كعادتى خلال زياراتى الأخيرة، تنقسم مدة الزيارة ما بين حياتين متوازيتين أحياهما طوال الوقت؛ حياتى كطبيب مهاجر متخصص فى علاج الألم بواحدة من أكبر المراكز الطبية فى الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم وهى جونز هوبكنز، وحياتى ككاتب مهاجر أيضا، يحفر فى صخر الحياة الثقافية المصرية المعاصرة بأظافره النامية لتوها، لقصر فترة الانتاج الأدبى نسبياً، ولبعدى الجغرافى عن قلب هذه الحركة لكونى من المهاجرين بعيداً عن الوطن الأم لسنين طوال.

ولكن كانت السمة الرئيسية لتلك الزيارة هى توهج قلوب الناس فى مصر بالحب. لا أدرى لماذا، فمنذ اللحظة التى وطأت فيها قدمى أرض quot;المطار الجديدquot; بالقاهرة شعرت بأذرع تلتقفنى فى أحضان البلد لأول مرة منذ زمن. فلم تلهبنى حرارة الهواء المثقل بالغبار الساخن، ولا رائحة المنظفات الرخيصة التى تذكرك برائحة المراحيض العامة، ولا بالأيادي المتسخة الممتدة تشحذ الدولار بلا مقابل لعمل معين تؤديه لك، فتشعر وكأنك تتصدق على باب جامع أوكنيسة. نعم اختفى كل هذا وتبدل برائحة هواء نظيف وعيون محبة متألقة تستقبلك، بل ومدحت موظفة الجوازات المصرية زوجتى الأمريكية لحسنها، وطالبتنى بأن أحافظ عليها، حتى وهي تطلب منها ـ معتذرة ـ أن تدفع خمسة عشر دولاراً مقابل فيزا للدخول إذ لم يكن لدينا قسيمة الزواج المصرية.

دعيت لندوة شعرية بالقاهرة بعنوان الشعر والتطرف بجوار الشاعر الكبير quot;حلمي سالمquot; الحائز على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب. وفى الحقيقية كنت قد وافقت على مضض، للتفاوت الواضح بين قامتينا، ولكنى فوجئت بالحب الكبير الذى استقبلنى به الشاعر الكبير الذى أصر أنا أبدأ أنا فى إلقاء قصائدى، وبالتصفيق المدوى الذى لحق كل قصيدة ألقيتها سواء منه هو أو من كل الحاضرين، وكأننى أنا نجم الحفل، مما أخجلنى حقاً، ولكننى أدركت بعدها أنه ذلك الحب الذى أحاط بى خلال دروب رحلتى برمتها.

لم أنم ليلة كاملة.. لم يكن أرقا أو سهدا.. بل إسهال وقيء!!

آسف على التعبير، ولكنها الحقيقة! وكان صباح اليوم التالى موعدى لإلقاء محاضرتين عن آلام الظهر والعامود الفقرى العنقى، ضمن وقائع المؤتمر الدولى للألم المنعقد بالقاهرة، والذى كنت قد دعيت إليه. وفى التاسعة صباحاً كنت أقف أمام الحاضرين أحاضرهم بينما كان جوفى قد جف تماماً بعد السهرة الأليمة التى فقدت بعدها كل السوائل المتاحة، والتى لم أقدر أن أعوضها بعد، خوفاً من مزيد من القيء أمام نخبة الضور هذه المرة. المهم لا أكذبكم قولاً أننى لم أكن أرى أمامى، ولا أعرف كيف مرت تلك الساعتين علىّ، ولكن حين انتهيت إذ بصديق قديم يهاتفنى، فشرحت له حالتى، فإذ به يصل خلال دقائق معدودة إلى قاعة المحاضرات ومعه ثلاثة علب للأدوية مع زجاجة الماء المعدنى، ويصحبنى إلى غرفتى لآخذ دوائى، وتركنى أنام حتى المساء. وحالما استيقظت أدركت أننى قد شفيت، ولا أدرى الآن لو كان ذلك مفعول الدواء أم هو عمل الحب.

أما عن مساعدة أقربائى وشلة الأصدقاء واحتوائهم لنا طيلة مدة الزيارة، فلا أستطيع أن أعبر عن كم الحب والعناية الذى أغرقونا فى ثناياها. كنت أشفق على الجهد الفظيع الذى أحاطونا به، ولكنهم جميعاً ـ وبلا استثناء ـ أبوا حتى أن يسحوا لنا بأن نشكرهم، مصرين بأنهم إنما كانوا مستمتعين بقضاء وقتهم وجهدهم المضنى هذا ـ والذى رفضوا بالطبع صفة quot;مضنىquot; تلك أن تصفه ـ متعللين بأنهم كانوا إنما يتلذذون بكسر رتابة الحياة خلال صحبتنا. ألم أقل لكم إنه الحب!

