محمود عبد الرحيم من القاهرة:قليلة هي الأفلام التي تستوقفك وتصيبك بالدهشة ، وسط عشرات مما تنتجه السينما المصرية خلال السنوات الأخيرة ، والذي لا يرق لوصف العمل الفني ، وإنما تجارة رديئة تحمل لافتة الفن ، وان حوت أسماء نجوم كبار، وأحيانا مخرجين كانت لهم بصمات أو كانوا مبشرين.
ولعل فيلم quot; ألوان السما السبعة quot; للمخرج سعد هنداوي الذي سرق أضواء المهرجان القومي للسينما ، واحدا من هذه القلة الملفتة التي تشعر وأنت تشاهده بأنك أمام حالة إبداع حقيقية ، وعمل فني بجدارة ، قادر على إمتاعك وإشباع وجدانك وإثارة عقلك دون جسدك ، مع طرحه لإشكالية أخلاقية نحتاج أن نتذكرها دائما ، تتمثل في مواجهة الذات بحقيقتها والاعتراف بالخطأ والسعي لإعادة اختيار مسار الحياة والبدء من جديد ، مع طرح قيم غائبة في المجتمع من قبيل التسامح وقبول الآخر دون تعالي أو أحكام مطلقة تخلو من الإنسانية، ربما عملا بمقولة السيد المسيح quot; من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر quot; أو quot; عجبت لمن يرق القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة التي في عينه quot; ، ربما هذا هو المنطلق الذي انطلقت منه كاتبة السيناريو تحديدا.
وإذا كان صناع العمل نفسه ، يصفون الفيلم بأنه حالة روحية لمجرد وجود quot; رقصة التنورة quot; التي ترتبط في نشأتها بالتصوف وما يصاحبه من تجرد من عالم الماديات ، وصولا إلي سمو الروح وتحليقها في السما ، فاني أرى أن ثمة مبالغة في هذا ، فالفيلم يمثل حالة رومانسية أكثر منها روحية بالمعنى الصوفي المجرد ، لأكثر من سبب وهو أن بطل العمل فاروق الفيشاوي أو راقص التنورة بكرليلى علوي وفاروق الفيشاوي من فيلم الوان السما السبعة
لا يرقص كنوع من التعبد والتحرر من ثقل الجسد ، على غرار المتصوفة ، وإنما يرقص من اجل المال ، وان أتقن عمله وتعايش مع الحالة ، ثم أن حالة التواصل بين راقص التنور والبطلة ليلى علوي أو حنان أخذت منحى عاطفيا ، ثم تطورت إلي علاقة جسد ، كما هو حال الأشياء في العلاقة بين رجل وامرأة أو حسبما ينسجم مع الطبيعة البشرية.
وان كان ل quot; التنورة quot; دور ، فهي موتيفة أو عنصر الصلة بين بكر وحنان ، فغرام حنان بهذه الرقصة هو الذي لفت نظرها إلى راقصها ، ومن هنا نشأ الحدث الدرامي الذي تطور بشكل تلقائي ، وكانت كاتبة السيناريو زينب عزيز من الذكاء بمكان لاختيار الزمان والمكان المناسبين لالتقاء الشخصيتين المحوريتين ، ألا وهو شهر رمضان حيث يسعى الكثيرون لقضاء سهراتهم في الأحياء الشعبية كمنطقة الأزهر والمشهد الحسيني ومشاهدة حلقات الذكر والإنشاد والرقصات التقليدية ، ثم جعل البطل والبطلة بخلفيات نفسية واجتماعية متشابهة وفي مرحلة عمرية تقريبا واحدة ، ما مهد بسهولة لخلق مثل هذه العلاقة بسلاسة ودون تعسف ، واوجد الظروف الموضوعية والمبررات المنطقية للحالة الدرامية المتطورة التي شاهدناها.
فالبطلة ليلى علوي أو حنان تبحث عن ذاتها منذ مدة ، وتفتقد للإحساس بالأمان والمشاعر الدافئة خاصة وقد اقتربت من منتصف العمر ولم تنعم بحياة أسرية ، حيث قضت سنوات شبابها في بيع جسدها والانتقال من أحضان رجل لآخر من اجل المال ، وحين التقت برجل عاملها باحترام واحتجزها لنفسه رفض أن يتزوجها ، بل أننا نراه فيما بعد يتعمد اهانتها بان يدعوها إلي بيته لتوديعه قبل سفره ، ثم يفاجئها بامرأة أخرى اصطحبها إلي سريره ، وقبل أن تخرج هاربة من الاهانة يلحق بها ويعطيها هديتها quot; مشد صدر quot; وكأنه يريد أن يذكرها بأنها ليست سوى جسد للمتعة .
وليس بعيدا عن هذه الأجواء ، شخصية بكر ، فهو رجل خمسيني تزوج من امرأة جميلة مثيرة وبلا عقل ، ما جعلها مثار إعجاب الرجال من حولها ، ولأنها تتبسط في الحديث تثور حولها الأقاويل ، ما أثار غيرة زوجها للدرجة التي لم يعد قادرا على التحمل ، فيقرر طلاقها والانكباب على عمله وتربية ابنه الوحيد ، لكنه مع التقدم في العمر ووجود ابنه معظم الوقت مع أمه بدأ يشعر بالوحدة وبدأ يسأم من بيع جسده للمعجبات برقصه.
