أمام المشاهد التي نراها على شاشات التلفزة الكردستانية والتركية وحتى العربية والعالمية، لا يستطيع المرء أن يتمالك نفسه من الاغتباط والشعور بنشوة النصر- ولنقل نصر السلام- الذي حققه أبطال السلام الذين تقدموا مرفوعي الرأس، واثقي الخطى والعزيمة تشع من عيونهم نحو المعبر الحدودي المصطنع بين بلاد كردستان المجزأة. هكذا توجه أبطال السلام الكردستاني إلى تركيا، قائلين بالفم الممتلئ: لسنا نادمين ولا تائبين، نحنُ رُسل السلام ومعنا رسائل رفاقنا و حركتنا بصدد الحل الديمقراطي والسلمي للقضية الكرديةquot;. وأجمل شيء في إطلالة أبطال السلام وخاصةً مقاتلي قنديل هو ملابسهم الخاكية الكردية (ملابس المقاتلين الكريلا) التي كانوا يرتدونها وتزيين صدورهم (بروشات) تحمل علم كردستان وراية حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهم بذلك قد دكوا جدران الذهنية والتقربات الشوفينية والإقصائية التي دأبت عليها الدولة و الحكومة والبيروقراطية والإعلام التركي.
رسل السلام كانوا هناك لأجل السلام وليس الاستسلام أو السلامة، ولكي يثبتوا بأنهم مستعدون للتضحية بكل شيء لأجل القضية الكردستانية. وبأنهم مستعدين للقيام بأي شيء يطلبه منهم الحزب والقائد الكردي الكبير عبدالله أوجلان.
والمشهد الآخر الملفت للنظر هو البحر المتلاطم أمواجه من الكردستانيين الذين أحاطوا منطقة المعبر الحدودي كطوق السوار للمعصم. حيث كنت ترى مئات الألوف قد توافدوا من مدن كردستان لاستقبال رسل السلام، والإثبات للعالم أجمع بأن الشعب الكردستاني بغالبيته يساند حركة التحرر الكردستانية وهو سائراً خلفه حتى الحرية. ومستعدٌ للتضحية بماله وفلذات كبده و بروحه لأجل الحرية والكرامة. فالشعب الكردستاني الذي يدين بالكثير لثواره والمقاتلين لأجل حريته، تواقٌ إلى رؤيتهم وهم بملابسهم الخاكية الكردية، مرفوعي الرأس يخترقون عصر العنجهية التركية ويدخلون من كردستان إلى كردستان. فرحة الشعب الكردستاني قد وصلت إلى ذروتها وهم يستقبلون ثوارها الذين كانوا يلقون عليهم الورود حاملين لهم تحيات رفاقهم من قنديل والزاب وزاغروس وبوتان وهورامان...
الشعب الكردستاني قد عانى طوال القرن الأخير من شتى أنواع الظلم والقهر والحرمان وكانت كردستان ملعباً لارتكاب المجازر وحملات التهجير والقتل وحرق القرى ومحاولات صهر أمة بكاملها. الشعب الكردي شعبٌ محروم من كل شيء، حتى أنه محروم من الفرح والسعادة وكل أعياده لا تمر دون أن يسفك دمه وتزهق روحه. الشعب الكردي شعبٌ محرومٌ عليه الضحك و الغناء والرقص وحتى الابتسامة. فهو شعب الأغاني الحزينة والمرثيات وملاحم العشق التي انتهت بنصر quot;بكو عوانquot; وموت ممو زين، في الملحمة الكردية المشهورة...
لكن الشعب الكردستاني راح يرقص ويغني ويهتف ويرفع ألوانه المقدسة وصور أبطاله وشهدائه مستقبلين ثوارهم الذين جاؤوا للسلام. الشعب الكردي متعطش للسلام وهو الذي عانى ويعاني من الحرب وسفك الدماء، لذا فمن الطبيعي جداً أن يكون هذا الشعب في قمة السعادة والفرح حينما يرى حمائم السلام ترفرف فوق رؤوسهم وقد ملوا تحليق الطائرات والمروحيات التي تمطر عليهم الموت والنار منذ عقود.
