جاء المرسوم الملكي بالموافقة على نظام القضاء ونظام ديوان المظالم والموافقة على آلية العمل التنفيذية لهما في إطار الإصلاحات في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (حفظه الله). وقد أوجد النظام الجديد ولأول مرة محاكم متخصصة في القضاء التجاري والعمالي والجزائي وقضاء الأحوال الشخصية وهو الأمر الذي لم يكن معمولاً به في السابق. وقد نص نظام القضاء على أن تكون المحاكم التجارية محاكم مستقلة عن باقي المحاكم، وأن توجد في جميع مناطق المملكة، وأن تستأنف أحكامها أمام دوائر الاستئناف التجارية في محاكم الاستئناف وأن يجوز الطعن في أحكامها أمام دوائر التمييز في المحكمة العليا.


إن هذه الخطوة تُعد إيجابية بكل المعايير، نظراً لأن قيام محاكم تجارية قد أصبح ضرورياً في ظل ارتفاع معدلات التنمية بالمملكة وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار فيها، إلى جانب التغيرات السياسية والاقتصادية العالمية التي تقتضي عملية المواءمة للتشريعات النظامية والهياكل الاقتصادية بهدف الاندماج والتعايش مع مستجدات الواقع الاقتصادي العالمي، فضلاً على أنه يصعب على أي قاضٍ مهما كانت كفاءته وعلمه أن يكون ملماً بكافة هذه الأمور في وقت تزداد فيه الحياة تعقيداً وتشعباً.


كما أن من شأن قيام تلك المحاكم التعجيل في عملية البت في القضايا والمنازعات ونقل اختصاصات الدوائر التجارية في ديوان المظالم واللجان التجارية المتخصصة في الجهات الأخرى كمكاتب الفصل في قضايا الأوراق التجارية ولجان الفصل في قضايا الغش التجاري وغيرها من اللجان إلى المحاكم التجارية. كما أن التعجيل بقيام تلك من شأنه الإيفاء بمتطلبات تدفقات الاستثمار الأجنبي للمملكة، لا سيما أنها جاءت ضمن أفضل الدول في العالم في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية، وما يواكب قيامها من دخول المزيد من الشركات والمستثمرين، حيث سيوفر قيام تلك المحاكم ثقة للاستمرار في قيام تلك الجهات باستثماراتها، إلى جانب أن المتغيرات الاقتصادية على الصعيدين الوطني والعالمي تقتضي وجود نوع من القضاء المتخصص تجارياً وتوحيد إجراءات التقاضي وتوحيد مرجعية القضايا التي كانت موزعة بين عدة جهات حكومية.


كما أن قيام تلك المحاكم سيسهم بشكل كبير في رفع درجة الشفافية المعمول بها في المملكة وفهمها من جانب المستثمرين الأجانب، كما سيساند ذلك أدوار الهيئة العامة للاستثمار لدى قيامها بشرح النظام القضائي بالمملكة، الأمر الذي يُحفز كثيراً من المستثمرين على الإقدام للاستثمار في المملكة، حيث إن هنالك اعتقاد لدى بعض الأفراد والشركات الأجنبية بأن القضاء والأنظمة المعمول بها في المملكة أمر يكتنفه الغموض، بل إن كثيراً من هؤلاء المستثمرين قد أحجم عن الاسثمار بالمملكة نتيجة لهذا الاعتقاد وعدم وجود التخصصات القضائية المطلوبة، والأهم من هذا كله أن إنشاء هذه المحاكم يسهم في عملية توحيد الإجراءات الخاصة برفع الدعاوى ووقفها وإجراءات التبليغ والمداولات وإصدار الأحكام وإجراءات الاستئناف وشروطه وتنفيذ الأحكام وغيرها، حيث تتفق طبيعة هذه المحاكم مع طبيعة الشأن التجاري الذي يتطلب السرعة اللازمة في البت في القضايا المرفوعة، نظراً لأن طبيعة التعاملات الاقتصادية تتطلب الديناميكية والمرونة وسرعة الاستجابة والتحرك العاجل.


ولابد من الإشارة إلى أن واحد من أهم الضمانات والإجراءات اللازمة لنجاح هذه المحاكم وقيامها بدورها المطلوب يتم من خلال إعطاء دورات تدريبية للقضاة وكُتابهم وكافة العاملين في المجال القضائي للتعرف على طبيعة هذه القضايا وإطلاعهم على التطورات والمتغيرات التي تأخذ بها العديد من الدول الأخرى في هذا المجال، نظراً لعولمة الاقتصاد وتشابك العلاقات والمصالح التجارية الدولية، إلى جانب أن هنالك تعاقدات تجارية مستمرة وسريعة تتم من خلال الشبكة العنكبوتية وخلافها مما يتطلب إدراكاً ومواكبة لها.
ومن الأهمية بمكان لتحقق هذه المحاكم التجارية أهدافها استنباط آلية ووضع تقنين واضح وكفيل بعلاج عملي لتعويض الطرف صاحب الحق عن ما فاته من كسب وتحميل مصاريف الدعوى كاملة للطرف المتسبب في الضرر للطرف الآخر، إلى جانب إيجاد مخرج شرعي وعملي مقبول لما يترتب على تعطيل حقوق الآخرين، إذ لا يُعقل أن يطالب شخص ما بحقه طوال سنوات عديدة وينتهي به الأمر بعد هذه السنوات إلى مجرد حصوله على حقه فقط، من دون اعتبار للقيمة الشرائية التي قد تتناقص بمرور الزمن، بل ومن دون استصحاب الواقع والمتغيرات العالمية التي تعتبر أن للمال قيمة وتزداد هذه القيمة مع تقادم الزمن والأيام.


د. خالد النويصر
كاتب ومحام ومستشار قانوني
[email protected]