وعليها لكي تكون حرة!!
قبل أن تنقل إلينا وكالات الأنباء مؤخراً خبر إغلاق قناة الحرة ثم القول بالإبقاء عليها، تعرضت القناة الأمريكية التي أطلقتها وزارة الخارجية في شهر فبراير عام 2004 ضمن توجهات ما أطلق عليه quot; الدبلوماسية العامة quot;، لانتقادات لاذعة وعنيفة في واحدة من جلسات الاستماع التي عقدها الكونجرس ndash; مايو 2007 - لأنها من وجهة نظر لجنة علاقاته الخارجية quot; تحولت إلي بوق للمتطرفين الإسلاميين quot; بعد أن نقلت علي الهواء مباشرة جزءاً كبيراً من خطاب للسيد حسن نصر الله وسمحت للسيد إسماعيل هنية بمناقشة مشاكل حكومته علناً وغطت مؤتمراً عقد في طهران أنكر المحرقة ( الهولوكوست ) التي تعرض لها اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي..
وزارة الخارجية الأمريكية التي تبنت quot; دبلوماسيتها العامة quot; معركة كسب عقول النخب العربية وقلوب مجتمعاتها من خلال إطلاق إذاعة quot; سوا quot; ومجلة quot; هاى quot; وفضائية quot; الحرة quot; ضمن فلسفة تحسين الصورة الأمريكية، لن تغلق القناة ولكنها سَتَُعدل من فلسفة إدارتها بعد أن اكتشف المسئولون عن متابعة نشاطاتها الإعلامية والإخبارية أنها بعد هذه السنوات وبعد نفقات بلغت نحو 350 مليون دولار لم تستطع أن تحقق رسالتها أو تفي بالمطلوب منها أو حتي تنافس الفضائيات العربية الجاذبة للمشاهد العربي في الشرق الأوسط وفي دول المهجر..
كان المطلوب من القناة أن تعمل علي توسيع أفق المشاهد العربي وأن توفر له فرصة ليتمكن من تكوين آراء غير متحيزة ضد واشنطن وان يبني قراراته علي معلومات مستمدة مما توفره له برامجها وخدماتها الإعلامية من معلومات ومؤشرات.. وذلك باستخدام quot; القوة الناعمة Soft Power quot; التى تركز علي نشر قيم العدل والحرية والديموقراطية وتحض علي نبذ العنف ونشر ثقافة السلام بهدف خلق دوائر التقاء وتفاهم بين الشعب الأمريكي والشعوب العربية، ولكنها فشلت..
فشلت أدوات الدبلوماسية الناعمة في تحقيق هذه الأهداف جميعا، مما إدي إلي إغلاق quot; مجله سوا quot; الشبابية.. لكن ما يعنينا هنا فشل فضائية الحرة الذي نرجعه ndash; من وجهة نظرنا - إلي أسباب كثيرة منها :
1 - أنها لم تعتمد المهنية منذ اليوم البداية وفتح مديروها أبواب المحسوبية أمام العدد الأكبر من العاملين فيها دون حد أدني من الكفاءة والخبرة..
2 ndash; أن ميزانيتها لم تكن مستقلة عن صانع القرار الأمريكي، وهذا عيب طالما وصفت به الجهات الأمريكية المختصة كافة المحطات التليفزيونية العربية والبعض من فضائياتها..
3 ndash; أنها حصرت نفسها في خدمة الولاء الأعمي للسياسات الأمريكية، بينما كان في مقدورها أن تكون موصلاً جيداً لما يدور في فكر النخب العربية ولما تتحدث بها مجتمعاتها بما يعود علي سياساتها بالايجابيات التي تحتاج إليه الولايات المتحدة لتحسين صورتها..
قطاع الدبلوماسية العامة بوزارة الخارجية الأمريكية فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه منذ تولت إدارته السفيرة شارلوت بيرز في فبراير 2003 وحتى وقت قريب حين اعتذرت عن متابعة تحمل مسئولياته الأخصائية دينا باول، لأن الدبلوماسية الخرقاء للإدارة الأمريكية لا ينفع معها قناة فضائية تمثل دور الببغاء وتعرض البالي من المبررات والحجج الواهية التي يُصدع بها سياسيو واشنطن أدمغة مشاهديها !!..
فكيف يتسنى لها أن تكون حرة وهي لا تملك التحرر من قيود انتظار الدعم المالي الشهري الذي يُسير أمورها ويُمول برامجها؟.. كيف يتحقق لها أن تكون مُدخلاً لإقناع المشاهد العربي بتميزها وامتلاكها لمفاتيح التفوق، والقائمون عليها ينفذون ما يملي عليهم دون تفكير أو إرادة؟.. كيف تكون حرة وهي لا تملك حق تقديم مقترحات من واقع تقيم القائمين علي أمرها لمؤشرات النجاح والفشل في ضوء المتابعة الدورية التي تأخذ بها القنوات الفضائية حديثة العهد والتي لا تتعدي ميزانيتها بضعة ملايين تعد علي أصابع اليدين؟؟..