وحتى الحزب الوطنى الديموقراطى ساهم ـ بغير قصد طبعاً ـ فى هذه الملحمة المحبة! فلقد تصادف انعقاد مؤتمره السنوى السادس مع فترة زيارتنا للقاهرة، فاختفت تماماً أكوام الزبالة والقاذورات التى كنا قد قرأنا عنها فى كل مكان ـ من جريدة المصرى اليوم وحتى النيويورك تايمز ـ قبل زيارتنا، و التى لم أجد لها أثراً بطول الزيارة. وكنت أداعب أقاربى بأن يجدوا لى كوم زبالة واحد لأصدق ما كنت قد قرأت عنه! ولكن أبداً! بل وكانت الشوارع تكاد تبرق من شدة النظافة، بريق لم أعهده فى شوارع القاهرة مطلقاً من قبل بسبب الحزب الوطنى.. عاصفة من الحب!

وفوق كل جسر وعند كل ناصية وأمام كل منتدى أو حديقة وقفت أرتال من العاشقين، أزواجاً أزواجا. الفتيات تحايلن على الحجاب quot;المفروضquot; عليهن من قبل المجتمع الديِّن الجديد هذا، فأضفين عليه التعديلات المصرية المطلوبة من الألوان المبهجة، والتعليقات اللامعة المتدلية من أطرافه، بالإضافة لـ (بلوزات) بلون الجلد يضعنها تحت ثياب ملونة (ع الموضة) مقعرة الصدر، و(جيبات) مفتوحة بين الأرجل وإن كانت من فوق بنطلونات (السترتش) التى تحجب الجلد وإن كانت تحتضنه لتظهر تضاريسه. والشباب تخلى أخيراً عن الجلباب الباكستانى والشبشب، وعاد إلى (الجينز) و القميص و(الجيل) فى الشعر، وطفق يحب ويغازل وإن علت جبهته (الزبيبة) أحياناً! يبدو وكأن الحب قد انتصر أيضاً!

وعند ختام الرحلة كنت على موعد مع حفلتى توقيع لمجموعة قصصية جديدة بعنوان quot;اليوم الثامنquot; الأولى بمكتبة quot;كتب خانquot; بالمعادى سمعت فيها أن قصة quot;اليوم الثامنquot; التى تصدرت المجموعة قد وصلت إلى مستوى العالمية! وخلال الاحتفال الثانى بمكتبةquot;ديوانquot; بالزمالك، تلاقيت بالكاتب العراقى quot;خضيرميرىquot; الذى قدم تحليلا باهراً لكل المجموعة قائلا فى تواضع جم بأنه شعر ببعض الغيرة وهو يقرؤها! تصوروا أن يصدر هذا التعبير من كاتب وروائى مرموق.. ألم أقل لكم بأننى طيلة مدة زيارتى لمصر quot;فضلت اعيش بقلوب الناس وكل عاشق قلبى معاهquot;..


القصائد التى ألقيتها فى ندوة quot;الشعر والتطرفquot;


كلمة

كلمه تفور.. تقوم تندِلق

من طرف سِن القلم

وتنفرش.. وتتنِقش فوق السطور..

فتصير علم

تِنضَح سعاده ساعات..

وساعات سكرات الألم

بس اليومين دول للأسف..

ماتطرح في أرضنا إلا السكات


كلمة مخنوقه.. مزنوقه ف صدري

من بدري تثور..

عايزه تفلفص من جوَّايا

وتخرج تبصبص.. تشوف النور

وانا اقول لها اسكتي.. موتي جوَّا صدري

ليه ف قلبي بتنكتي

ده لابد حتموت البذور.. لو تندهس

أو تنغرس في أرض بور


كلمة هامت بين ودان الخلق حايره

جت وراحت.. بعدت وتاهت..

كلمه خبـَّطِت بشوق على كل باب..

بس الببان من الحََجَر.. صامت وثابت

نغمه عذبه مصَهلله.. منسابه حين

وحين تبان مكعبله..

لكن يفيد إيه الكلام.. والعزف والأنغام..

لمَّا الودان م السمع تابت..


كلمه وماهيش زى باقي الكلام..

تزول ونقول ده أصله كان كلام

دي صرخه مكتومه..

وجوَّا القلب مكنونه.. ومش راضيه تنام

دي موجه بتجري في بحر الحياه..

حياتي وحياتك.. وطوق النجاه..

دي غصن الزتون.. ونار الأتون..

وزهر اللمون.. وفرخ الحمام..


كلمه ومهما أحاول أحوشها

ومهما داريت..

ح اصَّرخ.. واصرَّح..

