كثيراً ما ينعت القوميون العرب وجود أيَّة دولة كرديَّة، بأنَّها quot;إسرائيل ثانيَّةquot;!. في حين أنَّهم يسعون حثيثاً للتصالح والسلام مع إسرائيل quot;الأولىquot;، عبر مفاوضات سريَّة أو علنيَّة، وصولاً لعقد اتفاقات سلام مع الكيان العبري. يعني، أنَّ حمولة الرفض والكراهيَّة إزاء الدولة الكرديَّة الافتراضيَّة، تتجاوز حمولة الحقد والكراهيَّة للدولة العبريَّة الحقيقيَّة القائمة!. والحقٌّ، إنَّ هذا السلوك ينطوي على ازدواجيَّة صارخة، قلَّ نظيرها في التعاطي مع حقوق الأقليَّات، وبخاصَّة منها الأكراد، فيما يسمَّى بـquot;العالم العربيquot;!. وكثيراً ما يثير بعض النخب السياسيَّة والثقافيَّة العربيَّة علاقة الأكراد بإسرائيل، والدور الإسرائيلي في كردستان العراق، ماضياً وحاضراً، وخطورة هذه العلاقة على الأمن القومي العربي، وحقن وشحن الشارع العربي باتِّجاه العدوانيَّة وتخوين الأكراد!. وحال ذكر العلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، يتكهرب الجانب الكردي مرتعداً، وينفي نفياً قاطعاً وجود أيَّة علاقة بالكيان العبري، وأيَّ دور لإسرائيل في كردستان العراق، ويحاولون بذل قصارى جهدهم في هذا المسعى، ظناً منهم أنَّ التعتيم والتكتُّم على هذه العلاقات ونفيها، ستقرِّبهم أكثر من الشعوب والأنظمة والنخب العربيَّة!. وإن حاول أيُّ كرديّ تسليط الضوء على هذه العلاقات، يوسم من قبل بعض الأحزاب النخب الثقافيَّة الكرديَّة بأشنع التهم، أقلُّها، التخوين، وخدمة أجندة النظم التي تضطهد الأكراد...الخ!. وعليه، فنبش هذا الملفّ، والخوض فيه، مسألة محفوفة بالمخاطر كرديَّاً. وما لم يعد مفهوماً أو مبرراً، هو نفي العلاقة الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، من قبل الأكراد، في حين أنَّ غالبيَّة الدول العربيَّة تبدي استعدادها للسلام مع إسرائيل، وتطرح المبادرات السلميَّة الواحدة تلو الأخرى، ووصلت بعد الدول، مع أصحاب القضيَّة المركزيَّة للأمَّة العربيَّة (الشعب الفلسطيني) لاتفاقيات سلام مع الدولة العبريَّة، وبعض الأول العربيَّة الأخرى، تبحث حثيثاً عن منافذ، توصلها بـquot;تل أبيبquot;!؟.
وبالعودة لتاريخ العلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، نجد أنَّ مندوب الوكالة اليهوديَّة، روفين شيلوا، كان ينشط في بغداد، بحجَّة العمل الصحفي. ووصل هذا، لجبال كردستان، وأقام علاقات مع بعض الأكراد في العراق عام 1931، بخاصَّة مع العائلة البارزانيَّة. إلا أن العرَّاب الحقيقي للعلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، هو الأمير كاميران بدرخان (من أكراد تركيا)، أحد أقطاب العائلة البدرخانيَّة الكرديَّة المعروفة بين الأكراد. حيث التقى بدرخان سرَّاً بشمعون بيريز (نائب وزير الدفاع وقتها) مطلع الستينات. وأشار الكاتب والصحفي اسحاق بن حورين في مقال له، نشر بتاريخ 11/9/1987 في ملحق صحيفة معاريف، إلى العلاقة القوية التي كانت تربط الزعيم الكردي الراحل، الملا مصطفى بارزاني بالإسرائيليين، ووصوله لمطار اللد، عام 1968، وحتى وفاته بمرض السرطان عام 