إسلاميَّة متطرِّفة (حزب الله التركي) لمحاربته في تركيا. والتحليل quot;المنطقيquot; لمثقفنا المذكور، يجيز لجوء الخصم الفكري والعقائدي للتحالف مع قتلته من الإرهاب الأصولي التركي، المخابراتي المنشأ!. ناهيكم عن السعي الدءوب لمثقفنا، بغية نفي الصفة السياسيَّة عن العمال الكردستاني، وإظهاره على أنه معشر من المحاربين الذين لا يفهمون إلا القتل والدمار، وهم قطيع من الجهلة المتآمرين على كردستانه العراقيَّة وعلاقاتها الوطيدة مع الجارة الحنون تركيا!.
مثقف آخر، صاحب هذه السطور، شاهد عيان على تطفُّله على أوساط حزب العمال الكردستاني في سورية ولبنان. ونظراً لفقر الدم الثقافي الذي كان ولا زال يعانيه مثقفنا الجليل، فقد كان كوادر الكردستاني العاملين في حقل الإعلام، ينقِّحون ويصحِّحون مقالاته العربيَّة، وبل يضعون أسمه على حوارات، لم يكن قد أجراها، بطلب منه، كي تصل مقالاته للصحافة اللبنانيَّة، بأقل قدر من الأخطاء اللغويَّة والنحويَّة والإملائيَّة. وبعد أن قدَّم له الكردستاني العون والمساعدة في لبنان، وللكثيرين من أمثاله، وإذ بمثقفنا المذكور، ينفلت به عقال الأمانة وردِّ الجميل، ليبدأ هو أيضاً، وتحت أسماء مستعارة، العزف مع جوقة المشوشين عمداً على العمال الكردستاني، ومعطيات الحال الكرديَّة في تركيا، لجهة الانسجام مع مسعى بعض قادة كردستان العراق الرامي لتحريف الواقع والوقائع، والإساءة للعمال الكردستاني، بشكلٍ أو بآخر، حتَّى ينوبه من الطيَّب الكردستاني العراقي نصيب!.
يبذل بعض المثقفين الأكراد، بخاصة السوريين منهم، تعباً وجهداً كبيراً في البحث عن مبررات للتورُّط الكردي العراقي مع الجيش والحكومة التركيَّة ضد العمال الكردستاني. تماماً، مثلما حاول الكثير من المثقفين العرب تبرير فظائع حرب تموز الإسرائيليَّة على لبنان، وحرب إسرائيل على غزَّة، وربط منشأها بسلاح quot;حزب اللهquot; وصواريخ quot;حماسquot;. لكن الحال العربيَّة تختلف عن جارتها الكرديَّة، لجهة عدم اشتراك بلد عربي أو حزب عربي أو جهة عربيَّة بشكل مباشر في الحرب على لبنان وغزَّة، إلى جانب إسرائيل. حتَّى بعد ما فعله حزب الله مؤخرَّا من غزو صريح لبيروت، وترهيب خصومه السياسيين بسلاحه. في حين، أن أحزاباً وقيادات كرديَّة عراقيَّة شاركت وتشارك إلى جانب الجيش التركي لمحاربة الكردستاني!. وصحيح ان سلاح quot;حزب اللهquot; وquot;حماسquot; أثار لغطاً بين نقد ومدح في الأوساط العربيَّة، مثلما يثير سلاح حزب العمال نوعاً ما، لدى بعض الأكراد، إلا أنه لم نرَ أي زعيم عربي أو مثقف عربي ينجرف بالحقد على quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; نحو الإشادة بأولمرت وبديموقراطيَّه وعقلانيَّته، كما أشاد ويشيد طالباني والكثير من المثقفين الأكراد بأردوغان وديموقراطيَّة أنقرة، ومحاولة إدانة العمال الكردستاني، وتحمليه كلفة الصراع الكردي _ التركي!.
الكثير من النخب السياسيَّة والثقافيَّة الكرديَّة المنزعجة من التمدد الجماهيري للعمال الكردستاني في سورية والعراق، نجدهم يجتهدون في الحديث عن quot;الساحات الرئيسيَّةquot; للنضال الكردي، في إشارة منهم لضرورة حصر نشاط الكردستاني ضمن الحدود التركيَّة، على اعتبار أنه حزب تركي. وربما يتفَّهم المرء بعض هذه الآراء، لجهة أن العمال الكردستاني، وباستقطابه للجماهير الكرديَّة، قد قلَّص وحجَّم أداء الاقطاعات السياسيَّة _ القبليَّة، والخيم السياسيَّة التي تسمِّي نفسها بالأحزاب الكرديَّة في سورية والعراق، وخلق زعامة منافسة لطالباني وبارزاني بين الأكراد، هو أوجلان. في حين أنهم يتغافلون عن حريَّة الناس في تبنِّي الأفكار، وأن جزء هام من قوَّة أفكار أوجلان السابقة والحاليَّة، وتهافت الأكراد عليها، يتأتَّى من هزال وهشاشة وفقر أفكار التي كانت تنتجها الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية والعراق. وعليه، يمكن تفسير لجوء بعض المثقفين الأكراد إلى تحوير بعض الحقائق والمعطيات عن العمال الكردستاني، ومدح العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، والترديد الببغائي لأقوال وتصريحات طالباني في هذا السياق، بأنه ليس حبَّاً بأردوغان، بقدر ما هو كره بأوجلان وحزبه.
والحال هذه، وحين تدخل المنفعة الشخصيَّة الماديَّة والمعنويَّة، في عمليَّة تبدُّل وتقلُّب الأفكار، ودخول الحقد على هذا الخط، يغدو الرأي المضاد لفكرةٍ أو لشخصٍ أو تجربة ما، مع افتقاره للقرينة والبرهان والمعطيات على أرض الواقع، quot;نقداًquot; مُعبِّراً عن الكيد. وليعذرنا فولتير ومريديه، هكذا آراء معطوبة، قد تثير الشفقة والأسف، إلا أنها لا تستحقّ الاحترام، فما بالك التضحية في سبيل التعبير عنها.
هوشنك أوسي
التعليقات