في مؤلفاته الثلاثة، الأكثر أهمية، نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم، يفاصل كانط ما بين الحسية، الفهم، العقل، مانحاً للثاني دوراً ودلالة إستثنائية في تاريخ الفلسفة، معتبراً إياه ليس فقط القدرة على الإستنباط والإستنتاج، المعاني والأفكار، إنما أيضاً المجال الإفتراضي لأنطولوجية موضوعة ( الشيء في ذاته ) أو ( الأشياء في ذاتها ). هذا التصور الكانطي الصرف الذي هو الأس البنيوي في التمايز المحتمل ما بين مقولتي الجوهر والمظهر، والذي أخطأ كبار الفلاسفة، هيجل، ماركس، أنجلس، في إدراك منطوقه الحيثي، هو الذي يصادق على المفاهيم الترانسندنتي الغيبي، الترانسندنتالي المعرفي، الديالكتيك الترانسندنتالي. فالشيء، وهذا هو تعسف وجزافية هؤلاء السادة، لاينقسم ما بين المظهر الذي يمكن إدراكه ومعرفته، والجوهر الذي لايمكن لاإدراكه ولامعرفته، إنما هو الأثنين معاً، أحدهما في الفهم، والثاني في المحسوس. وهذا لن يدرك ( بضم الياء ) بصورة إبستمولوجية وإنطولوجية، إلا إذا أكدنا، حسب كانط، على أمرين. الأمر الأول: أن التجربة لاتهجر آفاق الحسية، الحساسية، وليس بمقدورها أن تفسر العلاقة ما بين السبب والنتيجة، إلا من منظور تعاقب الأحداث كنسخة رديئة عن مفهوم، هيوم، الحسي التجريبي. الأمر الثاني: إن العقل في مسلماته الأولية لايمكن أن يعالج ضمن المسألة الأساسية في المعرفة الكانطية إلا المعرفة التركيبية القبلية التي يوسمها كانط بالمعرفة اليقينية. خارج هذا المجال يفقد العقل، حسب كانط، أركانه، لذلك من المستحيل إقامة البرهان النظري على وجود الرب المسيحي، وهذا هو قوة العجز في العقل، نقد العقل، علاوة على ذلك إننا نستخلص، عكس ما نتوهم، منطوق البرهان النظري من مفهوم الرب، في هذه الجزئية هو محق تماماً، مع مفارقة أكيدة وهي إننا نستنبط، في الحقيقة، هذا المنطوق ليس من مفهوم الرب، إنما من مفهوم الإنسان عن الرب. وهذه الرؤية الكانطية هي التي قادته إلى القوانين الموازية، تلك القوانين التي تنتمي بصورة قبلية إلى مجال الفهم دون الطبيعة، وهذه القوانين هي، قانون بقاء وحفظ الجوهر، قانون السببية، قانون التأثير المتبادل للجواهر، وكما هو واضح من محتوى القانونين الأول والثالث ومن مضمون القبلية لدى كانط، إنها، وإن إنتمت إلى مجال الفهم، تتمتع بكينونتها فيما قبل الفهم، وتحتفظ بمعناها فيما بعد الفهم، وبصورة مستقلة، لذلك إننا، حسب كانط، لاندرك مفهوم الشيء في ذاته ولن ندركه أبداً، فهو لا يستعصى ( بضم الياء ) على عملية المعرفة، كما توهم هيجل، ماركس، أنجلس، والسادة الآخرين، إنما هو أصلاً خارج عملية المعرفة. هذا من جانب واحد، ومن جانب ثان، إن هذه القوانين تعري ليس فقط طريقة تفكير كانط، إنما أيضاً نوعية فكره وتمركزه، فالمظهر لايرتقي إلى مستوى المقولة بالمعنى الكانطي لها، وبعكس ما يعتقد، لإنه، أي المظهر هو خارج الكائنية ( البونيادية )، كما هو خارج تلك القوانين، وكأنه لايمثل إلا المجموعة الفارغة في الهندسة الفراغية، أما المقولات لديه، هي في الحقيقة لاتجسد إلا ذوات مركزية، بل هي ذاتها. لذا آنما أعتقد كانط إن وحدة الجوهر والمظهر ليس إلا وحدة في الشكل والصورة بعيدة عن وحدة في المضمون والمعنى، تصادق مع نفسه، وهذا هو السر الدفين القابع ماوراء العلاقة ما بين هذه القوانين ومقولة كانط الشهيرة، الشيء في ذاته. تلك المقولة التي أدركها كانط بطريقة أنطولوجية وفسرها بطريقة إبستمولوجية، مما أربك هؤلاء السادة العظام. وهذا التفارق الكانطي يدلل بصورة باتة على المعرفة الأكيدة للأبعاد