ها قد حان الوقت للتساؤل: هل سيبقى الإنسان غارقاً في الجهل ويبحث إلى ما لانهاية عن سر الأسرار فيما يتعلق بالكون؟ لم أكن الأول ولن أكون الأخير الذي يتصدى لهذه المهمة العويصة والصعبة جداً وهو سفر قام به أجدادنا منذ ما قبل التاريخ ومروراً بحضارات ما قبل الميلاد خاصة الحضارة الإغريقية وانتهاءاً بمؤلفات كتبها العلماء أنفسهم بلغة مبسطة لتقريب الفكرة العلمية لأذهان وعقول القراء لكنني أعتقد وبتواضع أنني من رواد هذا الجهد في العالم العربي وباللغة العربية.
حاولنا التطرق في مقالات سابقة إلى أغلب ما توفر في سوق الكتب والأبحاث والانترنيت من دراسات وبحوث ونظريات وتجارب بغية الإجابة على سؤال هل نحن وحيدون في هذا الكون وهل نحن فلتة في عملية الخلق لم تتكرر في أماكن أخرى في هذا الكون اللامحدود؟
الحضارات الأميركية القديمة، الشمالية والجنوبية، في فترات سحيقة في قدمها، قبل اكتشاف العالم الجديد من قبل الأوروبيين، أي حضارات السكان الأصليين من الهنود الحمر، امتلكت وراكمت كماً هائلاً من المعارف والمعلومات والأخبار الشفهية في كافة المجالات، وبالأخص علم الفلك، وتحدثت أساطير تلك الأقوام بكثرة عن كائنات وبشر وآلهة هبطوا من السماء، لانعرف بأية وسيلة، وماهو مدى ماتوصل إليه هؤلاء الزوار السماويين من تقدم علمي وتكنولوجي في وقت كان البشر على الأرض يعيشون عهد الطفولة لحضاراتهم. وكان الصينيون في عهد قديم يعتقدون بتعدد العوالم، والمصريون يعتبرون الأرض شبيهة بالقمر والكواكب السبعة التي كانت معروفة لديهم في ذلك الوقت، وكانت أطروحات متداولة بين النخب عن لانهائية العالم وأزلية الكائن البشري وربما خلوده عبر أسطورة تناسخ الأرواح، وكان هناك اعتقاد سائد بأن القمر مأهولاً بالسكان كما هو حال باقي الأجرام السماوية.
وفي عهود أقرب إلينا تعود إلى نصف قرن قبل الميلاد، انتشرت أفكار مماثلة بين المفكرين والفلاسفة الإغريق. فهناك المفكر والفيلسوف اليوناني آناكساغور Anaxagore الذي عاش في سنة 428 قبل الميلاد الذي أعرب عن قناعته الراسخة بأن القمر مأهول بالبشر الذين يشبهوننا وهم يعيشون في مدن تشبه مدننا. وكذلك الفيلسوف اليوناني مترودور دولامبساك Meacute;trodore de Lampsaque الذي عاش قبل 2000 عام من الآن والذي قال جملته الشهيرة:quot; من يعتقد بأنه لايوجد سوى عالم واحد مسكون بالبشر في هذا الكون العظيم لايقل جنوناً عمن يقول أو يتصور أنه لاتنبت في حقل الحنطة الشاسع الممتد أمامي هذا سوى سنبلة قمح واحدة quot;. أما الشاعر والفيلسوف اللاتيني لوكرس Lucregrave;ce، الذي عاش عام 53ـ95 قبل الميلاد، فقد كتب في كتابه quot; في طبيعة الأشياء de la nature des chosesquot; :quot; في كل مكان تجد فيه المادة فضاءاً أو مكاناً يحتويها، وانعدام وجود أي عوائق ضدها، فإنها ستخلق الحياة تحت أي شكل من الأشكال. إن عدد العناصر من الكثرة بمكان فإن حيوات جميع البشر لا تكفي لعدها وإحصاءها. وإذا كانت الطبيعة قد حبت العناصر بنفس الخصائص التي منحتها للمبادئ المحفزة والخالقة للأرض، فإنها هي ذاتها متوزعة ومنتشرة في كل مكان في الكون وبإمكانها أن توجد فيها عوالم مسكونة وبشر لا يختلفون عنا وكائنات لا يمكننا تصورها أو تخيلهاquot;. وحتى في خضم عهود