1979 في أمريكا. وأعلن مناحيم بيغن صراحة عام 1980: quot;إنَّ إسرائيل قدَّمت الدعم لبارزاني (الأب)، منذ 1965 ولغاية 1975. وإنه، عبر زياراته المتكررة لإسرائيل، التقى بغولدا مائير وموشي ديان وايغال آلونquot;. وأسهم الموساد بالتعاون مع الـquot;سافاكquot; (المخابرات الإيرانيَّة زمن الشاه)، في تأسيس جهاز المخابرات الكرديَّة الـquot;بارستنquot; برئاسة مسعود بارزاني، والذي ساعد الموساد في تهريب الطيَّار العراقي منير روفا إلى إسرائيل على متن طائرة quot;ميغ 21quot;. كما أن وزيراً إسرائيليَّاً (هو راية لوفا الياف) وصل جبال كردستان العراق عام 1966 لتقديم هديَّة للأكراد، هو مستشفى ميداني. وذكر القيادي الكردي محمود عثمان الذي كان وقتها مستشار وطبيب الملا مصطفى بارزاني ذلك المستشفى الإسرائيلي في سياق حديثه عن العلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة.وفي العام نفسه، ساعد ضباط إسرائيليون القوات الكرديَّة في تحقيق انتصارها على الجيش العراقي عند جبل هندارين. وأثناء حرب حزيران عام 1967، تزايدت المساعدات الإسرائيليَّة للأكراد في العراق. وقناة الاتصال بين الطرفين، كان يعقوب نمرودي، الملحق العسكري الإسرائيلي في طهران حينذاك. وكتب الصحفي الأمريكي جاك أندرسون، quot;أن ممثلاً سريَّاً لإسرائيل كان يتغلغل عبر الجبال في شمال العراق شهريَّاً، منذ منتصف الستينات، لتسليم مصطفى بارزاني مبلغ 50 ألف دولار من إسرائيلquot;. وخلال الستينات قدمت إسرائيل، عبر إيران، أسلحة متقدِّمة لأكراد العراق، خاصة الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات، مصحوبة بمدربين عسكريين إسرائيليين. وتلقَّى مقاتلون أكراد تدريباً عسكريَّاً في إسرائيل. ويقال إن طليعة الزيارات السريَّة لقادة الحزب الديموقراطي الكردستاني لإسرائيل كان رئيس المكتب السياسي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، الراحل إبراهيم أحمد. ثم الملا بارزاني بصحبة محمود عثمان، وفيما بعد مسعود بارزاني وسامي عبدالرحمن وآزاد برواري، وجلال طالباني، في السنوات الأخيرة. ويذكر أن طالباني، وعلى خلفية انشقاقه عن الحزب الديمقراطي الكردستاني سنة 1966، أصدر كرَّاساً، انتقد فيه علاقات الملا بارزاني بإسرائيل. لكنه، وفيما بعد، بدأ الاتصال بإسرائيل
حثَّ الإسرائيليون أكراد العراق على القيام بهجوم عسكري واسع، تزامناً مع حرب أكتوبر سنة 1973 على الجيش العراقي، إلا أن هنري كيسنجر، وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة الأسبق، نصح الأكراد وقتها بعدم القيام بذلك. وحذَّرهم من التعرُّض لهزيمة ثقيلة، إذما شنوا هذا الهجوم. وعمل الأكراد بنصيحة كيسنجر وقتئذ. لكن، نصيحة كيسنجر، كانت خدعة. إذ أنَّ الأمريكيين لم يكونوا يودَّون أنَّ تتعاظم القوَّة العسكريَّة الكرديَّة وقتها أكثر من اللازم. لأنهم، أيّ الأمريكيون، كانوا يعون حجم هشاشة وضعف الجيش العراقي وقتئذ، وإنَّه لن يصمد أمام أي هجوم كردي، وإنَّ الأكراد قد يصلون لبغداد. فتتشابك وتتعقَّد المعادلة الشرق أوسطيَّة أمام الأمريكيين وقتها.