الفعلية للديالكتيك الترنسدنتالي الذي يشرئب بجيده من الترانسدانتي الغيبي كما لو إن هذا الأخير هو بعد أنطولوجي، ويغرف بدلوه من التناقض أو التوافق ما بين النظري والتجريبي على أساس إن وعينا هو من يمنح الموضوع في ذاته الإقتراضي، ذاته هو، لإن هذا الأخير يفتقر في (...... ينبغي أن يكون فراغاً وإلا أرتكبنا نفس مغالطة كانط ) إلى هذا الإضفاء، فهو لايستقل في ذاته بنفسه، كما لايستقل المظهر عن الجوهر، كما لايستقل الشيء عن الشيء في ذاته. وهكذا أنجلى لنا بصورة أكشف أهم بعد خفي فعلي في الفكر الكانطي، يخص المعادلة المركزية المستحكمة في العلاقة ما بين وعينا، وفكرة الجوهر، وتلك القوانين ( بقاء وحفظ الجوهر، التأثير المتبادل للجواهر )، مع مفاربة وهي إن هذا البعد ليس وحيد الأتجاه، وتعدده آت من المفهوم الكانطي، الما قبلي، فالمكان والزمان مفهومان قبليان للصور الحسية، بل للكل، بل ل(...... كي يكون التعبير دقيقاً )، وكأنهما خارج البونيادية، خارج ذاتهما، في المطلق، فيما وراء المطلق، في التجريد المحض. ومن هنا تحديداً تتشكل متطابقة ما بين تلك العلاقة السابقة ومفهوم المقولات الكانطية، إلا إن هذه المتطابقة هي عرجاء ظلعاء، ولكي ندرك ذلك لابد من الإعتراضات الآتية... الإعتراض الأول: هذا الإعتراض لايتعلق بجوهر فلسفته، إنما يكشف مدى ميزانه الفكري، فكانط يؤكد في مؤلفه ( التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماء ) إن المجموعة الشمسية قد تألفت من كتلة سديمية إحتوت على عدد هائل من الجسيمات المادية المنتشرة في الفراغ. و هذه الفرضية التي عرفت ( بضم العين ) فيما بعد بنظرية كانط ndash; لابلاس، والتي أنبهر السادة المادييون، أنجلس، بها، تحتوي على مغالطات تتعارض ومنطق العلم والفكر، منها. أولاً: ينبغي أن نعي أن قوانين نيوتن هي لما بعد تشكل المجموعة الشمسية وليس لما قبلها. ثانياً: إذا كانت الجسيمات المادية قد إنتشرت في الفراغ، فما هو هذا الفراغ !! وهل يوجد فراغ أصلاً !! ثم كيف إنتشرت تلك الجسيمات، وهل كانت مخزونة في كيس فضائي !!، ثم أنتشرعلى غرار الرؤيا الساذجة للإنفجار الكبير المزعوم. ثالثاً: إن هذه الفرضية لاتستقيم مع تكون الشمس، إذ يستحيل النقلة من التجمع الضعيف جداً إلى التجمع الأقوى خيالياً، لاسيما على صعيد التفاعلات الإستثنائية والضغط اللامتناهي. رابعاً: إن الدور الرهيب الذي تلعبه الكائنات الدقيقة في عملية تضادية، الحفاظ على الحياة وتفسخها معاً، تنفي مسألة الكتلة السديمية والجسيمات المادية. لذا ينبغي أن يكون للكون أصل آخر، فما هو هذا الأصل ؟ نحن نطرح بتواضع هذه الفرضية، وبداءة من المفروض أن نعي تمام الوعي إن الكون هو كائن تولد ونشأ وتطور ومازال يتطور، فمر بمراحل جنينية، فتية، ومابرح يمر، ولكي لانصطدم نحن بنفس المغالطات القديمة، نعتقد إن أصل الكون وينبغي أن يكون بالضرورة طاقة، نسميها إحترازياً بالطاقة المتحولة، لكن ماهي شكل ونوعية هذه الطاقة، وكيف ملكت القدرة على التحول، ثم على التطور، وما هي القوانين التي حكمتها قبل أن تتحول إلى البذرة الأساسية لكوننا هذا، وما هي القوانين التي حكمتها أثناء المرحلة الجنينية، والتي تحكمها الآن، كل هذه المعضلات وغيرها نتركها للزمن، أي لتطور العلوم. الإعتراض الثاني: يؤكد كانط إننا لايمكن، ولن يمكن، أن ندرك مفهوم الشيء في ذاته. لكن كيف تسنى له ذلك ! نحن هنا إزاء إحتمالين، إما إنه عرفه أو إنه لم يعرفه قط، في الحال الأولى ستكون فرضيته معكوسة ومعرفتنا صحيحة والدليل إنه عرف الشيء في ذاته. أما في الحال