الشعب الكردستاني يحتفل بهؤلاء الثوار القادمين على أقدامهم، بعد أن ملّ هذا الشعب من قدوم أبنائه على ظهورهم ضمن التوابيت الدامية وقد نهشت ذئاب أتاتورك بأجسادهم المقدسة. طبيعيٌ جداً أن يفرح الشعب الكردستاني بهذه الخطوة وهذه الإطلالة المشرّفة التي أقدم عليها حزب العمال الكردستاني، ومن حق هذا الشعب أن يحتفل بهم ويقيم لهم الكرنفالات الجماهيرية الضخمة. لكن يبدو بأن الدولة والحكومة والأطراف الشوفينية التركية لم تهضم كل هذا الاحتفاء الكبير برسل السلام من قِبل الجماهير الكردستانية وحزبها الرسمي(حزب المجتمع الديمقراطي). فراحت هذه الأطراف الشوفينية من حكومة ودولة وأحزاب(المعارضة) بانتقاد الفرح الكردستاني وكيل التهم والتهديد إلى حزب المجتمع الديمقراطي ومحاولة تخويفهم. الدولة التركية بكل مكوناتها لاترى الأكراد مستحقين للفرح والاحتفال. فبحسب منظورهم الشوفيني، الموت والبكاء والحزن والإعدام والتهجير واليأس هو من نصيب الأكراد، أما السعادة و الفرح والعيد والسرور والأمل ونشوة الانتصار فهو ممنوع عليهم منعاً باتاً لا رجعة فيه بقرارٍ إلهي. فلو حصلت عاهرة ألمانية من أصول تركية على الميدالية الحجرية في مسابقة العهر فأن الإعلام التركي يقيم الدنيا و لا يقعده وتحتفل الجماهير التركية ببطلتهم ويحولون اليوم إلى عيدٍ وطني مقدس ويزينون شرفات بيوتهم بالأعلام وصور أتاتورك. لكن حينما يتعلق الأمر بالسعادة الكردية، فهذا ما لا يمكن تحمله أبداً. حتى دفعت الحماسة أو لنقل الحقد الشوفيني برئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى الهجوم الكلامي يميناً ويساراً وراح يهدد ويتوعد قائلاً: quot; هذه الاحتفالات تثير المؤامرات و تتسبب في أن نفكر بالتراجع إلى نقطة الصفرquot;. وعجبي من هذا الكلام، وكأن اردوغان قد وصل إلى نقطة المائة حتى يتراجع إلى الصفر. ولم يتحمل عبدالله غول أن يحبس الكلام في صدره فراح هو أيضاَ يحذر ويتوعد ويهدد ويكثر على الأكراد فرحتهم و يدعوهم إلى الصمت والتخفي في الظل. بالطبع ليس من اللزوم ذكر أقوال الذئب العجوز (دولت باخجلي) ولا الثعلب المتقلب (دنيز بايكال) فهما مبدئيان في معاداة كل شيء كردي وكل تقدم سلمي وكل بادرة أو بارقة للحل أو السلام جملةً وتفصيلا.
علينا القول بأن الجانب التركي وخاصةً الحكومة وبحسب ما قاله المحللون والكتاب الأتراك أنفسهم، لم يكن يتوقعون هذا الالتفاف الجماهيري الكبير وهذه الاحتفالات المليونية لاستقبال رسل السلام. فقد أنقلب السحر على الساحر. كون الجانب التركي كان سيدعّي بأن حزب العمال الكردستاني قد دخل في مرحلة التشتت والتفسخ وها هم قد جاؤوا للاستسلام، وكانوا سيظهرون أنفسهم على أن المبادرة في أيديهم، وبأن مشروع السلام هو مشروعهم. لكن الأمر لم يتطور كما كانوا يتوقعون أبداً وهذا ما أخرج الجانب التركي من جلده ووحدت المعارضة والحكومة وكل الأطراف في انتقاد الكردستانيين لفرحتهم. وإكثارها عليهم هذه النشوة الطبيعية لأمة متطلعة إلى الحرية ومتحرقة إليها.
وصلت مجموعتين للسلام إحداها من قنديل وأخرى من مخيم مخمور، أما مجموعة السلام الأخرى فسوف تصل خلال الأيام المقبلة إلى مطار اسطنبول قادمة من اوروبا. وبهذا الشكل يتم تطبيق الخطة بإحكام ودون أية مشاكل تذكر من الجانب الكردستاني وبهذا تكون الحركة الكردستانية وقيادتها قد أثبتت قدرتها السياسية وسيطرتها التامة على سير الأمور في البلاد وبأنها العنصر الفعّال والرئيس في مشروع السلام والحل الديمقراطي وليس اردوغان الذي يخطو نصف خطوة إلى الأمام و ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ولا يفكر سوى بأصوات الناخبين و تبيض صورة حزبه ودولته في كردستان.
بحسب متابعة التطورات الأخيرة ووصول وفود السلام إلى كردستان الشمالية وما لاقته من حفاوة مليونية وتأثيراتها السياسية نستنتج ما يلي:
أولاً: الجانب الكردستاني اثبت بأنه صاحب المبادرة السلمية وبأنه صميمي وجاد في الحل الديمقراطي وايقاف النار والحرب. فقد جاء قرار إرسال وفود السلام في وقتٍ أقرّ فيها البرلمان التركي على مذكرة تسمح للجيش التركي بمحاربة المقاتلين الكرد وغزو جنوبي كردستان وقتما تشاء. و بهذه الخطوة ظهر من هو طالب السلام ومن هو عاديها.
