بعد أربعين عاما يعود صديقنا الكبير ادونيس إلى العراق، لكن هذه المرة إلى شمال الوطن في كردستان العراق لكي يكسر الحصار عن الثقافة العراقية، ذلك الحصار الذي فرضه اتحاد الكتاب العرب اللسان الناطق باسم ثقافتنا العربية من المحيط إلى الخليج. عمل كبير لمبدع كبير لا يمكن إن يقوم به إلا شخص له قامة ادونيس وان جاء متأخرا ومنقوصا بعض الشيء لكنه في النهاية عمل لم تستطع إن تضطلع به امة بكاملها. قال ادونيس في كردستان العراق ما لم يستطع قوله في كل البلدان العربية وما لن يستطيع قوله بعد وقت طويل. تحدث عن كل شيء مع المثقفين العرب والكرد. هم احتفوا به وعلقوا صوره في المدن الشمالية حتى إن رئيس الجمهورية العراقية زاره وعبر له عن سعادته بهذه الزيارة التاريخية. الشعراء الشباب تحدثوا معه عن كل شيء بما في ذلك الأخطاء التي كانوا يظنون انه ارتكبها خلال مسيرته الشعرية والحياتية. لم يتركوا شيئا يتعلق به وبشعره وبفكره دون إن يطرحوه أمامه بكل صدق وحرية لأنهم يحبونه ويحبون شعره كما يحبون أطروحاته الفكرية. لكنهم لم يكونوا تلاميذ ولا مريدين، بل كانوا مثقفين أحرارا لا يخافون.

قالوا لضيفهم الكبير أنهم ألان لا يخافون من الحكومة ولا من الرئاسة ولا من البرلمان ولا من الأحزاب ولكنهم قالوا أنهم يخافون من اؤلئك الذين يضغطون على الزناد شيعة وسنة، أنهم يعرفون من هو قاتلهم. قالوا هذا الكلام ونشروه في الصحف الحكومية، وهو قال بدوره انه سعيد بسقوط الصنم. قالها بوضوح وعلى رؤوس الأشهاد لأنه مثقف حر ولا يخاف وهو عمل لم تستطع إن تقوم به امة بكاملها. تحدث عن الشعر والايديلوجيا والدين والفلسفة واللغة العربية وانقراض الحضارة العربية وحذر الكرد من السقوط في وهم القومية. لم يذهب ادونيس إلى كردستان العراق ليقرأ شعرا فحسب، لقد كان واضحا وهو يحذر مضيفيه من الأوهام التي وقنا بها نحن العرب الذين بدأنا نتساقط من التاريخ بسرعة ولولا وجود النفط لكنا خرجنا منه منذ زمن طويل.

العراقيون في الداخل خونة كلهم هذا ما يقوله المثقفون العرب عبر اتحادهم الفذ كما يعتقد بعض المثقفين العراقيين، لكن ادونيس له رأي أخر.. انه الوضع الأمني ذاك الذي يحول دون حضور المثقفين العرب إلى العراق. أما عن الاحتلال فيقول ادونيس بالوضوح نفسه quot; كنت أتمنى أن يتم ذلك الإسقاط من قبل الشعب العراقي أما وقد جاء الأمريكان فشكراً وليذهبوا quot;. بل انه يبدو أكثر وضوحا حينما يقول quot; وهل هناك بلد عربي ليس تحت الاحتلال؟ ما هذا الكلام quot;.

ما كان ادونيس يطمح بوقوعه كاد يتحقق على أيدي العراقيين أنفسهم وأنا شاهد وفاعل في ذلك حين وصلت طلائع الانتفاضة الشعبية إلى مدينة المسيب التي تبعد ما يقرب أربعين كيلومترا عن العاصمة بغداد لكن دول الجوار تدخلت لدى أمريكا وأجهضت أحلام العراقيين. إحدى الدول زجت بمعارضين للنظام السابق ورفعت شعارات طائفية دفعت دولة جوار أخرى للطلب من أمريكا للإبقاء على صدام حفاظا على الأماكن المقدسة التي تديرها. دولة ثالثة طلبت من أمريكا الإبقاء على صدام خشية من إقامة دولة كردية. الحلم العراقي يتبخر والعراق يقع تحت الاحتلال، هذا ما لم يكن يعرفه ادونيس وكثير من المثقفين العرب الذين لا يريدون إن يفهموا حتى بعد مضي هذه الفترة الطويلة وتزايد أعداد الضحايا العراقيين من المدنيين.

لم يذهب ادونيس إلى بغداد لأنه يعرف إن هذه المدينة قد تنفجر في أية لحظة، ولو كان ذهب إلى هناك لما وجد أي مثقف عراقي لان الجميع ذهب إلى مدينة البصرة من اجل مهرجان المربد الذي انتهى قبل يوم واحد من ذكرى ولادة الديكتاتور المقبور. وزارة الثقافة العراقية وهي quot; وزارة محنطة quot; بسبب المحاصصة الطائفية ووزارة منقسمة على نفسها لهذا السبب أيضا لم تستطع إن تدعو ادونيس لأنها لن تستطيع إن تسجنه في المنطقة الخضراء ولن تستطيع إن تحميه من السيارات المفخخة التي تقتل يوميا مئات العراقيين. بعض المثقفين العراقيين كانوا يتمنون على ادونيس إن يزور بغداد لكي تكتمل هذه الزيارة التاريخية وبعضهم استنكر هذه الزيارة من منفاه في لندن لكن ادونيس يزور العراق.. انه في العراق ألا يكفي ذلك؟

صلاح حسن