في مقالي السابق عن الأمازيغ، كنت وعدت أن أكتب عن تأثير أفول أهل البيت في تأريخ المسلمين، وخصوصاً في النتائج الكارثية التي وصلت إلى تقهقر السلطة الإسلامية في الأندلس وبالتالي ضياعها، فضلاً عن التفكك في النظام (الإسلامي) عبر دول عديدة، ناهيك عن فقدان أمصار كثيرة وأراضي لم تعد ملكاً للمسلمين.
الحديث طويل وذو شجون وتشعب، يتصل الأول فيه بالآخر، ولا ينفك الوسط من طرفيه، رغم المسافة المكانية أحياناً والزمانية في معظم هذا الموروث الهائل.
قضية حقوق أهل بيت الرسول (ص)، في السيادة والريادة الدينية والدنيوية، تشكل مصدر الخلافات والإجتهادات الكثيرة، بين الإتجاهات الإسلامية عبر التأريخ.
وبغض النظر عما إذا كان أهل البيت أحق بحكم المسلمين أم لا، فإن أعقاب ما حدث بعد وفاة الرسول (ص)، أثرت عميقاً في مسار البنيوية الإسلامية، وهيكلة الدولة والمجتمع إلى يومنا الحاضر.
ومما لا شك فيه أن خلافات كبيرة ونزاعات مختلفة، حدثت آوان وبعد وفاة الرسول، استمرت وتوسعت حتى حملت كل دولة إسلامية العقابيل المزمنة والمستعصية معها، إلى أن قضت عليها بالمضمون نفسه الذي قامت هي به: الإستباحة!
فالوهج الإسلامي بدا في خفوت واضح مع صعود الأمويين، الذين لم يمنعهم الدين في إقامة المجازر والإهانات بحق أهل البيت وصحابة الرسول، بمنتهى القسوة والوحشية.
لكن هذه النتائج المنكرة، نمت وترعرعت في عهود سابقة، قبل قيامة الدولة الأموية. إلا أن وجود علي بن أبي طالب، ووجود الصحابة الكبار الذين تحملوا أعباء نصرة الإسلام والهجرة في سبيله، منعت من قوع ظلم وحشي بحق أهل البيت، كما حدث لاحقاً في ظل دولٍ استباحت الدماء من أجل الإستحواذ والبقاء في السدة.
ومع أن الرسول أوصى المسلمين بالتودد إلى أهل بيته، وعدم إيذائهم كما ورد في القرآن، إلا أن الحكام الأمويين والعباسيين ذروا هذه الوصية وراء ظهورهم، ولم يتوانوا في مد اليد إلى إهدار دماء أئمة عُرِفوا بالتقوى والصلاح الكثيرَين.
في ما يتعلق بأولوية الخليفة الذي يلي الرسول، تعاني وجهة نظر أهل السنة الركّة والتضارب، فضلاً عن تبريرات غير ضرورية تفتقد إلى منطق سليم.
على أن الأدلة الدامغة في هذه المسألة، والتي تناقض على ما تقوم له رؤية أهل السنة بشأن الخلافة، موجودة في صلب أمهات الكتب السنّية.
لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال، مقارنة أئمة أهل البيت، بالحكام المسلمين الذين حكموا في خلال قرون طويلة. فالأفضلية في العلم والتقوى والورع، تعود إليهم لا إلى أولئك الحكّام.
ولو كانت السلطة ظلت بعد وفاة الرسول في يد أهل البيت، لربما تغير مسار التأريخ ونتائج فتح المدائن، نحو ما هو خير وما هو محمود.
ولا شك أن البدايات التكوينية لفرز مسألة الخلافة، أسست الأرضية وهيّأت المناخ لحدوث كوارث كبيرة لاحقاً، مثل إغتيال علي بن أبي طالب، والحسن بن علي، وإغتيال أخيه الحسين في حدث كارثي عظيم، وإبادة أهل البيت بمرتبة قريبة مما يُصطلح عليه بـ (الجينوسايد).
وفي غياب سلطة شرعية تستمد سلطتها من الشرعية العلوية (التشريع الديني)، والإجتماع البشري (المجتمع المسلم)، حدث تأخُر وفوضى كبيرين أدى إلى غياب تدوين الحديث في آوانه، مما فتح المدى أبدياً لإبقاء النزاع والخلاف والصراع الديني والسياسي، بين المذاهب والجماعات الإسلامية، خصوصاً بعد تدخل السلطة في ذلك وتجييره لصالحها عبر الإختلاق والتزوير.
