لا شك أن الرسالة التي بعث بها الرئيس الأمريكي إلي رئيس السلطة الفلسطينية في منتصف شهر يولية الماضي وجاء فيها quot; في حالة قبولكم دخول المحادثات المباشرة سنعمل سوياً علي تحقيق هدف تواجد دولتين متجاورتين، دولة فلسطينية متواصلة ذات سيادة قابلة للعيش في أمن وسلام إلي جانب إسرائيل quot;.. عنت الكثير بالنسبة للسيد محمود عباس سواء حوت تهديداً أشارت إليه بعض وسائل الإعلام الأوربية بخفض حجم التعاون المادي والمعنوي معه، أو لم تتضمن أي نوع من أنواع التهديد كما ورد علي لسان الدكتور صائب عريقات، أما بالنسبة للغالبية العظيم من قطاعات الشعب الفلسطيني فلم تقدم السبل ولا الجدول ولا السقف الذي يقود إلي نهاية محققة يؤدي إليها quot; العمل سويا لتحقيق هدف قيام الدولتين quot; كما تضمنه رسالة البيت الأبيض..

في اللحظة الراهنة يمكن القول دون مواربة أن سلطة محمود عباس مهددة ndash; بشكل ظاهر أو خفي ndash; بالتفكك لأسباب مالية وتنموية..
مالية، أساسها اعتمادها الكلي في جميع أنحاء الضفة علي القروض والهبات التي تصلها من الدول المانحة لكي تفي بواجباتها النقدية حيال العاملين في إداراتها التي تشكل حكومة بلا اختصاص أو أداء.. هذا الاعتماد وضعها بين فكي الكماشة:
-حتمية الوفاء بالتزاماتها حيال هذه الجموع خشية اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية تطالب بصرف المستحقات المالية الضامنة لاستمرار نمط الحياة التي تعود أنصارها عليه من ناحية..

-وحتمية طاعة الإدارة الأمريكية عندما تطالبها بالدخول في محادثات مباشرة بلا ترتيبات واضحة او ضمانات مؤكدة وجلية من ناحية أخري..
وتنموية، تصارع من أجل استكمال مسيرة التحديث التي بدأها رئيس الوزراء سليمان فياض وأدت إلي انتعاش فلسطيني مصطنع يطلق عليه quot; الحراك الاقتصادي الاستهلاكي التبادلي quot; علي مستوى التجمعات والمصالح الفلسطينية والإسرائيلية المتداخلة ضمن جغرافية الضفة.. مسيرة ساعدت أفكار الرباعية الدولية بشكل ملحوظ علي انتشار سلوكيات quot; التهدئة السلمية quot; بين السلطة في الضفة وإسرائيل، حان وقت اختبار مدي قوتها للدفع بقوة في أقرب فرصة ممكنة ناحية الدخول في مباحثات مباشرة تتعهد ببقاء المسيرة في طريقها تحت ضغط المطالب الإسرائيلية التعجيزية.. وإلا توقفت المسيرة برمتها وهدمت هياكلها فوق رؤوس السلطة والمتعاونين معها..
هذا هو المأزق الذي قاد إليه التكتيك الذي بدأ سليمان فياض تنفيذه منذ تولي رئاسة وزارة السلطة في رام الله.. الانتعاش الاقتصادي الذي يربط الشعب الفلسطيني بمستقبل بعيد عن سفك الدماء ويؤسس لنوع من الانفراج السلمي يؤدي في نهاية المطاف إلي quot; الرضا بما يُقدم له من فتات الدولة الفلسطينية quot; سواء ولدت قادرة علي الحياة أم لا !! وبغض النظر عن مستوي الأمن والسلام الذي تعيش فيه إلي جانب إسرائيل..

هذا هو موقف السلطة بلا زيادة ولا نقصان..
أما موقف إسرائيل فمختلف تماماً..
لأن حكومة نتنياهو نجحت إلي حد كبير في مواصلة البناء تكتيكياً علي ما جنته من مكاسب خلال الأشهر الـ 18 التى توقفت فيها المفاوضات غير الأمنية بينها وبين الجانب الفلسطيني في رام الله..
فهي وحدها التي حققت المكسب تلو المكسب خلال هذه الفترة..
-حركة الاستعمار الاستيطاني دائرة علي قدم وساق، حتى في ظل التعهد للرئيس الأمريكي بوقفها.. كان البناء والتشييد مستمرين تحت شعار quot; استكمال الوحدات التي أوشكت علي الانتهاء وبأموال التبرعات الأمريكية اليهودية..

