مثقفون مصريون أكدوا أن ما أصابها مرده مناخ عام
للتجمد السياسي انعكاس سلبي على الحركة الثقافية

محمد الحمامصي من القاهرة: تعاني الحركة الثقافية المصرية من حالة من فتور الفعلية وعدم حيوية الحوار وإهمال المتابعة والحضور وغياب القضايا الثقافية والأدبية الكبرى، فعلي الرغم من كثرة الندوات والأنشطة والمؤتمرات، وأيضاً وجود نشاط واسع في حركة النشر إلا أن كل هذا النشاط لا يحظى بمشاركة حقيقية من جانب المثقفين أنفسهم فضلاً عن جمهور المتلقين، ولنضرب مثلاً بآخر الفعاليات الكبرى التي أقيمت هذا العام حتى الآن، ندوات وأمسيات معرض القاهرة الدولي للكتاب شهدت تغيباً من جانب المتحدثين الرئيسيين وفتوراً شديداً من جانب جمهور المتلقين الذي كان يمر عليها مرور الكرام دون اعتناء بالموضوع أو من يناقشه، والفعالية الثانية ملتقى الرواية العربية الثالث الذي كان عدد جمهور المتلقين لندواته سواء من المثقفين أو المتلقين العاديين لا يتجاوز أصابع اليدين، الأمر الذي يفرغ هذه الأنشطة من مضمونها ويجعلها بلا طائل حقيقي، وهذا ليس تجنياً علي الحركة الثقافية المصرية ولكنها الحقيقة التي يمكن لأي متابع لها اكتشافها، وربما نستطيع التعرف علي مصداقية ذلك من خلال آراء الكتاب والمبدعين في السطور التالية..في البداية يرى الكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد أن حالة الجمود والفتور التي أصابت الحركة الثقافية المصرية مؤخراً طبيعية ويقول: ما يشغل المجتمع المصري الآن هو قضايا الإصلاح والديمقراطية وهي المهمة الرئيسية لأي مثقف، بالطبع يمكن الكتابة بعيداً عن هذا الموقف، لكن المناقشات الفكرية والحراك الثقافي من باب أولى لابد أن ينصب علي تناول هذه القضايا.. إن المجتمع المصري يمر بفترة حرجة، هناك مظاهرات وهناك قمع، وهناك اتهامات متبادلة بالفساد والخيانة والعمالة، هذا الجو لا يعطي فرصة للحوار حول قضايا ثقافية وأدبية بشكل ناضج، وفي رأيي أن الأهم الآن أن يصل المفكرون والمثقفون إلي حلول حول القضايا المصيرية التي تؤرق المجتمع المصري كله، فالأدب يستطيع الانتظار، أما قضايا الاصلاح السياسي والبطالة والفقر وتغيير الدستور وغيرها فهي قضايا ملحة لحياة شعب كامل، وهي أهم وأكبر الأسباب وراء تراجع حيوية الحياة الثقافية، وهي أسباب إيجابية لأن المجتمع يعيش حالة مخاض. إن كل مثقف مصري الآن مطالب قبل كل شيء بالإدلاء برأيه في هذه القضايا سواء بالكتابة أو الحوار والمناقشة أو التعقيب وهذا أضعف الإيمان..

أنظر حولك
أما الكاتب الروائي عبده جبير فيقول: أنظر حولك الآن ستجد أن الحياة السياسية في مصر متجمدة ومخنوقة بكبار السن الذين ورثوا هذه الحركة بمساعدة النظام ففقدت الحياة السياسية حيويتها الأمر الذي انعكس بدوره علي الحياة الثقافية..

