يعتبر الشيخ عبد الحميد المهاجر من أبرز خطباء المنبر الحسيني في ربع القرن الأخير. فوق ذلك كانت هنالك توقعات قبل عشرين عاما ً ونيـّف ndash; خصوصا ً عندنا في العراق ndash; بأن يتحرك هذا الخطيب المفوّه إلى موقع الصدارة الأول، متجاوزا ً الخطيب الشهير الشيخ أحمد الوائلي أو موازيا ً له على الأقل في موقع مماثل، مع تسجيل نقطة إضافية لصالح المهاجر الداعي الصريح ndash; حينذاك ndash; إلى التغيير في مقابل المدرسة التقليدية المحافظة للمرحوم الوائلي. لكن الخطوة الواحدة الأولى لم تكن كافية كما يبدو لإتمام مسيرة الألف ميل!
قناتا quot; الأنوار quot; و quot; الزهراء quot; الفضائيتان أتاحتا لي عبر متابعة برامجهما المتقولبة والمتخشبة في نمط منبري ثابت لايتغير في عصر الصورة الأخاذة والدراما الصاعقة والقصيدة المحشـّدة، إجراء مقارنة سريعة بين quot; مهاجرين quot; ؛ مهاجر التغيير قبل ربع قرن، ذلك الذي صاغته الأنامل المعنوية البارعة للسيد محمد الشيرازي منذ نعومة أظفاره، وأطلقته في ساحات الفعل والتغيير كما أطلقت عشرات أو مئات التغييريين الذين انتشروا في اصقاع الدنيا لنكون كما نحن الآن : رقما صعبا ً لايقبل القسمة ولا النصيب الذي يشاؤه الآخرون، ووجودا ً حيا ً بعشرات التمظهرات من طنجة إلى جاكارتا وما وراء أوقيانيا والأطلسي. ومهاجر الإرضاء الجماهيري الحالي، ولو عبر الروايات الكسيحة والأحادية وبعض الخزعبلات!
كل الشعوب تقريبا ً مرّ بهذا الإنكفاء والتردّي. فإيران الثورة مثلا ً كان أبرز مثال فيها إذاعتها العربية. إذ قيل عقب نهاية الحرب العراقية الإيرانية وصعود نجم الرفسنجانية الداعية إلى الرفاه الغربي وإن من خلال بوابة البنك وصندوق النقد الدوليين إن إذاعة كانت ذات يوم ٍ من تلك الأيام الخمينية الكبرى تعلـّم الثوار فلسفة التغيير ( ولا أقول صنع العبوات الناسفة تحاشيا ً لتهمة الإرهاب ) إنكفأت وارتكست وانقلبت على عقبيها مكتفية بدور تعليم ربات البيوت quot; صناعة quot; الدولمة والفسنجون!
من أين تأتي هذه الانكفاءات ومن يفلسف لها وينظـّر؟
يعزو بعض الآراء ndash; التي قد نقبلها وقد نرفضها ndash; علـّة مغادرة المنبر الحسيني وعموم النشاط الخطابي الشيعي موقعه التغييري الذي شهدناه قبل ربع قرن أو أكثر قليلا ً خصوصا ً إثر الحراك الهائل الذي حفـّزه في نفوس المتلقـّين بموازاة الخميني والشيرازي، الشهيد السيد محمد باقر الصدر إلى سيادة المنطق الذرائعي أو لنقل المصلحي او الإنتهازي الذي يحاول ممالأة الجمهور ومسايرة السلطة معا ً حفاظا ً على مصالحه الجارية من بين يدي الجهتين، فضلا ً عن تجنـّب سخط الأخيرة الذي يعني الكثير من المخاطر. ويتضح حجم هذا الأمر من خلال ملاحظة عزوف العديد من الخطباء والوعاظ عن الحديث الصريح عن مشاكل الحاضر ومعضلات العصر وتفضيلهم الإنكفاء نحو الماضي وجميع عوامل الشحن العاطفي فيه وكأنهم يشبهون في ذلك المسار الدراما السورية الخائفة من المساءلة الحكومية أو الحزبية و التي تلقي كل مشاكل الدنيا ومساوئها على عاتق الدولة العثمانية أو الإستعمار الفرنسي فحسب أو تفضـّل الهروب إلى القرى النائية أو الفنتازيا التاريخية للخلاص من شرور الحاكم المستبد وقواه الأمنية المرعبة!
لقد أصبح الخطيب والواعظ الحسيني وغيره يفكـّر بالفيزا التي يمكن أن تمتنع هذه السلطة أو تلك عن منحها له لدخول بلادها، وبحجم وquot; دسومة quot; المظروف الذي يتسلمه في نهاية quot; الموسم quot; من هذا الوجيه أو ذلك المؤسس quot; لهذا المجلس quot;، وبالفرصة التي يكاد نظراؤه وخصومه من الخطباء والوعاظ الآخرين أن يختطفوها من بين يديه كما يفعل أي تاجر بزنس محترف، وبالأولاد الذين يواصلون دراستهم في لندن رغم كثرة الجامعات في بلادنا، وبالزيجات المنقطعة التي يتسابق إليها الكهول والشيوخ قبل الشبان، وبالمجالس النيابية والمقاعد الوزارية والتكتلات السياسية، فلم يعد أمامه من خيار سوى اللجوء إلى الخزعبلات لإرضاء الجميع والأمان من شرور الجميع!
وماأسوأه من خيار!
علاء الزيدي
التعليقات