لا شك أن الكثير منا لا زال يحتفظ في ذاكرته بتلك اللقطات المؤثرة التي طافت الدنيا و هّزت مشاعر الملايين. ذالك التسجيل الذي بثته القناة الفرنسية الثانية في يوم كئيب من تاريخ 30 سبتمبر سنة 2000 والذي فضح تجاوزات الجيش الإسرائيلي ووحشيته: إنها الصور الصعبة التي رأينا فيها الطفل محمد الدرّة وهو يستشهد برصاص الجيش الإسرائيلي. لكن كم منا يعلم ما فعله اللّوبي اليهودي بعد هذا التاريخ للتشهير والتحرش بالصحفي الذي أنجز هذا التحقيق و التشكيك في مصداقية هذا التسجيل..؟؟

أصدقاء إسرائيل في فرنسا لم يدعُوا الأمر يمُّر بسلام و كان لا بد لهم أن يشّنوا على قناة ''فرانس 2'' و مراسلها في القدس حملة تشهير وتنكيل لكي يكون عبّرة لغيره ممن يجرِؤ على انتقاد إسرائيل و مهاجمة جيشها. نفسٌ طويل ودعم جهات إسرائيلية وكثير من التحايّل و الخداع أتّت بثمارها أخيراً. فبعد 8 سنوات من المعارك القضائية أصدرت محكمة إستناف باريس حُكمها في أواخر شهر مايو بتبرئة المدعو ''فيليب كرستيني'' مدير موقع ''ميديا غاريتنغ'' من تهمة التشهير التي رفعها عليه الصحفي شارل أندرلان وقناة ''فرانس2''. للتذكير فالمدعو فيليب كرستيني كان قد هاجم قناة ''فرانس 2'' و مراسلها في القدس الصحفي شارل اندلان واتهمه ''بفبركة التحقيق'' الذي نرى فيه الطفل محمد الدّرة و هو يستشهد. قرار المحكمة الذي برأ ''فيليب كرستيني'' يعني بعبارة صريحة أن المدعو وأصدقاءه كانوا على حق عندما شكّكوا في نزاهة الصحافي ومصداقية التّسجيل وأن تهمة ''الفبركة'' معقولة جدا: فالجيش الإسرائيلي أصبح بقدرة قادر هو الضحية... ضحية من..؟ ضحية الإرهابيين الفلسطينيين الذين أخرجوه من هدوءه وجعلوه يطلق الرصّاص على أطفال، فهل يعقل هذا الكلام. !!. و كيف تقبله محكمة موقّرة كمحكمة إستناف باريس..؟؟ وكنا قد قرأنا في صحيفة ''لومند'' نقلا عن أهاريتز(4نوفمبر2000) ومراسلته في رام الله '' أميرة هاس'' حوار مع قنّاص إسرائيلي اعترف فيه بأن الجيش مسموح له بالإطلاق الرصّاص على رأس الأطفال إبتداءاً من 12 سنة....

الثغرة الأولى وُجدت في أكتوبر من سنة 2002 أي سنتين بعد بّث التسجيل، حين ''طلع'' لنا موقع مغمور لا أحد كان يعرفه في المشهد الإعلامي الفرنسي و يُسمي نفسه ''متولا نيوزأجونسي'': ليصرح بكل وقاحة بأن اللّقطات التي بثتها القناة الفرنسية هي تلفيق في تلفيق و أن الطفل محمد الدرّة لم يمت و لا زال حي يرزق. !!..، الموقع لم يقدم أية أدلة على صّحة إدعاءاته، ببساطة لأنه لم تكن هناك أية أدّلة تقدم، لكن الخبر وجد أصداء عند وسائل الإعلام اليهودية الفرنسية التي راحت تتناقله بسرعة البرق وبدأت تنظم حملتها للتشهير بالصحفي الذي فضح انتهاكات الجيش الإسرائيلي، حتى وصل بها الحدّ إلى درجة نظمت فيها تجمع رمزي أمام مقر عمل الصحفي في القناة الثانية لتسلمه كما كانت تقول جائزة ''جوبلز للتعتيم الإعلامي''، بغرض إحراجه و تشويه سمعته. فأين هم هؤلاء و إسرائيل تمارس منذ أكثر من سنتين حصار إعلامي حقيقي على غزة مانعة جميع الصحافيين حتى الإسرائيليين منهم من نقل حقيقة المأساة الإنسانية التي يعيشوها الفلسطينيون....

