في تاريخ الأمم و الشعوب قيادات تاريخية فاعلة إستطاعت أن تصوغ علاماتها و تترك بصماتها المؤثرة على مصائر شعوبها و على مقدرات بلدانها ، و في تاريخ العالم العربي الحافل بالأساطير و الرؤى و التصورات بزغت أسماء و نماذج ثرية كانت بمثابة أساطير حية ساهمت في صياغة و صناعة تاريخ هذا الجزء الحيوي من العالم ، فقبل عشرة أعوام و تحديدا يوم 23 /يوليو / 1999 ، غيب الموت الملك المغربي الحسن الثاني (1929 / 1999) لتطوى بذلك صفحة مهمة من صفحات إدارة الصراع و تشييد البناء في ذلك البلد العربي القصي الحافل بكل أساطير التاريخ و تحولاته البنيوية المدهشة ، فالمغرب ألأقصى كان من الناحية التاريخية الصرفة بلدا له خصوصيته الوطنية بعرقياته و إثنياته الضاربة جذورها في عمق التاريخ ، كما كان يشكل في التاريخ العربي الإسلامي دورا تعبويا و ستراتيجيا مهما فهو البوابة الجنوبية للقارة ألأوروبية العجوز كما كان قاعدة الفتح الإسلامي لتلك القارة و لعب دورا حضاريا هائلا في التبادل و الحوار الحضاري و الذي كان عسكريا صرفا في بعض جوانبه ، وكانت حضارة الأندلس الزاهية عنوانا رائعا لذلك التلاقح الحضاري المدهش، كما كان المغرب هو البلد العربي الوحيد تقريبا الذي لم يخضع للإحتلال و الهيمنة العثمانية وعاش أوضاعه الخاصة بدوله و إماراته حتى مجيء الحماية الفرنسية للبلاد عام 1912 و التي أدخلت البلاد في طور جديد و مختلف كرس الهيمنة الثقافية و الإدارية الفرنسية و حاول التلاعب بحقائق وطبيعة التركيبة الإجتماعية المغربية من خلال العمل على نشر الفتنة العرقية و الإنقسام القومي داخل المجتمع المغربي المنصهر في بوتقته الوطنية و التاريخية الخاصة من خلال دعم و تشجيع ما كان يسمى بالظهير البربري في ثلاثينيات القرن الماضي و الذي حاول تمزيق أواصر الوحدة الوطنية المغربية.

وكان تصاعد نضال الحركة الوطنية المغربية منذ أربعينيات القرن الماضي قد فرض واقعه عبر تصاعد حركة المقاومة الشعبية ضد الإستعمار الإستيطاني الفرنسي الذي كان في حالة إنحسار متوالي ، وجاء عام 1953 لتشهد فصوله الساخنة متغيرات كبرى على صعيد تطوير آليات عمل المقاومة الوطنية المغربية التي كانت تحظى بدعم و تعاطف و مساندة كاملة من السلطان ( الملك ( محمد بن يوسف ) المعروف بمحمد الخامس وهو مادفع الفرنسيين للتصرف بعنجهية وخلع السطان محمد الخامس و تنصيب دمية خاضعة لهم وهو محمد بن عرفة الذي رفضه الشعب المغربي فيما تم إبعاد و نفي محمد الخامس و أسرته لمدغشقر حتى تيقن الفرنسيون من إستحالة المضي في هذا القرار و أضطروا لإعادة الملك محمد الخامس لعرشه و بلده في واحدة من أكبر تحولات و أحداث بدايات النصف الثاني من القرن العشرين و كان ذلك عام 1955.

وحيث تم رسميا إلغاء الحماية و إعلان إستقلال المملكة المغربية عام 1956 و بداية عهد وطني و حضاري جديد و مختلف وحيث كانت تحديات الإستقلال كبيرة و رهيبة أيضا تمثلت في سلسلة التمردات و محاولات الإنفصال في منطقة الريف الشمالية وكذلك في مناطق الأطلس المتوسط و في الإستعانة بالقوات المسلحة المؤسسة حديثا وقتذاك لقمع تلك الحركات ، ثم رحل محمد الخامس في بداية عام 1961 ليدخل المغرب في مرحلة جديدة و مختلفة مع ولي عهده الشاب الملك الحسن الثاني الذي شكك الكثيرون بقدرته على ملأ الفراغ الكبير الذي تركه رحيل والده قبل أن يدرك هؤلاء المشككون بأنهم على خطأ كبير ، لأن الحسن الثاني قد أبان عن قدرة متميزة على إدارة الملفات و التعامل مع الأزمات في مرحلة صعبة و مصيرية من تاريخ المغرب و العالم العربي في زمن كانت الإنقلابات العسكرية فيه هي سيدة الموقف.