شلومو نكيدمون، وهو أكاديمي إسرائيلي من قسم الدراسات في يديعوت أحرنوت، ذكر أكثر مما تمَّ ذكره أعلاه، عن تفاصيل العلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، مرفقاً بالصور الفتوغرافية والوثائق، في كتابه: quot;الموساد في العراق ودول الجوار وانهيار الأحلام الإسرائيلية والكرديةquot;. ويستند المؤلِّف في معلوماته إلى مقابلات مع رجال الموساد، الذين كلِّفوا بالإشراف على النشاطات في كردستان العراق، وعلى وثائق سريَّة، وتقارير إعلاميَّة، وأرشيفات خاصَّة وعامَّة، ومذكَّرات ورسائل كتبها مستشارون إسرائيليون، أثناء تواجدهم في كردستان. ويضمُّ الكتاب 31 فصلاً تشمل، تغطية لوقائع وأحداث ومعلومات عن الحركة الكرديَّة (الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مصطفى بارزاني تحديداً)، وعلاقاتها مع الموساد. ويصف المؤلِّف اتفاقيَّة الجزائر في آذار 1975 بين شان إيران والنظام العراقي، والتي بموجبها تخلَّى الشاه عن دعم الثورة الكرديَّة، في مقابل أن يتخلَّى العراق عن شطّ العرب لإيران، وصف تلك الاتفاقيَّة، بأنها: quot;ملك الموت الذي قبض على روح العلاقة الكرديَّة ndash; الإسرائيليَّة التي دامت 12 عاماً، واتَّسمت بالتعاون المكثَّف. كان خلالها الملا مصطفى بارزاني يقود التمرُّد ضدَّ الحكومات العراقيَّة مستعيناً بالمستشارين الإسرائيليين الذين لم يفارقوه، أو يفارقوا معسكره، طيلة تلك السنوات./ ص 8quot;. ويتطرَّق الكاتب إلى محاولات اغتيال الملا مصطفى بارزاني، ومنها، حادثة يوم 29 أيلول 1971 في حاج عمران، بسيارة مفخخة، تقلُّ تسعة من رجال الدين، أرسلوا من بغداد لمقرِّ الملا مصطفى، على أساس أنهم يحملون رسالة من القيادة العراقيَّة بشأن اتفاق 11 آذار 1970. ذاكراً: quot;أنَّه كان مع الملا مصطفى وقتئذ، اثنين من الموساد الإسرائيلي هما: تسفيز مير وناحوم أدمونيquot;.
كما تطرَّق الكاتب والباحث العراقي صلاح الخرسان في كتابه الهام: (quot;التيارات السياسيَّة في كردستان العراق/ قراءة في ملفَّات الحركات والأحزاب الكرديَّة في العراق 1946 _ 2001quot;. مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع / الطبعة الأولى 2001 بيروت)، إلى العلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة، في فصل كامل، عنوانه quot;العلاقة مع الدولة العبريَّةquot;، وذكر فيه: quot;إن علاقة الثورة الكرديَّة مع إسرائيل، لم تكن علاقة شخصيَّة. وإنما كانت علاقة حركة بأكملها بإسرائيل. فالمكتب السياسي هو الذي تحمَّل مسؤوليَّة تلك العلاقةquot; / ص 155. وذكر الخرسان، جزءاً من رسالة قد أرسلها الملا مصطفى بارزاني إلى إسرائيل، جاء فيها: quot;لقد وعدت العديد من الجهات بتزويدنا بالأسلحة، لكنها لم تفعل. إلا إسرائيل، فقد وعدت ووفتquot; / ص 158. وأكدَّ الخرسان، دور الموساد في تأسيس المخابرات الكرديَّة الـquot;باراستنquot;، وأشار إلى أن رئيس هذا الجهاز، مسعود بارزاني قد: خضع لدورات تدريبيَّة مكثَّفة في كردستان وإسرائيلquot; / ص 160. ويذكر الخرسان بأن أمر افتضاح العلاقة الكرديَّة الإسرائيليَّة لدى النظام العراقي السابق، قد تمَّ: quot;بعد التحاق عدد من كبار المسؤولين في الثورة الكرديَّة والحزب الديمقراطي الكردستاني بالجناب الحكومي (العراقي)، بمن فيهم نجل املا مصطفى بارازني، عبيدالله بارزاني. الذي قال للصحفي المصري محمد حسنين هيكل: إن الإسرائيليين الذين كانوا مرافقين دائمين لأبي، كانوا يتصلون بإسرائيل، بجهاز لاسلكي، بصورة دائمة. ويقومون بأعمال تجسس في العراقquot; / ص 160.
وأشارت تقارير صحفيَّة عديدة مؤخَّراً إلى تنامي الدور الإسرائيلي الاستخباري والاقتصادي في العراق عموماً وفي كردستان العراق على وجه الخصوص. في حين تنفي الجهات الكرديَّة بشكل قاطع صحَّة هذه التقارير. لكن، إذا كان العراق وكردستانه، قد تحولا لساحة مفتوحة لأجهزة المخابرات الأمريكيَّة والبريطانيَّة والروسيَّة والتركيَّة والإيرانيَّة والسوريَّة والعربيَّة...، فهل سيبقى الموساد متفرِّجاً؟!. خاصَّة، إن كردستان العراق تطلُّ على دولتين، هما في quot;حالة حربquot; مع إسرائيل، وهما سورية وإيران!.
