في حديثٍ خاصٍّ له، مؤخراً، على فضائية الحرة(برنامج حديث الخليج) أثار مؤسس وناشر ورئيس تحرير إيلاف الصحفي المعروف عثمان العمير ظاهرة ما تعرف بquot;الكوبوناتquot; المفصلة صدامياً، والتي كان القائمون عليها يقومون بتقبيض المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين ومن لفّ لفهم، quot;مقبوضاتquot; على شكل مبالغ مالية وهدايا وعطايا ومكرمات وهبات quot;منزلةquot; من سماء يديّ القائد، وذلك بهدف ارتشائهم بquot;التي هي أحسنquot;، واستمالة أقلامهم وأصواتهم وقلوبم وعقولهم، وبالتالي التغني، تلميحاً وتصريحاً، بquot;بطولاتquot; القائد، ومغامراته وquot;انتصاراتهquot; وquot;فتوحاتهquot;.
قال العمير في حديثه: quot;إنه مستعد لأن يبادر بإعادة ما أخذه من رئيس النظام السابق والمتمثل بنفقات الإقامة في فندق الرشيد ببغداد والطائرة الخاصة التي أقلته إلى البصرة وأعادته منها بعد إجراء لقاء مع رئيس النظام السابق بصفته كان رئيساً لتحرير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في حينه، داعياً بقية الكتاب والصحافيين العرب إلى إعادة ما قبضوه منه من مبالغ مالية وهدايا عينية، متهماً إياهم بحلب العراقquot;(راديو سوا، 09.06.08).
من المعروف أن رهطاً كبيراً من المعنيين بشئون الحرف وأخوانه وأخواته، كانوا يتلقون كوبونات وأموال تحوّل أو تسلم إليهم عبر القنوات السرية المختصة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أشار رئيس تحرير صحيفة المدى في إحدى مقابلاته مع جريدة الرياض السعودية(25.02.04)، إلى تورط quot;قرابة من 1500 ألف وخمسمائة فرد من المثقفين والصحفيين والسياسيين العرب كانوا يقبضون بشكل منتظم من المخابرات العراقيةquot;.
والأنكى أن القوائم التي نشرت تاريخئذٍ في كلٍّ من جريدة المدى والمؤتمر وجهات إعلامية أخرى، كانت قد كشفت عن أسماء كتاب ومثقفين من الوزن الثقيل، تورطت عراقئذٍ في ارتكابها quot;الميمونquot; لتلك الكوبونات، حيث كانت حصتهم من quot;نعيمها الأخضرquot; محفوظةً في quot;لوحquot; صدام quot;المحفوظquot;!
أسماء أخرى كبيرة مثل الشاعر نزار قباني بقيت برسم السؤال الكبير، وهو الأمر الذي دفع بالزميل د. أحمد أبو مطر إلى البحث في إحدى مقالاته(يا عيب الشوم، القائد الضرورة عاريا!! و كتاب عرب أكثر عريا!) عن جوابٍ ممكن لذاك السؤال الباقي قائلاً: quot;لقد مات نزار قباني، دون أن يجيبنا على هذه الأسئلة((الأسئلة الغير سهلة عن ارتكابات صدام وجرائمه وفظائعه)، ولكن يجب التمعن في جملته الأخيرة ( شكرا لصدام الذي قطّر في عيني اللون الأخضر!! )، وهنا نتذكر قول العرب ( المعنى في بطن الشاعر )quot;.
وإذا كانت quot;كوبونات صدامquot; قد أصبحت في عداد quot;خبر كانquot; أو تاريخاً مضى، يتمنى العمير على مرتكبيه الإحتكام إلى ضمائرهم، ومن ثم quot;الإعتذارquot; للعراق وإعادة ما quot;حلبوهquot; منه إلى أهله، فإنّ هناك في الجهة الأخرى(الكردية) من العراق، راهناً، quot;كوبونات مستنسخةquot; تمنح كردياً، على الطالعة والنازلة، لطوابير أهل الحرف والثقافة والسياسة، بحسب وصفات مستخرجة كردياً سلفاً، بهدف التأسيس لquot;جيشٍquot; من المثقفين quot;العاطلين المعطلينquot;، مهمته أن يقبض ويمسح الجوخ وquot;ينفّذ ولا يعترضquot;، خلافاً لقاعدة كل جيوش العالم التي تقول: quot;نفذ ثم اعترضquot;.