واصدَّع دماغكو بكلمه وحديت

ح افضفض معاني.. واطبطب واعاني..

وح اضحك.. ولو ف قلبي بكيت

ومهما تسدُّوا ف ودانكو ح اقول..

ومهما تحاولوا تِغـَمُّوا العقول


دي كلمه تفور.. تقوم تندِلق

من طرف سِن القلم

وتنفرش.. وتتنِقش فوق السطور..

فتصير علم

تِنضَح سعاده ساعات..

وساعات سكرات الألم

بس اليومين دول للأسف..

ماتطرح في أرضنا إلا السكات


الإسم: مصرية


الإسم: مصرية

فلاحة قبطية

من فجر يوم البشر

أول كتاب القدر

وهى من نيلها

تِشرب ويدعِـيلها


وتمِد له إيديها

ويمِد ليها إيديه

يحضنها.. ويبوسها

دى عروسة وعريسها


ملـِّس على جبينها

بالطين يلوِّنها

والحِنَّه ف إيديها

متكحَّله عينيها

ولا الشعور الليل

والضحكة صوت مواويل


زغروته هايمه

على موجه عايمه

تملا العيال البيت..


وعند سفح الجبل

تِبـْنى صروح الأمل

تِبـْنى صروح العمل

والحق ليها يبان

قبل الزمن بزمان


الإسم: مصرية

فلاحة قبطيه

جالها المسيح.. زارها

شال عنها أوزارها

بارك لها دارها


وعيالها فِرحت بيه

إتلملموا حواليه


إتكلموا.. واتعلموا

وبالإيمان به سلموا


وفكروا.. وتفلِسفوا

وللجهاله إتأسفوا


ولمَّا جاهم العرب

ودا جـِرى ودانضرب

جحافل جيوش

تحطم عروش

وجايين ليهدوا لدين السلام

لدعوة محمد عليه السلام

وحلو الكلام

وعدل ونظام

الأم.. طلــِّت وشافت ولادها

فخافت عنادها

يضيـَّع بلدها

فدِمعت عينيها

ومدت إيديها

تلملم بنيها

فى حضن الأمومة

فى ضل الأمان

ونادت بذِله.. وباستسلام..

يا أهل السيوف العظام الكرام

بدال السيوف سمَّعونا كلام..


ولد سمِع للى قالوه

عجَبه.. ف كلـِّم به أخوه

المِختبى لايضربوه

ف آمنوا بيه وصدقوه

ومرت فصول الروايه بسلام


وكل حَىّ بناله بيت

وف كل حَىّ وكل غيط

حضَن الآذان

جرَس الكنيسه


طَرْح الغيطان

شجر اللمون والبرتقان

وسنين رخَا.. شِبـِع الجعان


وسنين كبيسة

مرِّت كمان

إيدك ف إيدى

يا وِلد سيدى

نبنى سوا صَرح الأمان


الإسم: مصرية

فلاحه قبطيه

راجلها.. نيلها

بيغَنِّى مووايلها


وولادها قنديلها

بينوَّروا ليلها


ويعَمَّروا

ويعَطـَّروا

وللإله يكبَّروا

والنيل يفيض ليهم

وخيره يهديهــم


وللغيطان يخَضَّروا

وللجبال يكَسَّروا

وبالجدال.. يفـَكروا


وإيدين بتحضُـن إيدين الأرض مالهاش دِين!

زى المَيَّه.. والطبن زى الصحَرا.. والعين


زى امهم كلهم

فلاحه مصريه

من يومها قبطيه

من فجر يوم البشر

أول كتاب القدر

وهى من نيلها

تِشرب ويدعِـيلها


وتمِد له إيدها

ويمِد ليها إيديه..


رباعية خريفية


بـينتحر ورق الشجر

لـمَّــا الخريف بـيـهـِل

قلبى ف صدرى بينقهـر

على الصيف اللى وَل


ورق أصفر وغيره البرتقانى

مات الـخَضار اللى كان متعاجب بُه

ورق بينزف دمه الاحمر القانى

وانا واقف ومستنى اللى باحبُه


الجو بارد؟ ولا تكون أوهام؟

دانا امبارح قميصى كان نص كم

وادينى باينـِّى كإنى جانى زكام

هاشربلى شوربه للعضام بتـــرُم


عدى الربيع بنشوته وصباه

والصيف دخل حل بحرارته

رَقص قلبى والفرحة مش سايعاه

بس الخريف خوِّفه بغيامته وبرودته


الدنيا ليه اتخبــِّت؟ قفلت وراها الباب!

وماعادش ف السكة إلا طابور الشجر

وانا وحدى واقف وسط ريح هبــَّاب

طاير فى سرب من ورق الشجر..