وكانت رياح الإستقطاب الدولي و الحرب الباردة تموج بأقصى طاقاتها محاولة فرض رؤاها بعد أن تمكنت من الولوج لبلدان عربية عديدة عملت فيها معاول الإنقلابيين العسكريين هدما و تدميرا في بنيتها كما كان الحال مثلا في العراق و سوريا و مناطق أخرى ، لقد كان الحسن الثاني وهو يقاوم بشراسة كل التحديات التي جابهت المغرب و نظامه السياسي صلبا في تعامله واثقا من نفسه حاملا لرؤية و فلسفة سياسية خاصة تمثلت أساسا في الحفاظ على وحدة المغرب و في العمل على تراكم البناء المجتمعي و الوصول لحالة توافقيه قد لا ترضي الجميع و لكنها ضرورية للحفاظ على المواقع و لمحاولة البناء بشكل هاديء بعيد عن الصدامات الكبرى و التحولات الراديكالية رغم أطنان المشاكل الهائلة و التي تستدعي الإستعانة بوسائل و أدوات القمع السلطوية و التي لا بد منها من أجل بناء و تعزيز المواقع و الحفاظ على النفس ، ولقد أبان الحسن الثاني عن قدرة مدهشة على فن البقاء و التحدي و الوقوف بوجه عناصر إنقلابية شرسة و رهيبة لم تستطع أبدا أن تفرض رؤاها و تدفع بالمغرب نحو متاهات ألإنقلابات العسكرية و ألأنظمة الراديكالية بشعاراتها الزاعقة التي لم تستطع أبدا أن تحل مشاكل الجماهير بل على العكس عمقت من ألأزمات و المصائب و هو ما نراه بوضوح اليوم في شرق العالم العربي حيث الدكتاتورية و الحروب ألأهلية و الإحتلالات الأجنبية و فشل الدولة الوطنية المريع ، لقد تعرض الحسن الثاني لأخطر المحاولات الإنقلابية في تاريخ العالم الثالث وفي فترة زمنية متقاربة و غير مسبوقة.

كانت ألأولى في العاشر من تموز / يوليو 1971 و هي المعروفة بإنقلاب قصر الصخيرات الذي كتب عنه الكثير وكانت مجزرة مروعة نجا المغرب و العرش منها و من مخاطرها و لكنها أسست لمحاولة إنقلابية أخرى في صيف العام التالي 16 / 8 / 1972 في محاولة المتآمرين في سلاح الجو المغربي إسقاط طائرة الملك الخاصة وهي التي نجا منها بأعجوبة أيضا ، ليدخل المغرب في مرحلة حرجة من تاريخه عرفت بمرحلة سنوات الرصاص و التي إعترف النظام المغربي بشجاعة فائقة بكل مراحلها المرة و كل أساليبها المؤلمة و عمد للمالحة مع الذات و الوطن و التاريخ في خطوات غير مسبوقة في العالم العربي.

لقد كان الشار الأثير و المثير للتأمل للملك الراحل هو : ( إن الوطن غفور رحيم )! و قد نجح فعلا في تطبيقه ميدانيا من خلال إرساء لغة الوار الحضاري و تجنب حوارات الدم التي كلفت المغرب الكثير وهو ما حرص الحسن الثاني على تحقيقه ليسلم السلطة للمعارضة التاريخية التي ناصبته العداء وهو ما عرف بحكومة التناوب التي شكلها المعارض التاريخي السيد عبد الرحمن اليوسفي عام 1998 وفي الأيام الأخيرة للحسن الثاني و الذي رحل بعد أن ترك لخليفته محمد السادس مغربا حرا متصالحا مع ذاته ، و بلدا يسير بخطى حثيثة في طريق البناء و التطوير الوطني بعد أن تجنب هزات الحرب الباردة المدمرة.. لقد كان الحسن الثاني ملكا تاريخيا في مرحلة إنقرض فيها تلك النوعية من الملوك ، و التاريخ وحدة هو من سيحكم في النهاية على ملك إستطاع بجدارة أن يعيد تشكيل تاريخ المغرب الحديث.

داود البصري

[email protected]