واحدةٌ من الظواهر السلبية الغير قليلة، التي طفت في السنوات الأخيرة، على سطح كردستان العراق المحررة منذ انتفاضة 1991 الآذارية، هي ظاهرة إعادة إنتاج تلك الكوبونات الصدامية كردياً، تحت مسميات ومصطلحات ويافطات جديدة قديمة.
المشرفون(حصرياً من الحزبين) على إدارة شئون تلك الكوبونات، المرخصّون من الفوق الكردي quot;العاليquot; مخوّلون، على ما يبدو، بتشكيل quot;طابور خامس كرديquot;، متخصص في صناعة quot;السكوت الذي من دولارٍ وذهبquot;، والمدائح، والكلام المنفوخ المنفوش، والتقريظات، والتنميقات، والبطولات الهوائية، والمشاريع الوهمية، والتواريخ المقدسة، لإيهام كردستان وأهليها بأن quot;أمورهم تمشي على ما يرامquot;، و quot;كل ما يتمناه المرء في بلاد الكرد يدركهquot;(بعكس ما استشعره العم المتنبي أيام زمان)، وquot;مافي أحسن من هيكquot;.
المقيمون على شئون quot;كوبنةquot;(من الكوبونات) المال الكردي العام، لشراء ذمم وضمائر وأقلام وعقول quot;المثقفين وأهل الحرفquot; المدللين، نجحوا في مسعاهم اللابريء هذا، إلى حدٍّ كبير، ليس على صعيد الداخل الكردستاني والعراقي فحسب وإنما على مستوى خارجهما أيضاً، بما فيه الخارج الحريري هنا في الغرب أيضاً.
فنانون وفنانات، كتاب وكاتبات، شعراء وشاعرات، باحثون وباحثات، كلٌّ يستلم نصيبه المحطوط على الرفّ في الحفظ والصون لقاء quot;الإتقان في تلميع صورة كردستانquot;.
مثقفون وكتاب عرب مثلاً ممّن لم يكتبوا من قبل، حرفاً واحداً، عن تراجيديا الكرد وهجراتهم المليونية، وكيمياء حلبجة، وفرمانات الأنفال وحملاتها السيئة الصيت، أصبحوا بين ليلةٍ وضحاها في quot;الفنادق كردستان الحريريةquot; مختصين في المسألة الكردية، ومحامين عن حقوق الكرد quot;الضائعة المضيّعةquot;، لا بل أن بعضهم أصبحوا بارزانيين أكثر من البارزاني نفسه، وكردستانيين أكثر من البيشمركة الجبل.
بعضٌ آخر من quot;المتكَوبنينquot; الكرد، المتقنين المتخصصين في شئون التصفيق والتنميق، والتدبيج والترويج، ذهبوا أبعد من سكوتهم quot;الذهبيquot;، فراحوا يصيغون quot;النظريات والفرضياتquot; الكبيرة التي لا وجود لها إلا في خيالاتهم المتسكعة على أبواب quot;الدفاتر الخضراءquot;، وطفقوا يمتدحون في هذا القائد الداهية، وذاك الرئيس النابغة، أو ذاك الخالد الذي لن يُعاد، أو تلك السيدة الأولى الأسطورة، وقالوا فيهم، وفي وسائل حياتهم، وطرق تفكيرهم، وquot;بحار علومهمquot;، ما لم يقله مالكٌ في الخمر.
لا شك أنّ التاريخ سيعيد لكلّ ذي حقٍّ حقه، فالخالد سيبقى خالداً، والكبير سيظل كبيراً، والكثير سيدخل إلى القلوب من أوسع أبوابها كثيراً، ولكن الغريب والمؤسف في أمر هؤلاء quot;المتكَوبنينquot;(من الكوبونة)، أو الممطين لصهوة الكوبونات كردياً، هو أنهم ولشطحهم الكثير، يصنعون تاريخاً من كلام، وعلوماً من كلام، وشخصياتٍ من كلام، في كردستانٍ من كلامٍ إلى كلام، لدرجةٍ يشعر المرء وكأنهم يضحكون على ذقون ممدوحيهم في وضح الكلام، قبل الضحك على ذقون القارئ أو السامع أو المشاهد.