على الطرف الآخر، تشارك إسرائيل تركيا، وعبر الاتفاقات الأمنيَّة المعقودة بين الطرفين، في محاربة أكراد تركيا منذ مطلع الثمانينات وحتى الآن. والبيانات والتصريحات الأخيرة لحزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان، تشير إلى الدور الإسرائيلي النشط والفعَّال في الاجتياح التركي الأخير على معاقل الكردستاني شمال العراق، والهجمات الجويَّة والتمشيطات العسكريَّة التركيَّة جنوب شرق تركيا، واستخدام الأخيرة، لطائرات هيرون الإسرائيليَّة التجسسيَّة في هذا المسعى. ويعود عداء إسرائيل لأكراد تركيا، وبخاصة العمال الكردستاني لعدَّة أسباب، منها:
لكونه حزبا يساريا، وقف مع الحركة الفلسطينيَّة ضد الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 1982، وسقط منه وقتها 12 قتيل، والعديد من الجرحى والأسرى. وتشهد بعض الفصائل الفلسطينيَّة لمقاومات قلعة شقيف التي أبداها مقاتلوا العمال الكردستاني.
1.كان هذا الحزب على علاقة بالنظام السوري والإيراني حتى عام 1998، بعد خروج أوجلان من دمشق، على خلفيَّة التوقيع على اتفاقيَّة أضنا الأمنيَّة بين سورية وتركيا.
2.رفض أوجلان استثمار الحضور التنظيمي والجماهيري الواسع لحزبه في كل من إيران وسورية لخدمة الأجندة الإسرائيليَّة.
3.إرهاق واستنزاف العمال الكردستاني بكفاحه، للحليف الاستراتيجي والتاريخي لإسرائيل، وهو تركيا.
مجمل ما سلف، أدخل أوجلان وحزبه في خانة أعداء إسرائيل وأمريكا. وهذا ما يفسِّر اشتراك الموساد في اختطاف أوجلان من نيروبي وتسليمه لأنقرة. والمساعدات الاستخباريَّة والعسكريَّة غير المحدودة التي تقدمها إسرائيل لتركيا في حربها الحاليَّة على العمال الكردستاني. وكشفت بعض التقارير أن إسرائيل وبتسهيلات مقدَّمة من حزب العدالة والتنميَّة الحاكم في تركيا، قامت بشراء مساحات واسعة من الأراضي في المناطق الكرديَّة، جنوب شرق تركيا، خاصَّة في باطمان ودياربكر وبسمل، بأضعاف ثمنها. وهذا أمرٌ خطير جداً.
على ضوء ما سلف، كانت علاقة إسرائيل بأكراد العراق، علاقة استخباريَّة، استثماريَّة بحتة، ولم تصل للأطر السياسيَّة والشراكة التي يتخوَّف منها العرب. وبديهي أن هكذا علاقات، لن تكون لسواد عيون الأكراد، وهنالك مقابل قدَّمه الأكراد لإسرائيل. لكن، ماذا جنا الأكراد لقاء خدماتهم لإسرائيل حتَّى يومنا هذا؟. لا شيء!. يعني، لم يستطع الأكراد ضبط العلاقة مع إسرائيل وحتَّى مع أمريكا، بحيث تنتج ثمار سياسيَّة حقيقيَّة. وهل يُعتبر أكراد العراق زواج نجل الرئيس العراقي جلال طالباني، وممثل حكومة إقليم كردستان في واشنطن، قباد طالباني، قبل فترة، من ابنة أحد أقطاب اللوبي اليهودي في أمريكا، (وهو من مليارديَّة أمريكا)، إحدى الثمار السياسيَّة للعلاقات الكرديَّة _ الإسرائيليَّة؟. هذا ما يجب البحث عن إجابة له، بعد الاعتراف الصريح عن هذه العلاقات والتنقيب فيها، وحساب حصيلة الخسائر والأرباح الكرديَّة منها. قصارى القول: إنَّ كردستان العراق، وما تحقق فيها للأكراد، ليس من منجزات العلاقة الكرديَّة _ الإسرائيليَّة كما يتوهَّم العرب، وليس مطلوباً من الأكراد أن يكونوا عرباً أكثر من العرب في علاقتهم مع إسرائيل، في حين لم يجد الأكراد من الحكومات العربيَّة في العراق وسورية، سوى التهميش والإقصاء والاستبداد وهضم الحقوق، وحروب الإبادة الحمراء والبيضاء!. وعليه، آن للكرد أن يكشفوا للعلن طبيعة علاقتهم مع الدولة العبريَّة، وإجراء مراجعة نقديَّة لها، في مسعى إخراجها من الطور الاستثماري الإسرائيلي، إلى طور النديَّة، وتكافؤ المصالح، كما يفعل العرب.
هوشنك أوسي
التعليقات