إذا كان مستقبل منطقة الشرق الأوسط مرتبط بمسار الأحداث و المتغيرات التي تجتاحها، فإن الإطلالة السياسية و الدبلوماسية التركية، غير المسبوفة، في الوقت الراهن، تشكل حدثاً مفصلياً، قد يسفر عنه في المستقبل القريب، تغيراً جذرياً في معادلة الصراع.
و لعل أهم ما يمكن أن نشير إليه في هذا الصدد، أي فيما يتعلق بالدور التركي، هو الخوف من إستدراج المنطقة، الى خوض غمار صراع محموم، و لكن بثوب طائفي هذه المرة، بحيث يصبح تخومه، مع مرور الوقت، الإطار الحقيقي، للوحة المصالح المتناقضة و المشتركة على حد سواء. فهناك ما يساعد الأتراك على أداء دورهم الجديد. إذ ثمة أمور فرضت عليهم، و أخرى توفرت لهم، دفعت في إتجاه تغيير جذري في السياسة التركية، اهمها التباعد المضطرد في المصالح و الإهتمامات بين تركيا و الغرب بصفة عامة، و تركيا و الولايات المتحدة بصفة خاصة، ظهرت ملامحه الأولى مع إحتلال العراق، الذي شكل بالنسبة للأتراك، في حينه و ما يزال، تهديداً حقيقياً لأمنهم القومي، جراء الحقائق الجيوـ سياسية الجديدة التي نجمت عن تلك الحرب. كما أظهرت المفاوضات الأوروبية التركية حول عضوية تركيا في الإتحاد الأوروبي عن كم هائل من المتطلبات و الإستحقاقات الواجب القيام بها من قبل تركيا، في سبيل الوصول الى العضوية، كانت أغلبها صعبة التحقيق، و لا تلقى القبول في الشارع التركي. كل ذلك كان يتزامن مع توقد الصحوة الإسلامية، و إنبعاث الأصوات المطالبة بالعودة الى التاريخ.


حدة الصراعات في المنطقة على محورين : عربي ـ إسرائيلي و عربي ـ إيراني، أعادت الشهية للسياسة الخارجية التركية. العمل على المحور الأول يسنده الغطاء الإسلامي العام، و الثاني يغذيه المشاعر المذهبية. و قد أثبتت التجربة أنه لا يمكن إهمال أحد المحورين، بل أن المحور الأول يشكل باب الدخول الى فسحة الصراع الأوسع و الأشمل ؛ الصراع التاريخي بين إيران الشيعي، و تركيا االعثمانية السنية.


سعت تركيا، بهدف الصعود الى حلبة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الى تسوية خلافاتها مع الدول العربية، فقامت بتحسين علاقاتها مع سوريا، بعد أن أقدمت هذه الأخيرة على إبعاد الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من أراضيها. و على إثر التحسن المضطرد في العلاقات السياسية و الأمنية و الإقتصادية بين البلدين، سعت تركيا الى إظهار نفسها كوسيط موثوق به في المفاوضات الغير مباشرة بين إسرائيل و سوريا في أنقرة، و عندما قامت إسرائيل بعملية رصاص مصهور في قطاع غزة، إتخذت تركياً موقفاً غاضباً منها، و إعتبرتها إهانة لها، لأنها أتت بعد يوم واحد من زيارة أولمرت لأنقرة. وقف قادة الحكم في تركيا الى جانب حماس، و نددوا بالعملية العسكرية إلإسرائيلية بلغة فاقت في حدتها لغة جميع العرب، و سمحوا لمشاعر الشارع التركي بالتعبير عن نفسها في مظاهرات حاشدة و لاهبة.


إستغلت تركيا حرب غزة الى أقصى الحدود. وقفت الى جانب حماس، لكي تخرجها من تحت عباءة إيران، و نسقت مع مصر و العربية السعودية من أجل المصالحة الفلسطينية و إنهاء حالة الإقسام الفلسطيني. فعندما طرح الرئيس المصري حسني مبارك مبادرته لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و حماس، سارع وزير الخارجية المصري أبو الغيط الى أنقرة لحث أردوغان على إقناع حماس لقبول المبادرة، و الإلتزام ببنودها.


لقد تحولت تركيا في لمحة بصر الى مركز ثقل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، و محطة أساسية لمناقشة سبل حل الصراع، الأمر الذي مكن لها دوراً إقليمياً مهماً، و كلمة مسموعة في منابره.


الإطلالة التركية القوية في المنطقة، أمنت لها موقعاً مهماً، و مدخلاً أوسع للدخول الى القضية الأخرى، و هي الطموحات النووية الإيرانية، و تحفظات المجتمع الدولي و الإقليمي حيالها، فتركيا بدورها لا تخف توجسها من الطموح الإيراني، و لا تتوان عن إظهار معارضتها لإمتلاك إيران التقنية النووية، خشية توظيفها في سبيل تصنيع سلاح نووي، ترى فيه تركيا تهديداً خطيراً لأمن المنطقة، و إختلالاً في موازين القوى.


من المهم أن نشير أيضاً إلى أن تركيا تجد في موقعها الجديد في المنطقة، تعويضاً عن إخفاقات أخرى، و ربما فرصة لترميم علاقاتها على كل المحاور. إنها المنعطف الذي يمكن أن يؤدي الى التلاقي مع المصالح الإستراتيجية مع الغرب، و أمريكا من جديد. العنوان الأساسي للعلاقة المزمعة هو مواجهة إيران، و إحتمال صعود روسيا كقوة عظمى. والإعتماد على تركيا بغية تقوية محور الممانعة العربية و جميع الأطراف المتوجسة من أطماع أيران. فتركيا التي كانت بوابة الإستراتيجية الأمريكية لمواجهة الإتحاد السوفيتي في السابق، يمكن أن تكون بنفس الأهمية في مواجهة إيران.


إذا نحن أمام تجربة فريدة في التاريخ السياسي للشعوب و الدول. فبينما تحاول العديد من الدول التنصل من ماضيها، و مآسي تاريخها، و تعطي الضمان تلو الأخر للإسرة الدولية على أن عجلة التطور و التقدم تسير الى الأمام، ولا يمكن إسترجاعها الى الوراء، تحاول تركيا أن تعود الى التاريخ، و تستنبط من صفحاته دروساً للمستقبل، و مخارجاً لإزماتها الراهنة. إنها بحق تتغير، و تتجه من العلمانية الى العثمانية، و لكن بزي جديد.

زيور العمر