الأموييون لم يترددوا في إستعمال أي وسيلة ضد أهل البيت. فجرائمهم الممزوجة بخلفية قبلية ضد بني هاشم، وصلت مراتب خطيرة في ظل الطغيان عبر quot;خلفاءquot; تمتعوا بدرجات كبيرة من الفساد والإنحلال الخلقي. وبمنظور ديني قد يكون إنقضاض العباسيين على الأمويين وإبادتهم (جينوسايد أيضاً)، إنتقاماً إلهياً لأهل البيت من السلطة الأموية.
وجدير بالذكر أن صناعة الأحاديث الموضوعة، وخلطها بالصحيح، ثم جمعها في كتبٍ أطلق عليها الصحاح الستة، تحت رقابة السلطات الإستباحية، ليست أكبر جرماً من إهدار دماء أهل البيت والصحابة. فمن يقتل علياً وحسيناً، لا يتردد في وضع ما شاء من أحاديث، تختمها السلطة بختم الشرعية والصواب الّذين تحولا إلى شرعية تأريخية ممزوجة بأبعاد دينية مقدسة، يُصعب في الواقع إختبارها ومناقشتها، في ظل الإحتدام المذهبي والصراعات المستمرة ذات شأن خطير دوماً.
إستطاع المسلمون الوصول إلى غرب أوروبا متوغلين نحو الشمال، عبر شبه الجزيرة الإيبيرية، فيما أطلق عليها لاحقاً بالأندلس. ولأن شبه الجزيرة كانت خاضعة غير مستقرة لقوى خارجية، مثل قبائل الوندال (vandal) التي استمد المسلمون تسمية إسم الأندلس منها، وقبائل القوط البربرية، وقبائل الفايكينغ القادمة عبر موجات مترددة من إسكندنافيا (كانت تَغْيرُ على المناطق المتفرقة من أجل النهب والسلب، ولم يكن لها مطمح في إقامة سلطة دائمة، بسبب بداوتها مثل قبائل الوندال نوعاً ما)، فإن دخول الإسلام إلى الجزيرة في عام 92هـ، كانت بمثابة تحول تأريخي كبير بالنسبة لسكان الجزيرة والمناطق المحاذية لها، وبالنسبة للمسلمين أنفسهم.
كان إخلاص الأمازيغ للإسلام كبيراً. فهذا الزخم المندفع، جعل من الوقوف أمام هذه القوة الصاعدة أمراً شبه مستحيل.
لذلك فما أن إنتصر طارق بن زياد في موقعة وادي برباط، حتى مضى فاتحاً في أرض أندلس مُرَحّباً به من لدن السكان، الذين كانوا يعانون العبودية والظلم العظيمين من quot;رودريكquot; ملك القوط الذين احتلوا الجزيرة في آمادٍ سابقة.
لكن الإندفاع والفتح الإسلامي بقيادة مخلصة، والذي لاقى الترحيب من الطبقات المسحوقة، أي أغلبية الناس، واجه حائطاً كبيراً من أطماع ومخاوف وأقلاق السلطة الأموية، التي كانت تنظر في الأمر من وجهة سياسية طغيانية، وليس من منطلق ديني ودعوي.
لذلك استدعى سليمان بن عبد الملك، كلّاً من موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، آمراً وقف الفتوحات دون أي سبب منطقي، سوى مخاوفه غير المبررة من تعاظم قوة إسلامية في المغرب منافِسة للسلطة الأموية في المشرق!
وأبقى كليهما تحت الإقامة الجبرية، إلى أن مات الإثنان في ظروف غامضة، وخصوصاً طارق بن زياد، الذي انقطعت أخباره بشكل مدهش!
الأمر بدأ في منحى فاسدٍ ومريض، مؤسِساً لفوضى مستقبلية عارمة، في عهد معاوية بن أبي سفيان، الذي يعد بحق زعيماً quot;براجماتياًquot; في تبرير الوسيلة للوصول إلى الغاية.
في أوج تقدم الفتوحات في بلاد الأطلسي بقيادة عقبة بن نافع الفهري، قام معاوية بعزل عقبة بعد صعود نجم هذا الأخير، خشية بلوغه مرتبة يُطيح فيها بأبّهة معاوية المهزوزة أساساً، بسبب الدموية والخداع الّذين وصل بهما إلى سلطته الباغية.