إلى غاية سنة 2004، بقيت وسائل الإعلام الفرنسية تتفرج دون أن تشارك في النقاش، لكن اللوبي اليهودي ذو اليّد الطولى في الوسط الإعلامي، استطاع أن يستميل إليه صحيفة ''لوفيغارو'' اليمينية التوجه ثم مجلة ''لكسبرس'' اليسارية، اللّتان راحتا تروجان بدورهما لنظرية ''التحقيق المفبرك'' واقعة في فّخ المتلاعبين. حتى أن مجلة ''لكسبرس'' تبّنت الموضوع كقضية وراحت تنشر التحقيق تلو الأخر لإدانة الصحفي والتشكيك في نزاهته المهنية. كما قامت الأطراف الممّولة و المدعومة من طرف اللّوبي اليهودي بالطعن في الحكم مرتين حتى وصلت إلى مبتغاها.
تأثير قرار المحكمة الفرنسية هو بدون شك خطير لأنه يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في نزاهة كل إعلامي حرّ شريف يجرأ على انتقاد إسرائيل. و السابقة بدون شّك هي انتصار للُّوبي اليهودي على حرية الصحافة التي يُراد لها أن تقف عند خطوط حمراء اسمها ''حماية إسرائيل''، و كل ما يحدث لا يمكن أن يفسر إلا على أنه ''مناورة تخويفية'' لكسر شوكة الشرفاء و تذليلهم ورسالة تحذير صّريحة لكل إعلامي وصاحب رأي بالتفكير طويلا قبل مهاجمة إسرائيل. و هو ما يحدث فعلا منذ مدة حيث أن ''الرقابة الذاتية'' التي أصبح يمارسها الإعلاميون على أنفسهم خوفاً من ردود فعل أصدقاء إسرائيل الناقمة قتلت حرية التعبير.. وغَيبت الحقيقة. فلا تحقيقات أصبحت تُبث حول انتهاكات قوات الاحتلال كما كنا نرى، وما عدنا نشاهده في القنوات الفرنسية أصبح لا يتعدى الّلقطات المتّكررةّ لصواريخ ''القسّام'' وهي تسقط على المستوطنات اليهودية، أو مشاهد من الحياة اليومية للفلسطينيين و كأن الوضع ليس فيه لا احتلال و لا كارثة إنسانية و لا موت أطفال ولا هم يحزنون.
اللُّوبي اليهودي أثبت انه ضليع في فن الخداع و المراوغة، بان أسّاء كثيراً لسمعة صحفي شريف، ليس لشيء سوى لأنه جرُأَ على الهجوم على أحد رموز إسرائيل و هو''جيشها''، وهي ليست المرة الأولى التي يتّعرض فيها رجال و نساء شرفاء من المشهد الإعلامي و السياسي لمثل هذه الحملات الشعواء : باسكال بونيفاس الباحث و الصحفي و العضو السابق في الحزب الاشتراكي تعرّض لمثل هذا و أكثر، قاطعته معظم وسائل الإعلام وطُلب منه مغادرة الحزب الاشتراكي لمجرد انه قال أن قضية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن تطرح للنقاش بتوازن أكثر وانحياز أقل لإسرائيل والقائمة تطول. معلومة صغيرة : تعداد يهود فرنسا لا يتجاوز المليونين، مقابل 8 ملايين مسلم و ولكن أحزرُوا من الأكثر نفوذاً بين الاثنين..؟

أنيسة مخالدي
[email protected]