الانزلاق المتدرج
ويعلن الشاعر السبعيني والناقد د. وليد منير أنه غير راض، في أعماقه لا عن الحركة الثقافية المصرية ولا العربية، وغير سعيد بممارسات المثقفين في مصر والعالم العربي، ويقول: أشعر أن هناك ما يشبه الانزلاق المتدرج إلي سفح غامض، ولكنه معتم، وتختفي في غياهبه أطياف تبعثر الأحلام القديمة النبيلة، الهوية، وأشواق الروح، والصمود أمام عواصف العولمة، والتغريب، والتدجين الفكري، ليس الجميع متورطاً بالطبع، ولكن الحالة العامة تدعو إلي الشفقة، والمناخ العام يدعو إلي الكدر، ثمة هرولة لدي البعض نحو الترجمة والجوائز ودعوات السفر وغيرها من الغوايات التي تعد بسيطة إذا قيست إلي شرف المثقف العربي وكرامته، ثمة أيضاً انخداع بدعاوى التحديث والحوار الثقافي الحضاري، وشعارات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، نعم نحن في حاجة بلا شك إلي الكثير من التحديث، من حقوق الإنسان، من مبادرات النهضة الإقتصادية، ولكننا قد نكون غير مدركين لكلمات الحق التي يراد بها الباطل، إن اليمين الأصولي المتطرف في أكبر دولة غربية تزعم العلمانية هو نفسه من يفصح عن تبنيه غير المشروط للحلم الصهيوني، وهو نفسه من اخترع مقولة (الإسلام العدو) بعد أن تلاشت مقولة (الشيوعية العدو) بسقوط الاتحاد السوفيتي السابق.. يدرك البعض ذلك تماماً، ولكن البعض الأخر لا يدركه، وهذا البعض كثير جداً، وأخشى ما أخشاه أن لا تكون لديه الرغبة أصلاً في إدراك الحقيقة العارية كما هي، وقد أدى التفسخ والبلبلة وضعف الانتماء إلي نمو الشعور بالذات بوصفها الحقيقة الوحيدة الممكنة، أفضى هذا النمو إلي نرجسية غربية لدي المثقف من ناحية وإلي رغبة في نفي الآخرين من الفصيلة نفسها من ناحية ثانية، وتولد تبعاً لذلك تصدع أخلاقي كانت له تجلياته العملية الخطيرة، وعندما يفسد الضمير لا يستطيع أيّ دواء علاج هذا الفساد، ولأن الثقافة هي ضمير الأمة، فلنا أن نتصورها حين تشرع في فقدان الضمير، ما الذي يتبقى منها مهما كانت مناشطها الحيوية، في واقع يئن تحت وطأة الهزائم، لا شيء، أليست هذه هي الكارثة؟!

مجدي توفيق، وليد منير وأحمد فضل شبلول

الة كآبة
وتوصف الكاتبة الروائية هالة البدري الأمر بأنه حالة كآبة عامة تسود كافة المناخات وتقول: المناخ العام باضطراباته وأزماته ينعكس علي الحياة الثقافية، أضف إليه تدهور الأوضاع في العالم العربي، الأمر الذي أدى إلي زيادة الضغوط علي المثقف أكثر من غيره، فلم يجد نفسه مهمشاً فحسب ولكن أيضاً غير قادر علي تفعيل دوره ومساعدة الجمهور علي الوعي، أين النشاط الثقافي؟، لقد أصبح محصوراً في مؤتمر أو اثنين تحشد لهما وزارة الثقافة كامل طاقتها ثم ينفض المولد بلا جدوى أو تأثير، ثقافة مهرجانات أكثر منها ثقافة حقيقية فاعلة لتنمية الوعي الثقافي العام..

مناخ متكلس وراكد
ويؤكد الناشر والكاتب محمد هاشم أن فاعلية وحيوية أي حركة في هذه الفترة الحالية سوف تكون محدودة طالما أن هناك استمراراً للتجمد علي المستويين السياسي والثقافي، ويقول: ليس هناك مناخ مجتمعي يحترم حركة الفكر وحرية الاعتقاد والإبداع أو يشجع علي وجود حوار حيوي في قضايا كبرى كتلك التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين مثل قضية كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، والفارق بين هذه الفترة وما تشهده الفترة الحالية يكشف بوضوح تأثير التعددية السياسية علي حيوية المجتمع ووجود اتجاهات فكرية وثقافية متباينة، نحن نعيش الآن في مناخ متكلس وراكد، هناك رئيس أمضي في السلطة ربع قرن ووزير عشرين عاماً، وهناك نفوذ قوى للجماعات الإسلامية، ومزاج ديني عام لدي الجمهور، وهناك تراجع في حركة القراءة، ويمكنك سؤال رئيس تحرير روايات الهلال كم كان توزيع السلسلة في الخمسينيات والستينيات، عشرات الآلاف، تحولت الآن بفعل هذا المناخ المتكلس إلي مئات في بعض الأعمال وعشرات في البعض الآخر، والاستثناء قليل جداً، لكن كل هذا لا يمنع من التفاؤل باحتمالات بلورة حركة ثقافية قوية في المستقبل القريب، ولا تنسى موقف صنع الله إبراهيم في مؤتمر الرواية قبل الأخير عندما رفض جائزة الرواية ورفض بوضوح الاعتراف بشرعية السلطة المانحة لها، هذا الموقف أحدث تحولاً كبيراً وعمل فرزاً واضحاً بين المثقف المستكين والراكد والمستقر وبين المثقف الذي يرى أهمية التصدي للقضايا الكبري في المجتمع ممثل الديمقراطية والفساد وحرية التعبير، هذا إلي جانب وجود كتابات جديدة جميلة، هناك حركة رواج في الرواية المصرية بشكل خاص تنبئ عن جيل جديد قادم معظمه صاحب موقف محترم كصنع الله إبراهيم ويحاولون فهم القضايا الكبرى، لكني أعود وأؤكد أنه دون تغيير شامل ستظل الفاعلية محدودة..