العيب ليس في مجلس إدارة الحرة سواء كان علي رأسه عربي متجنس بالجنسية الأمريكية أو كان أحد كبار الإعلاميين السابقين في قناة CNN.. العيب كل العيب في فهم الإدارة الأمريكية للمجتمعات العربية التي تراها عبر منظار المحافظين الجدد الذين يَميل أغلبهم لتأييد السياسات الإسرائيلية علي حساب الواقع العربي ومن ثم يروجون لبرامج دعائية وإعلامية أضرت أبلغ الضرر بعلاقات إدارة الرئيس جورج دبيلو بوش الابن بمعظم نظم الحكم العربية.. العيب كل العيب في استجابة الأجهزة الأمريكية التي تتعامل مع الدول العربية لما يقترحه عليها أقطاب هذا التيار الذي لا مثيل له علي مستوى علاقات الأجهزة المشابهة بدول أمريكا اللاتينية أو بالصين أو بروسيا أو بدول الاتحاد الأوربي..
عندما قررت الإدارة الأمريكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تحمل عبء إعادة بناء أوربا، حرصت أولا علي ترجمة طبيعة وشائج الاقتصاد والثقافة التي كانت تجمع بينها وبين شعوبها إلي برامج تتفق مع الواقع المعاش رغم حالة التدهور التي كانت تعاني منها الدول المتضررة والمهزومة في آن واحد.. وعملت ثانيا علي توسيع دوائر التلاقي بين الشعب الأمريكي والمجتمعات الأوربية بعيداً عن حساسية المانح والممول في مقابل المتلقي والمحتاج.. وعمدت ثالثاً إلي استيعاب ردود فعل نخب هذه الدول ومجتمعاتها بكل أطيافهم السياسية وألوانهم الاجتماعية والثقافية، وطرحت ذلك ضمن برامجها التي رفعت شعار التفاهم والتعاضد وفق رؤية كل الأطراف من أجل quot; عالم يسوده السلام والاستقرار quot;..
أما علي المستوي العربي فهي رغم تعاملها مع معظم عواصمه علي امتداد السبعين عام الأخيرة، إلا أنها ndash; مع اعترافنا بعدم وجود وجه للمقارنة ndash; لم تحاول فهم طبيعة هذه الشعوب وتستغرب في نفس الوقت لماذا يكرهونها بعد كل ما أشاعت أنها فعلته من أجلهم !! واشنطن تتعامل مع الشعوب العربية سواء من خلال وسائل القوة الصلبة Hard Power أو عبر قنوات القوة الناعمةSoft Power بغطرسة غير مبررة وبقسوة لا تمارسها مع شعوب أخري، تحت شعار فرض الأمر الواقع.. وفي كثير من الأحيان لا تواصل مسيرة الدفاع عن حقوق الإنسان إلي آخر المدى ولا تَدفع نحو الإصلاح الاقتصادي والسياسي بنفس الوتيرة التي بدأت بها..
فضائية الحرة لم تكن حرة، ولكي تكون عليها:
أولا ان تستخلص من يد الممول حق مجلس إدارتها في صياغة التوليفة الملائمة لعملها وذلك بالفصل بين الدولار الأخضر والفكر التنويري الحر.. الدولار الأخضر يسدد تكاليف تحسين صورته، والفكر التنويري ينهج ما يراه مناسباً في هذا الخصوص..
وثانيا أن تغير كلية من خريطة برامجها السياسية والاجتماعية والثقافية لكي تكون نافذة مصداقية للمشاهد العربي وأيضاً للمسئولين في واشنطن سواء كانوا تنفيذيين أو أعضاء في الكونجرس أو خبراء ومتخصصون، عن طريق :
-أن تعرض أخبار الإدارة الأمريكية بحيدة ودون تلوين، وتترك للأطراف الأخرى مناقشة المسئولين بحرية وأن تسمح لهم بنقد ما يرونه مستحقاً للنقد والمساءلة..
- أن تفسح شاشتها لعرض وجهات النظر العربية quot; المعتدلة quot; المؤيدة والمعارضة لسياسات واشنطن وأن تسمع منهم للبدائل التي يطرحونها في هذا الخصوص..
-أن تنزل إلي الشارع كلما استلزم منها الموقف الإخباري أو الخدمة الإعلامية ذلك، ليس فقط لجمع الأصوات المؤيدة للسياسات الأمريكية ولكن أيضا تلك التي تنقدها وتعترض عليها بمنطق الفاهم والواعي..
- أن تتحاور مع الإنسان العربي البسيط حول رؤيته للسياسات الأمريكية في المنطقة وان تعرض أفكاره التلقائية بلا تزييف وبلا إقصاء..
- أن تمد جسورها إلي كل الأطراف والتيارات في المنطقة، آخذة علي عاتقها مسئولية تعريف المسئولين التنفيذيين والتشريعيين بالحقيقة ضمن إطار بيئتها التي نمت فيها وترعرعت مهما كانت بدائيتها !!..
وعليها أخيراً أن تعرف أن تحسين صورة أمريكا التي ترسخ قبحها وسلبياتها في كل أركان الوطن العربي، لن تمحي بين يوم وليلة وأنها ستقابل بكثير من المقاومة من ناحية.. وأن هذا التحسين مرتبط اشد الارتباط من ناحية أخري بمنهج علاقات الإدارة الأمريكية الخارجية بالمجتمعات التي تتوجه إليهم في إعلامها المباشر وغير المباشر، لذلك يتحتم عليها أن تتيقن أنها ومجلس إدارتها يحظون بمكانة متقدمة في سلم إقناع المسئولين بحقيقة أوضاع المجتمعات العربية واحتياجاتهم وتطلعاتهم عن طريق باقة متنوعة من البرامج الحوارية والخدمات الإعلامية القادرة علي جذب ملايين المشاهدين لأنها مؤسسة علي المهنية والشفافية والمصداقية..
الدكتور حسن عبد ربه المصري
bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]
\
التعليقات