ثانياً: لقد أثبتت هذه الخطوة بل العملية الفدائية السلمية، أثبتت الوحدة والتماسك الروحي والفكري والتنظيمي القوي بين القائد أوجلان وقيادة الحركة وجميع المقاتلين. وهذا ليس ارتباط اوعلاقة دينية بل هي أوثق منها وأعظم. فهي تستند على حرية الإرادة والعشق المتبادل بين قائدٍ ومقاتليه. وهذه الخطوة تعتبر صفعة (عثمانية) على وجه كل من يحاول الفصل بين القائد أوجلان و الحركة أو عن المقاتلين الكريلا وكأن هذا شيء وذاك شيء آخر.
ثالثاً: ابناء الشعب الكردستاني الأبي الذين تعرضوا للتهجير على يد الجيش والحكومة التركية سنة 1993- 1994 وهجروا إلى جنوبي كردستان وعانوا المرارة والظلم والغربة في صحراء برية مخمور، وعلى الرغم من كل الألاعيب بالتي مورست عليهم والوعود المعسولة التي قُطعت لهم لك يعودوا إلى تركيا ويعيشوا كما يشاءون بشرط أن يوقعوا على وثيقة يقولون فيها quot; أن حزب العمال قد أحرق بيوتنا وطردنا من قراناquot;. لكن هذا الشعب المناضل الشريف رفض كل ذلك وتمسك بوطنيته وقيمه المقدسة وأعلن ارتباطه بقرارات حركة التحرر الكردستانية وقائده أوجلان.
رابعاً: هنالك أبواق تنفخ دائماً في بوقها القائل:(حزب العمال حركة شمالية فقط وعليهم أن يبقوا في الشمال فقط). بالطبع ليس من اللزوم الآن العمل على إثبات بأن حزب العمال الكردستاني حركة كردستانية شاملة ولها هموم كردستانية على الرغم من ثقلها النضالي في الشمال. لكن عشرات الآلاف من الجماهير الكردستانية التي خرجت من مدن جنوبي كردستان في دهوك و زاخو والمدن الأخرى لرؤية وفود السلام والهتاف لها على طول الطريق من مخمور إلى المعبر الحدودي، هذا دليلٌ قاطع على مدى الحب الذي يكنه الكردستانيون في الإقليم الحر للثوار و المقاتلين الكريلا. الجماهير الكردية الجنوبية لم تكن قليلة بالمقارنة مع أخوانهم الشماليين الذين جاؤوا لاستقبال وفود السلام.
خامساً: وهو الأهم. صحيحٌ بأن الحركة الكردستانية قد أرسلت وفوداً للسلام، إلا أن هذا لا يعني أبداً بأن القضية قد حُلت ولم تعد هنالك مشكلة. هذه الخطوة كانت دفعة لعملية السلام وليس السلام نفسه. لأنه ليس هنالك سلام الآن ولم تحل القضية الكردية بعد ولم تقم الدولة التركية بخطو أية خطوة جدية نحو الأمام حتى هذه اللحظة. لذا يجب ألا ينتظر أحدكم أن تذهب مجموعات أخرى إلى تركيا طالما القضية الكردية لم تنحل بشكل نهائي في كافة أجزاء كردستان. فالأمر لا ينتهي بتركيا فقط.
سادساً: قفزت بعض الشخصيات البائسة لكي تعكر المزاج كما تفعل في كل مناسبة ايجابية بالنسبة إلى القضية الكردية، وبدأت تكتب متسائلة: quot; و ماذا سيحصل للكوادر السوريين؟quot;. و كأن القضية الكردية قد انتهت وجميع الكوادر ذوي الأصول الشمالية قد عادوا إلى بيوتهم وكذلك الآلاف من أبناء شرقي كردستان قد عادوا إلى بيوتهم ولم يبقى في الجبال سوى السوريون. إن كانت هذه الشخصيات الشاطرة تكتب أوتقول هذه الأمور بنية طيبة فأقول لهم quot; أنتم مساكين هداكم اللهquot;، وإن كانوا يدعون إلى ذلك لغاية ما، حينها نقول لهمquot; هذا ليس من شأنكم وأتركوا هؤلاء الكوادر- وأغلبيتهم من القياديين في المراكز الحساسة في الحركة- يقرروا ما يريدونه، و هم يعرفون مصلحة القضية أفضل منكم. و ليسوا بحاجة إلى نصائحكم أو ان تفكروا بدلاً منهم.
سابعاً: في المحصلة وعلى الرغم من كل الشعارات الديمقراطية والسلمية التي تتشدق بها الحكومة التركية وعن استعدادها للاعتراف بالحقوق الثقافية الكردية وحل القضية بالحوار، إلا أنها أظهرت وجهها المقيت وعدم تحملها للفرحة الكردية ببشائر السلام والديمقراطية. وظهرت ككل مرة العقلية الاستعلائية التركية التي تستخف بالشعوب الأخرى وتحتقرها ولا تراها لائقة بالبسمة والضحك والفرح. فالعقل التقليدي التركي يقول: إن كان الأكراد سيفرحون فيجب أن تكون الدولة هي التي تعطيهم الفرح وليس أي شيء آخرquot;. أتمنى أن يتعلم الأكراد بأن الأكراد أيضاً يستحقون الضحل تحت ضوء الشمس...
التعليقات