القمع الوحشي ومحاكم التفتيش السيئة الصيت وهيمنة الفكر الكنسي المتقيد بالنص الديني كان هناك أشخاص متنورون حتى من داخل الكنيسة وقفوا ضد الفكر الظلامي المتخلف مثل الكاردينال والعالم الإيطالي نيكولا دي كوسا Nicola de Cusa،الذي عاش سنوات 1464ـ1401 بعد الميلاد، والذي قال:quot; لا توجد كواكب، مهما اختلفت عن كوكبنا الأرض، نشعر إزاءها بأنه من المسموح لنا القول بأنها لا يمكن أن تتقبل في أحضانها كائنات بشرية مثلناquot;. وتساءل غاليليو غاليله 1642ـ1664، إذا كانت هناك كواكب يمكن أن تكون ملجئاً لأشكال من الحياة تشبه حياتناquot;. وبنفس الاتجاه فكر فلاسفة ومفكرين آخرين كديكارت وغوته وكانط. أما الماركيز لابلاس Laplace 1827ـ1749، وهو عالم فلك ورياضيات ومؤسس مدرسة البوليتكنيك والمدرسة الطبيعية العليا Ecole polytechnique et Ecole Normale، وأحد طلاب وأتباع كانط، فقد كتب في أحد مؤلفاته:quot; خلق الإنسان لكي يعيش في درجة حرارة معتدلة يتمتع بها كوكبنا الأرض، ولايمكنه أن يعيش في عوالم أخرى يختلف مناخها عن مناخ الأرض وجوها. ولكن لماذا لايمكننا تصور وجود عدد لا متناهي من الكائنات تنظم نفسها وتتكيف لكي تعيش وتتحمل درجات حرارة متنوعة عما نعرفه وفي عوالم وأكوان أخرى؟ وتخيل الأدباء في مؤلفات الخيال العلمي جميع أنواع الكائنات اللابشرية في الكواكب والنجوم البعيدة سواء داخل مجموعتنا الشمسية أو خارجها، وفي داخل مجرتنا أو خارجها، وجسدتها السينما في أفلام الخيال العلمي عبر تاريخ السينما برمته وبكثير من الإتقان والخدع السينمائية البصرية والمؤثرات الخاصة الصوتية والمرئية مما جعل تلك الكائنات مألوفة لدينا وكأنها تعيش بيننا. من هنا يمكننا القول بأن للبشر أقرباء في كواكب أخرى وربما يكون أسلاف لنا في الماضي السحيق قد بلغوا درجات عالية جداً من التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي مما دفعهم لمغادرة الأرض واستكشاف الفضاء والالتقاء بحضارات أخرى وما علينا سوى العثور على آثارهم التي تركوها على الأرض للحضارات التي أعقبتهم منذ إنسان النياندرتال إلى إنسان الفضاء والكومبيوتر ومابعدهما.
لقد وصل الإنسان في أيامنا هذه إلى مرحلة من العلم تمكن فيها تخطي أغلب أخطاء الفيزياء. فعلماء الفيزياء يضعون ويطورون النظريات، ويجرون التجارب التي تغوص في أعمق أعماق الكائن وتضع في موضع الصد والمراجعة وجود المادة المرئية نفسه التي لا نعرف عنها سوى أقل القليل فما بالك عن المادة غير المرئية أو المادة السوداء والمادة المضادة. وقد أخبرتنا تجربة مثيرة أجراها عالم الفيزياء الفرنسي آلان آسبكت Alain Aspect بين أعوام 1979 و 1982، في المعهد البصري التابع لجامعة أورسي Universiteacute; drsquo;Orsay، أن المكونات الأساسية الأصلية للكون تتصل بعضها بالبعض بطريقة أو بأخرى متجاهلة المسافات الفلكية القائمة بينها والتي لا يمكننا تخيلها. حتى أن بعض العلماء، ومن بينهم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، من يعتقد أن الكون ليس سوى محض مخيلة fantasmagorie ذو جوهر روحي، وهذا ما يناقض كل ما تم عرضه في الصفحات السابقة التي عكست المحتوى العلمي الكلاسيكي والتقليدي للكون المادي والمرئي المعروف منذ عدة قرون.