وضع معاوية شخصاً آخر مكان عقبة، يدعى أبو مهاجر الأنصاري، مما أغضب عقبة بن نافع الذي كتب إلى معاوية شاكياً مستاءا من عزله، مذكِّراَ بمناقبه وفضله في الفتوحات.
لكن يزيداً، الذي استخلفه معاوية، أعاد عقبة وعزل الأنصاري، لكن الأول قُتل أثناء عودته إلى قيروان في معركة تهودة بمنطقة الأوراس، في مواجهة شرسة جداً.
طبعاً ليس من الموضوعية، وضع الأمويين جميعاً في سلّة واحدة. فقد ظهر منهم حكام ورعون على درجة كبيرة من العدل والإنصاف مثل معاوية الثاني، وعمر بن عبدالعزيز.
عمر بن عبدالعزيز عيّن مالك بن سمح الخولاني والياً على الأندلس، لما رآى فيه من ورع وتقوى. وكان الخولاني سمحاً وورعاً حقا. وقُتل أثناء الفتوحات في فرنسا.
والملفت للباحث، أن الوالي في أمصار المسلمين كان نسخة قريبة لجوهر الخليفة. فالخليفة الجيد كان يختار الوالي المتقي المحسن. وبالعكس كلما كان الخليفة شريراً فاسداً، كان الولاة قريبين إلى نمطه وكينونته.
على أية حال فإن إستباحة الأمويين للحكم بالقتل والسلب، فتح الباب على مصراعيه أمام جميع الطامعين في الحكم، وأمام تمييع حدود الحلال والحرام في شؤون الحياة العامة وعلى الأخص السياسة والحكم، وبالتالي وكنتيجة لذلك، حدثت إضطرابات وثورات وفوضى بين ملل الإسلام، وصراعات قبلية وقومية وفئوية إستمرت إلى يومنا الحاضر.
أي أن الأمويين شرعنوا الصراعات القبلية والقومية بسم الإسلام، وبناء على نصوص الدين نفسه، وبذلك نسفوا جوهر الدين الهادف إلى الجامعة والوحدة بين المسلمين.
وبما أنه عاين وعايش ويلات هذه الصراعات والجرائم (قتل العباسييون أخاه الوليد بن معاوية ـ إبن ثلاثة عشر عاماً ـ أمام عينيه!)، فإن محي قائم آل سفيان، عبدالرحمن الداخل، رغم إنجازاته المشهودة، إلا أنه لم يتورع في هدر دماء أقرب المقربين منه: إبن أخيه المغيرة بن الوليد، ودماء الأسرى المئات الّذين أعدمهم بسبب مشاركتهم في ثورة عارمة ضده. وبلغت الثورات في عهده خمسة وعشرين ثورة!
هذا الإضطراب العظيم يدلّ على مدى ضعف وهشاشة المرجعية الدينية لدى المسلمين، وكيف كانت النزاعات تنخر في نفوسهم، على ظهور القبيلة والقومية والجماعات السياسية الناشئة.
وكل هذه السياقات تبلورت في فضاء إقصاء أهل البيت، واستحلال دمائهم بطرق إجرامية خطيرة. فقتل الحسين، على سبيل المثال أعطى شرعية التمرد على السلطان، أيّاً كان نوعه، والنزوع نحو عتباته بأي سبيل كان، لدى جميع الفئات دون إستثناء.
ألم تقم الدعوة العباسية في البدء عند العجم في خراسان؟!
لذلك فإن إقصاء أهل البيت من الحكم، وقد وردت في أحقيتهم وأهليتهم نصوص عديدة، أعطى الحق لكل فئة أو جماعة أن تعتبر نفسها أهلاً للسلطة.
فكما سنّ الأموييون هذه السنّة، وقبلهم من خلفاء، فإن المسلمين على إختلاف مشاربهم وأجناسهم ساروا على هذه السيرة حتى تكاثرت الصراعات والنزاعات بين جميع الفئات والأقوام الإسلامية في إستنزاف مستمر، جعل المسلمين ينحدرون بإستمرار نحو الضعف والتخلف أمام التحديات الكثيرة. يتبع
علي سيريني
التعليقات