وهذا التشابه بين ظروف بطلي العمل ، وبحث كل منهما عن شئ ما مفقود .. هو الحب ، وراء تقاربهما ودخولهما في هذه العلاقة التي أخذت فيما بعد بعدا قيميا أعمق يتجاوز علاقة رجل بامرأة ، إلى قبول إنسان لإنسان بكل ما فيه من خير وشر.
والرائع في هذا الفيلم وأظن انه يحسب لكل من كاتبة السيناريو والمخرج هو تقديم خلفيات الشخصيات المحورية أو بطلي العمل ليس دفعة واحدة وإنما بأسلوب تداعي الأفكار والمعاني أو ما يمكن أن نسميه بتيار الوعي ، مع توظيف تقنية quot; الفلاش باك quot; بإتقان هنا ، على النحو الذي خلق حالة من التشويق والترقب استمرت لفترة لا بأس بها من زمن العرض ، ربما ليحتفظ بانتباه المشاهد أو يفاجئه بأن هذه الشخصيات البارقة في الظاهر ليست هكذا في الواقع ، وان لها ماضيها وأخطائها ، ما يعيدنا مرة أخرى الي الطرح الذي ذكرنا حول
الطبيعة البشرية للشخصيات ، إلي جانب حالة التردد التي انتابت حنان وأخذت منها وقتا لتتحرر من ماضيها بالكامل ، بقطع علاقتها مع رفيقات الهوى بل وطرد أحداهن شر طردة حين عرضت عليها العمل معها من جديد ، وكذلك بكر هو الآخر اخذ وقته لينهي علاقته مع بيع جسده وإرجاع الهدايا إلي إحداهن دلل على ذلك ، وفي موقفه من حنان بعد اعترافها لها بماضيها الذي احتاج إلي بعض الوقت ليستوعبه ويقرر العودة إليها بتسامح لأنه لو يوجد إنسان على وجه الأرض بلا ماضي أو أخطاء.
ومما يحسب للمخرج بشكل خاص هو إيجاد معادل بصري باستمرار للمشاعر واللحظات النفسية المتباينة ، موظفا حركة الكاميرا وكادرات التصوير الملائمة لكل لقطة خاصة quot; الكلوز اب quot; لإبراز الحميمية والرومانسية و quot; اللونج شوت quot; لإبراز التسامي والتلاشي ، مع تعميقها بالموسيقي والمؤثرات الصوتية ، كما هو الحال في تجسيد رقصة التنورة الأولى ، إذ نراه نقلنا من عالم الواقع إلي عالم الخيال من خلال المزج بين لقطتين تجمع بين الراقص في حلبة الرقص وسط الجمهور وبين لقطة للراقص في الصحراء الواسعة دون أن يحيطه شئ سوى السماء.
وكذلك الحال ، في اللقطة التي تتهرب فيها البطلة من الرجل الذي يذكرها بماضيها ، ووقوع فنجان القهوة على الأرض ، وقيامها بغسل الأرضية بالماء والصابون الكثيف ، ثم ذهابها إلي البحر ، كأن يريد أن يخبرنها دون ضجيج وبرمزية بسيطة أنها بدأت التطهر واغتسلت من أدران الماضي وألقت بخطاياه في البحر.
حتى مشهد اللقاء الجسدي بين بكر وحنان ، لم يصوره بطريقة تقليدية
تثير الغرائز ، بقدر ما صوره بنعومة ، جعلته اقرب إلي لغة المشاعر منه إلي لغة الجسد ، وأشبه بطقس الخلاص من خطايا الماضي ، وليس السقوط كما حدث في القصة التراثية لأدم وحواء ، وان أكلا التفاحة رمز الحب الذي يصعد بإنسانيتهما لا يهبط بها.
وعلى العكس من هذا المشهد الذي كان أشبه بعرس سماوي ورأيناه مضيئا بقوة ، ما جري بين الشخصية الموازية لحنان التي قامت بها الممثلة الصاعدة منى هلا ، واحد شباب الحارة ، حيث نلمس مشهدا يخيم عليه الإظلام فيه عنف واختلاس للحظات المتعة المأجورة ، وكأن صناع الفيلم يريدوننا أن نقارن بين الحالتين ، حين يكون الحب رمزا للصعود والتحقق الإنساني ، وحين يكون رخيصا يهبط بالإنسان و يجعله في مصاف الحيوان.
ويبقى القول انه إذا كانت كل الشخصيات أخذت حقها ، إلا أن مني هلا في تقديري مساحة دورها كانت محدودة جدا وكان لابد أن تتسع أكثر من ذلك ، ليس فقط لتظهر موهبتها الفنية ، ولكن لتنسجم مع السياق الدرامي ، حيث أنها هي والشخصية التي يقدمها شريف رمزي تمثلان الصورة الأخرى الموازية لليلي علوي وفاروق الفيشاوي ، وفي حين اخذ شريف رمزي مساحة معقولة ، كانت مساحة دور مني مبتسرة .
كما أن لغة الحوار كانت تحتاج إلي مراعاة خلفية كل شخصية اجتماعيا وثقافيا ،وليس السير علي مستوي واحد ، يتساوي فيه المتعلم مع الجاهل ، والمقيم في حي راق والأخر في حي شعبي.
وعلى أي حال ، quot; ألوان السما السبعة quot; يبقى فيلما يستحق أن يشاهد أكثر من مرة ، ويستحق مخرجه وكاتبة السيناريو وأبطاله ، خاصة ليلي علوي التي تزداد نضجا فيلما تلو أخر .. يستحقون جميعا التحية ، ويجب ألا ننسي هنا مدير التصوير المتميز رمسيس مرزوق والموسيقي تامر كروان.
[email protected]
التعليقات