-مؤشر التهدئة الذي ينعم بها شعبها غير مسبوق سواء في الضفة أو في القطاع..
-لا زال الخلاف طاحنا بين الجبهتين الفلسطينيتين حماس وفتح مشتعلا..
-الرئيس بارك أوباما بدأ أكثر استجابة لتفهم وجهة النظر الإسرائيلية وأصبح أكثر حرصاً علي الاستماع لرئيس الوزراء الإسرائيلي مما بدا عليه فور توليه المسئولية في يناير 2009.. بسبب قرب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس بعد بضعة أسابيع..
-تم تحجيم دور الرباعية الدولية بعد أن وضح شللها الفاضح خلال تعاملها المريب مع قرصنة إسرائيل في المياه الدولية أواخر شهر مايو الماضي، إلي الدرجة التى جعلت نتنياهو يعلن رفضه المسبق لقرارها إذا تبني وجهة النظر الفلسطينية..
إسرائيل تريد أن تجر السلطة الفلسطينية جراً طوعيا أو جبرياً إلي قاعة مباحثات مباشرة بغرض إضاعة الوقت والحقوق.. إسرائيل لديها القدرة علي المماطلة والتسويف أي كان الحزب أو التيار السياسي الذي ينتمي إليه رئيس وزرائها.. السلام العادل المستقر الذي يساوي بين الجيران ليس من بين مطالبها، هي تسعي إلي سلام يُفرض علي الغير ويحقق مصالح مجتمعها علي حساب الآخرين سواء كانوا محتلين أو أصحاب سيادة..
مثل هذه الدولة العنصرية المحتلة لا تنفع معها مباحثات مباشرة أو غير مباشرة.. لا ينفع معها المطالب الحقوقية التي تقدم علي أوراق مصقولة.. ولا يؤثر فيها تدخل أطراف دولية تهادنها باعتبارها حليف استراتيجي لا غني عنه..
لم ينل شعب استعمر واحتلت أرضه، استقلاله بمفاوضات مباشرة مع القوة التي تغتصب حقوقه وتاريخه إلا بعد أن أذاقها مناضلوه من ألوان المقاومة الشريفة الباسلة ما أجبر حكومتها علي الجلوس بموجب الحق في المقامة إلي مائدة التفاوض الندية..
وطالما ظلت السلطة الوطنية الفلسطينية محتاجه لأموال المانحين، فلن تفاوض بندية..
وطالما نخر الانقسام في جسدها، فلن تفاوض بندية..
وطالما أوقفت نشاطها المقاوم المسلح إبقاءً علي الدعم المالي ولأجل ان تبلغ المسيرة التنموية أهدافها، فلن تفاوض بندية..
اللحظة الراهنة مفصلية..
وعلي السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس أن تختار بين الإذعان للمطالب والضغوط الأمريكية ndash; كل يراها من زاويته التحليلية - وبين الحاجة لاستعادة ثقة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه المقاومة..

وحتى تأتي هذه اللحظة وهي قريبة جدا، نقول..
إن تبني الاختيار الأول لن يؤدي إلي تحقيق المطالب التي يخطط لها.. فلن يتوقف الاستيطان الاستعماري في الضفة والقدس ولن تقام الدولة الفلسطينية علي الأراضي التي احتلها إسرائيل بعد يونية 67.. ولن تكون القدس الشرقية عاصمة لهذه الدولة عندما تولد.. وبالطبع لن يكون هناك حق لعودة الفلسطينيين..
أما الأخذ بالاختيار الثاني فيتطلب أولاً وقبل كل شئ فك الارتباط بين السلطة وإسرائيل، وهذا علي صعوبته التي ستنعكس علي الكل في الأراضي الفلسطينية من مستوي النخب إلي مستوي الناس العاديين.. هو القرار الوحيد الذي سيقود إلي توحد الشعب الفلسطيني خلف مناضليه الساعين بأرواحهم ودمائهم للتحرير والخلاص من نير الاستعمار..
ومهما كانت المخاطر والتضحيات، فسيكون الطريق نحو الحرية وقيام الدولة الفلسطينية أقصر من السير في أنفاق المفاوضات الملتوية المظلمة اللانهائية..

bull;استشاري اعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]