فهل من الطبيعي أن يقتصر أمر التفكير بالكون وطبيعة العالم على نخبة النخبة من العلماء والمتخصصين وهل سيقتصر فهم العالم على فئة معدود ممن تخصص بالفيزياء الكونية والفلكية والفيزيائية الكمية أو الكوانتية التي لا يستوعبها أشخاص يعدون على أصابع اليدين؟ وهل نحن على أعتاب ثورة ثقافية وعلمية في هذا الميدان؟ هذا ما حاولت طرحه عبر الغوص في مواضيع معقدة وشائكة كفيزياء الكم، ونظرية الأوتار، ومصدر ومصير المادة والمادة المضادة والمادة السوداء، وقرينتها الطاقة بكل أشكالها وألوانها، والمكان والزمكان أو الزمكان، واللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، والحياة في العوالم والكواكب والمجرات الأخرى، والأطباق الطائرة، وغيرها من المواضيع التي غصت فيها ولم أسطع السباحة للوصول إلى شاطئ الأمان فاستسلمت للغرق. أعترف أنها لم تكن سوى محاولة متواضعة لم يكن الهدف منها سوى حث الشباب الناطق بالعربية على التفكير الحر والتأمل في ما يوجد حوله وألا يتقبل المسلمات كما هي ويخضع بسهولة لمحاولات غسل الدماغ التي يتعرض لها في مجتمعات مغلقة وغارقة في تقاليد الأسلاف.
والنتيجة البديهية التي يمكن الاقتناع بها مؤقتاً هي أنه في البدء كانت الإرادة وليس الكلمة كما تقول النصوص المقدسة، وهي شيء معنوي وليس مادي إنها إرادة لاتحتاج إلى مكان ولا زمان ول بداية ولا نهاية بيد أنها هي المصدر فهي التي قررت التحول إلى طاقة ومادة بأنواع وأشكال متنوعة وبكميات متفاوتة وقررت أن ترفدها بالحركة والقوة والجاذبية أو الثقالة ونظام التوالد والانعدام والتوالد من جديد في عملية خلق مستمرة إلى ما لانهاية حيث الوجود ولا جود غيره لا قبله ولا بعده من أصغر مكون من مكونات الذرة وما دونه إلى أكبر ما في الأكوان، المرئية وغير المرئية، من محتويات أبسط ما فيها هي المجرات والنجوم والكواكب، التي تحسب بمليارات المليارات، والخافي أعظم. وأن أحد هذه الموجودات المسماة المادة تحتوي على بذور خلق الحياة بكل أشكالها، البدائية، والذكية عندما تتوفر الظروف الفيزيائية لذلك، وأقصد بذلك الماء والهواء والتربة ودرجة الحرارة المناسبة والغلاف الجوي وأشعة الشمس، على ألأقل فيما يتعلق بنوع الحياة التي نعرفها نحن البشر وتوجد على كوكبنا المتواضع الأرض، ومن المؤكد أن الحياة موجود بأشكال ومستويات أخرى في مليارات الكواكب في كوننا المرئي والمرصود باعتراف علماء مرموقين. وأن كوننا المرئي هذا، بعظمته وشساعته ليس سوى ذرة من ذرات الوجود الأعم والأشمل المكون من عدد لامتناهي من الأكوان الحية وأن ما نسميه الله ليس خارج هذا الوجود ولا قبله بل هو الوجود ذاته النابع من الإرادة الأولية، إرادته. وكأن لسان حاله يقول:quot; كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فتحولت من الإرادة إلى الوجود quot;.
د. جواد بشارة
[email protected]
التعليقات