بشار إبراهيم من دبي:لا نعرف تماماً إذا كان عبد القادر الحسيني قد بصق فعلاً في حضرة أعضاء اللجنة العسكرية العربية، الذين التقاهم في دمشق، آذار 1948، طالباً منهم العون، وتوفير السلاح للدفاع عن القدس في مواجهة هجمات العصابات الصهيونية (هاغاناه، شتيرن، أرغون)، أم أنه اكتفى بلومهم، أو تعنيفهم واتهامهم بالخيانة!.. فالمعروف في المصادر التاريخية الفلسطينية والعربية، أن أعضاء اللجنة العسكرية العربية قد تراخوا فعلاً، ولم يتقدموا لأي مساعدة، وأن عبد القادر الحسيني نفض يديه منهم، وعاد إلى القدس، بعد أن قال: laquo;أنتم خائنون، أنتم مجرمون، سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطينraquo;!..

يزيد من أهمية الأمر، أن يكون المخرج الذي قاد الفيلم إلى الظهور هو المخرج الفرنسي إيلي شوراكي، والمعروف أنه ابن الكاتب المعروف أندريه شوراكي، المولود في الجزائر عام 1917، ومنها انتقل إلى القدس ليستقر بها عام 1958، وعرف عنه اهتمامه بيهوديته، وبالثقافة العربية والاسلامية، إذ قام بترجمة القرآن..
شوراكي، الابن، المخرج إيلي شوراكي، على هذا النحو، هو نتاج خليط من اشتغال بالثقافة العربية، وانتماء إلى الثقافة الأوروبية الغربية، ممزوجاً بملاط من يهوديته، وربما ميوله الصهيونية، إذ من الواضح أن الفيلم الذي يقدمه هنا، لا ينتمي إلى أيّ حالة نقدية تجاه أحداث تاريخية جرت، بل يكتفي بإعادة سردها بشكل متقن، على مستوى البناء والأداء والتصوير والمونتاج والإخراج، وبقدر مناسب من الكفاءة الانتاجية، وقد تم تصوير الفيلم في اليونان، لا في القدس.
وبمحاذرته أن يكون نقدياً، لا يأبه الفيلم أبداً إلى ثنائية الضحية والجلاد، أو الحق والباطل، والخير والشر!.. بل يبدو كأنما يكتفي بالقول: ها هي الأحداث، هكذا جرت، وهكذا كانت!.. مما أثار بعض العرب، ممن كلفوا خاطرهم بمشاهدة الفيلم، والتبرم منه كالعادة!.. دون أن يكلّف، هؤلاء العرب، أنفسهم مشقة التساؤل: أين رواية القدس في السينما العربية والفلسطينية؟.. لماذا وعلى الرغم من مرور ستين سنة على ما جرى، لم نشاهد فيلماً عربياً واحداً، يحاول تقديم رواية بصرية تقول شيئاً، بعيداً من الجعجعة التي بلا طحن، التي يحترفها الكثيرون من الساسة العرب.
سيكتب المنتصرون التاريخ، هكذا كان، وهكذا سيكون.. ولكنه سيبقى تاريخ المنتصرين، فأين تاريخ المهزومين؟.. أين روايتهم؟.. وهل يمكن للمهزوم الخروج من دائرة الهزيمة، إن لم يكتب روايته لما جرى، بشكل نقدي، يحفر عميقاً في أسباب ما جرى، وكيفيته؟.. من المنطقي القول إن المهزوم، وإن لم يملك الجرأة للتساؤل والبحث والتنقيب والكشف عما جرى، بأسبابه، وآلياته، لن يتمكن من الخلاص والنجاة، والعودة إلى الفعل التاريخي، قبل العودة إلى المكان.
من السهل الشكوى والندب، بل وإظهار اللوعة، ولكن إعمال العقل البارد الباحث عن السبب، والعلة، والمرض.. وبلورة الإرادة وتحويلها إلى فعل إبداعي، بقلب ساخن.. أكثر جدوى، وأثمر نتيجة، وأشفى للجراح.. والفلسطيني والعربي المهزوم منذ ستين سنة لم يفعل شيئاً من هذا، أو لم يفعل ذاك بالقدر اللازم والمناسب، معتقداً بحتمية خارقة، واهمة بأن كل شيء سيكون تماما، وعلى أحسن ما يرام، في النهاية، دون أن يقول: كيف؟..