مهمة هؤلاء المدّاحين إذن، هي كمهمة الشيطان الذي يسكت عن الخطأ ويمشي، فضلاً عن صناعتهم للكلام الكبير، وتلبيسه لquot;المصطفينquot;، quot;المختارينquot;، من quot;آل الحكمquot;، أو quot;آل المالquot; وصحبهم في كردستان الفساد الراهن.
المتخصصون في شئون quot;الكوبنةquot; الكردية، استحدثوا آليات ووسائل أخرى جديدة لكم الأفواه quot;المثقفةquot; وجعلها quot;افواهاً تحت الطلبquot;. هؤلاء يقومون بإقتطاع أراضي كردستان(عقارات البناء بشكل خاص) المملوكة للحزبين الحاكمين ملكاً مبيناً، ويوزعونها على شكل quot;قسائمquot; على الأنصار، والموالين، والمريدين، والمطبلين، والمزمّرين، أو كلّ من يمكن أن يقدم لهم quot;سكوتاً من ذهبquot; أو quot;كلاماً من حريرquot;.
أما حجتهم في هذا quot;التوزيع الفاحشquot; فهي مستنبطة من الشعارات التي ما عادت تطعم أهل كردستان المحرومين من نعيمها الأخضر خبزاً، وquot;لا تسد لهم رمقاًquot;، كما يُقال.
حجتهم هي أن quot;التراب مقدس، وأرض كردستان المروية بدماء شهدائها المقدسين مقدسة، ووصية الخالدين الأولين الذي حملوا كردستان على أكتافهم أينما حلوا وارتحلوا مقدسة، عليه فالمقدس يجب أن يُعاد إلى أهله من المتنورين الكفوئين المناضلين الغيورين...إلخquot;.
وما أدراكم ما quot;التراب المقدس وما أهله المقدسينquot;!!!
المطلع على تفاصيل آلية quot;توزيع الأرض المقدسةquot;، يعلم جيداً أنها ليست مجرد قطعة أرضٍ عابرة، كما قد يُظن. فقطعة الأرض الواحدة التي تُمنح إلى quot;المثقفين المحرزين المستحقينquot; لدى quot;آل الحزبquot; أو quot;آل الحكمquot; في كردستان الحزبين المالكين لها، تساوي ما قيمته 50 ألف إلى 100 ألف دولار أمريكي أخضر أو أكثر.
والحال أنّ quot;المقدسquot; يوزّع لصناعة المزيد من quot;السكوت المقدسquot; على ارتكابات quot;السلطة وأجهزتها المدنّسةquot;.
هذه quot;العقارات المقدسةquot; توّزع في إطار quot;سياسة الكوبوناتquot;، الموضوعة كردياً، على quot;المثقفين الصانعين للصمت المقدسquot;، في الوقت الذي تشهد فيه كردستان أزمة سكن خانقة، حيث يعيش قرابة الثلثين من سكانها في بيوت الإيجار أو ظروف سكنية سيئة.
والسؤال الباقي هو:
متى ستصحو ضمائر هؤلاء المثقفين quot;المتكوبنينquot; كردياً، المقيمين في quot;سكوتهمquot; المدفوع سلفاً، كي يعتذروا عن quot;كردستان أيام زمانquot; وعن أهلها quot;اعتذار الكبارquot;، وليقولوا كلمتهم ثم يمشون إلى حروفهم وأصواتهم وألوانهم، أو ما بعدها من حياةٍ، ثم أوليس quot;الحياة وقفة عزquot; أو موقف، على حد قول أنطون سعادة؟
إلى متى ستنقاد quot;كردستان المثقفquot; إلى quot;كردستان السياسيquot;، ويسعى أهل الأولى إلى quot;تقديسquot; وquot;تعظيمquot; وquot;تبجيلquot; وquot;تخليدquot; أهل الثانية، أو التستر على عوراتهم السياسية، وارتكاباتهم الشنيعة، وتجاوزاتهم التي تشيب لها الولدان؟
التعليقات