الثانية، فكيف تيقن بوجود شيء لايعرفه ولايدركه، وكيف يؤصل ويؤسس فلسفة كاملة على قضية غير معروفة ولا مدركة لديه. وأما إذا كان ذلك من قبيل الحدس، فنحن إزاء إحتمالين أثنين، فلو كان الحدس معرفياً لبطلت فرضيته، وإذا كان إفتراضاً محضاً، فلايمكن أن نأخذ به إلا على سبيل الإستئناس. الإعتراض الثالث: في نقده للعقل، ينتقد كانط، في الحقيقة، ودون أن يدري، عقلنا الإبستمولوجي الخاص، ودون أن يدرك طبيعة الدمج ما بين سؤالين، ما هو المطلوب من العقل، وما هي قوة المعرفة فيه. فالعقل وإن إعتمد على المسلمات والمبادىء الأولية، يستحيل عليه التقدم في التراكم النظري دون الإعتماد على المعرفة، فهو جهاز إدراكي معرفي يتطور، ولايتطور في مادته إلا بتطور العلوم، لذلك لايحق له أصلاً الإجابة على أي سؤال يخطر على بال البشر، ولإنه قد فعل، إستجابة لرغبة إنسانية حمقاء، فإننا بحاجة إلى زمن طويل كي ننظف وننقي المعرفة الحالية البليدة للحصول على أساس وأس معرفة جنينية حقة موضوعية في المستقبل. الإعتراض الرابع: لدى الإمعان في محتوى القوانين السابقة ( بقاء وحفظ الجوهر، قانون السببية، التأثير المتبادل للجواهر )، نعي بكل وضوح إن القانون الأخير يتعارض مع الفكر الكانطي، فبغض النظر عن كيفية حدوث التأثير، لامندوحة من السؤال التالي، أين يحدث التأثير ؟. نحن هنا إزاء ثلاثة إحتمالات، قد يحدث في المفهوم، أو الجوهر، أو المظهر، إذا حدث التأثير في المفهوم، فهذا يعني إن الما قبلي الكانطي لم يعد ما فبلياً وهذا ما لا يستسيغه كانط لإنه يطيح بأهم أعمدة نسقه الفكري. وإذا حدث ذلك في الجوهر في صميمه، فهذا يبرهن إن فكرة الشيء في ذاته لم تعد كما هي على الصعيد الإنطولوجي، بل باتت، علاوة على ذلك، مدركة ومعروفة وإلا لما حدث التأثير، ومن جانب آخر لما أدركناه نحن، أي التأثير، أصلاً. وإذا حدث هذا في المظهر، فهذا يعني إن المظهر لايمثل الشكل والصورة في عملية الوحدة ما بين الجوهر والمظهر، إنما هو جزء أنطولوجي في المعنى والموضوع، وهذا ما يرفضه كانط لإنه يفند ويدحض مزاعمه الفكرية حول الجوهر. الإعتراض الخامس: يعتقد كانط إن المعرفة التركيبية القبلية التي هي جزء من المعرفة ( الشاملة ) مع شقيقتها التحليلية، والتي يوسمها باليقينية، هي خارج نطاق التجربة، بل هي ما قبل نطاق الحس والعقل، وإن كانا، كلاهما، مصدرها حسب كانط. ولو وجدت هذه المعرفة لحق لنا التساؤل عن مصدر اليقين فيها، فإما أن تكون يقينية في ذاتها، أو يقينية بالإعتماد على ذات أخرى. ونحن من زاويتنا نرى إن كانط لايدرك طبيعة الإشكالية في هذه القضية، لإنه يلغي، ضمنياً ومضمراً، الإحتمال الثاني لحساب الأول مع إعترافه إن الرب المسيحي هو الذي فطر الكون وهذا تناقض في الجذور، دون أن يدرك إن المعرفة اليقينية ليست بحاجة إلى برهان نظري، وبالتالي يمكننا أن نحصل على معرفة نظرية لامتناهية، وهذا، وإن بدا متطابقاً مع رؤيته حول المعقول، يتناقض مع فكرة الأشياء في ذاتها، ومع دالة المعرفة، على الأقل، لدى الإنسان. الإعتراض السادس: إن المقولات لدى كانط لاتعكس صور الوجود ولاتطوره، فهي قبلية في الفهم الإنساني، بل هي مفاهيم هذا الفهم خارج نطاق التطور والتحول والنقلة، وهذا يتعارض مع مدلول تلك القوانين ( السببية، التأثير المتبادل للجواهر )، لاسيما قانون السببية لإنه سيمسي لاقانوناً، ينفي دالته في ذاته. الإعتراض الأخير: إن مفهوم الشيء في ذاته يخالف محتوى التطور، وبالتالي يضفي على الوجود والطبيعة الجمود والهمد، سالباً منهما مفهوم الغاية، إن وجدت هذه الأخيرة

هيبت بافي حلبجة