تنطلق أحداث فيلم laquo;يا قدسraquo; من البعيد، من نيويورك، هناك حيث يلتقي شاب فلسطيني مسلم (سعيد)، بشاب أميركي يهودي (بوبي)، عام 1946، على وقع أخبار تتناهى، عبر المذياع، من البعيد؛ من فلسطين. وإذ يقرر الفلسطيني العودة إلى بلاده للدفاع عنها، في وجه الهجمة الصهيونية، سيأتي الأميركي اليهودي، على المركب نفسه، وبرفقته!.. للانخراط في المشروع الصهيوني، معلناً ذلك دون مواربة!..
لا يواري الفيلم اللفظ، ولا يخفي حقيقة يمكن أن يستحي منها. ففي حين ينتمي الفلسطيني إلى أسرة وعائلة في القدس، لا ينتمي الأميركي اليهودي إلى طراز ذلك، فأسرته وعائلته في نيويورك، وليس في القدس. إنه قادم إلى القدس ليقيم فيها مشروعه الصهيوني، يقول ذلك، ويدافع عنه، ولن نرى طيلة الفيلم أسرة يهودية واحدة، بل سنرى اليهود صهاينة متحمسين، متأهبين في مراكز وتجمعات عسكرية، وفي جماعات مقاتلة، على هيئة عصابات مسلحة..
الفلسطينيون في الفيلم من لون المكان ومن بيئته وطبيعته.. واليهود من لون مختلف، أوروبيون وأميركيون.. الفلسطينيون ينتمون إلى بيوت وأسر وعائلات، وإلى امتداد عربي يصلهم بالأردن ومصر وسوريا والعراق.. واليهود منقطعون عن أي امتداد، لا بيوت لهم، ولا أسر، ولا عائلات.. ما هم إلا أفراد، من أعمار وأجناس وألوان، يجمعهم المشروع الصهيوني الذي ينوون إقامته، مدعومين بقوى دولية، خفية حيناً، بادية في أحيان أخرى..
يأتلف المجتمع الدولي في جلسته التاريخية عام 1947، ويقرر تقسيم فلسطين، ونبدو حينها وكأننا أمام حكاية laquo;الدائرة الطباشيريةraquo;، فأهل البلد، الفلسطينيون يرفضون التقسيم، بينما يهلل الصهاينة لذلك، إذ إنهم يرون في التقسيم خطوة أولى على الطريق، فالحصول على شيء الآن، هو مقدمة للحصول على كل شيء، عما قليل، والاعتراف الدولي بحق لهم في المكان، سوف يطورونه ليكون اعترافاً بالحدود التي تصنعها أحذية الجنود حيث تصل!..
يتنقل الفيلم بين الجانبين، بالتوازي.. من مراكز القيادة العسكرية لقوات الهاغاناه، ومناورات ديفيد بن غوريون، وتحركات غولدا مائير، ومواقع التنظيمات العسكرية، في الجانب الصهيوني، إلى البيوت العتيقة في القدس، ومحاولات عبد القادر الحسيني استمداد العون من العرب، ومن ثم تنظيم ما توفر لديه من مقاتلين، مسلحين بالعصي أحياناً، وبالسلاح البائس حيناً آخر، وبلعناتهم وتأففهم، في كل حال!..
انتقالات سلسة، متقنة وحرفية، خاصة مع توفر الخيط الواصل بين الجانبين، من خلال العلاقة التي يبدو أنها عصية على الكسر، فيما بين شخصيتي الفيلم الأساسيتين: (سعيد، بوبي)، دون أي مبرر درامي حقيقي، إذ إن التأسيس لهذه العلاقة في نيويورك لم يكن بتلك المتانة التي تجعل من كل منها وفياً لتلك العلاقة، على الرغم من أحداث مهولة وقعت، أبرزها مصرع عبد القادر الحسيني على يد بوبي نفسه!.. وتبادل لحظات الإنقاد، وربما المغفرة، بينهما، في مواقف مختلفة!..
يدير الفيلم حوارات عديدة، في كل جانب على حده، تارة، وفيما بين الجانبين عبر سعيد وبوبي، تارة أخرى، لنجد أنفسنا بعيداً من التبرير الأخلاقي لما يجري. الصهيوني يقول إنه يريد استعادة تاريخ مضى هنا قبل ألفي عام!.. والفلسطيني يقول إنه هنا منذ ألفي عام!.. فكيف يمكن جسر الهوة ما بين الروايتين؟!.. ما كان الممكن. الممكن الذي كان كل طرف يراه هو أن يقوم بإزاحة رواية الآخر بالقوة، وهذا ما حدث..
سيمنح الفيلم شيئاً من أحداثه للأمير عبد الله، ملك شرق الأردن، والقائد العسكري الأردني عبد الله التل.. وخلال هذا يلامس شيئاً من تفاصيل ما كان يدور في العالم العربي حينها.. هل كان القادة العرب يعرفون أين تذهب الأمور؟.. ربما. هل كان لديهم العزم الحقيقي على وقف مجراها؟.. من يدري؟..
ربما يقول أحدهم إن الفيلم يستند إلى رواية صهيونية خالصة، فالشبهة بذلك متوفرة خارج الفيلم، قبل داخله. ولكن التمعن في أحداث الفيلم، ومقارنتها بما جرى في واقع القدس قبل ستين عاماً يجعل السؤال مشروعاً بصدد الرواية ذاتها.. وإلى أي درجة يمكن لهذه الرواية حتى لو كانت قادمة من الضفة الأخرى لخندق الصراع، الإفادة؟..
القدس مركزية في الثقافة العربية والإسلامية، وفي المشروع الوطني الفلسطيني.. والكثير من الفلسطينيين يرون أن لا معنى لفلسطين دون القدس..
والقدس مركزية في المشروع الصهيوني، وفي التبرير التوراتي لقيام إسرائيل.. والصهاينة لم يكفوا لحظة عن القول، كما ورد على لسان بن غوريون في الفيلم: بدون القدس لا مبرر ليافا وحيفا وتل أبيب ذاتها..
والفيلم الذي يمنح وقته للقدس، لروايتها، ويقدمها بصيغته ورؤيته، بما فيها من أخطاء (مثلاً: الفيلم يذكر أن استشهاد عبد القدر الحسيني كان في 2 أبريل، بينما الفلسطينيون يقولون إن ذاك حصل في 8 إبريل)، ينبغي أن يكون محرضاً للطاقات العربية والفلسطينية، للقيام بشيء ما في هذا الصدد، خاصة مع إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية. فالصراخ في العراء، لن يفيد القدس في شيء.

وعلى الرغم من ذلك، فإن فيلم laquo;يا قدسraquo;، إخراج إيلي شوراكي، شاء أن يصعّد الحالة الدرامية في تلك اللحظة التاريخية المفصلية، إلى درجة جعل القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني، يبصق في حضرة اللجنة، ويغادرها إلى غير رجعة، حيث سرعان ما سيستشهد في معركة غير متكافئة في قرية القسطل، بالقرب من القدس.
والفيلم الذي جعل من هذا المشهد نقطة مفصلية بازرة في الأحداث، والتي قادت من ثم إلى كسر في سياقها، إذ اتجهت بعد ذاك على نحو صاعد بالنسبة إلى الصهاينة، فمع استشهاد عبد القادر الحسيني، أخذ الصهاينة يراكمون الانتصار تلو الآخر، وصولاً وخلال قرابة أربعين يوماً فقط، إلى إعلان دولتهم quot;المظفرةquot; على أنقاض فلسطين والفلسطينيين، من ناحية، فيما أخذت الأحداث ذاتها تراكم هزائم الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم، مع افتقاد عبد القادر، بلا قيادة، ولا خطة، ولا تنظيم، وكان أن هووا في درك النكبة، والتشرد!..
يحاول فيلم laquo;يا قدسraquo; بناء رواية درامية تاريخية بصرية لسقوط القدس، مستنداً إلى رواية أدبية بالعنوان ذاته، كانت قد صدرت عام 1972، لكاتبيها دومينك لابيير، ولاري كولينز. وأن يحاول الفيلم أمراً في هذا المجال، فإنه جدير بالانتباه الشديد، خاصة وأن إنجاز الفيلم جاء متوازياً مع الوقوف على رأس ستين سنة، من تلك الأحداث، التي ما زال أثرها العميق قائماً في الحاضر، وسيكون له عظيم الأثر في المستقبل.