السلطة والمعارضة
ويقول د.مجدي توفيق: من المؤكد أن الثقافة في مصر تشهد في الآونة الأخيرة فتوراً ملحوظاً، وقد بدأ هذا الفتور، في تقديري، مع بداية الانتفاضة الفلسطينية والمثقفون في مصر يشعرون بأن الفعل الثائر في فلسطين أكبر من قدرة الأدب على التأثير أو التعبير، بل من قدرة الثقافة العربية كلها. ومع غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق طغت علينا حالةٌ من الوجوم وانفعالاتٌ من الغضب بددت الرغبة في ممارسة الأنشطة الثقافية التقليدية، فأصبح المثقفون يمارسون أنشطتهم بقليلٍ من الحماسة وكثيرٍ من الآلية التي لا تخلو من فتور. وواكب هذا كله تحولاً ملحوظاً في سياسة الدولة تجاه الأنشطة الثقافية فهي تتقلص تقلصاً ملحوظاً وشديداً،وتُؤَدَّى على نحو آليٍّ يخلو من الحماسة كذلك وترتفع الأصوات متكررةً تنادى بمراجعة هذه الأنشطة وتعبر عن ضعف الثقة فيها. وفي تقديري أن ارتفاع صوت المطالبة بالإصلاح السياسي في الشهور الأخيرة، والإحساس بأن هذه المطالبة محل مزايدة من القوى الدولية، ومن الولايات المتحدة خصوصاً، ومن السلطة والمعارضة معاً، فإن الإحساس بهذا الصراع قد خالطه قدرٌ هائلٌ من التوجس جعل الفعل الثقافي الذي لا يشهد إصلاحاً أو تطوراً حقيقياً بعد، يؤديه المثقفون، وتؤديه الأجهزة، بشعور مضاعف من الفتور. فالأنشطة لازالت تؤدى، ولكنها أقل كماً، وأقل كيفاً، وأقل أملاً، وأقل حماسةً، وأقل ضوضاء واهتماماً.

غيابات وتفريغ
ويري الناقد د.مصطفى الضبع أنه ليس هناك سبب واحد لفتور الحياة الثقافية فى مصر ويمكن القول أن عدة أسباب يمكن الرجوع إليها لاستكشاف هذه الظاهرة، من أهمها أولا: غياب الإستراتيجية للعمل فترة أطول فى محاولة للتعامل مع الميزانيات بصيغة بسط الميزانية على النشاط أى على خطة وليس العكس فما يحدث هو الانتهاء من الميزانية وليس الانتهاء من الخطة فيكون الهدف هو كيف ننفق الميزانية لا كيف ننفذ خطة مرسومة مسبقا، أو كيف ننفذ برنامجا زمنيا.. ثانيا: غياب الناحية الإعلامية عن متابعة النشاط الثقافي فأى مؤتمر تسلط الأضواء على جلسته الافتتاحية لحضور الوزير مثلا وبعد ذلك يختزل المؤتمر فى أخبار تنزوى فى زوايا ليس من السهل متابعتها.. ثالثا: غياب الاستفادة من التكنولوجيا مثل شبكة الإنترنت فالنشاط وقتى ينتهى بانتهاء الحدث وهو ما يجعل أى نشاط ينتهى فور انتهاء فعالياته، كم مؤتمر دولى للمجلس الأعلى للثقافة نشرت أبحاثه، وكم مؤتمر يمكن متابعة فعالياته عبر الشبكة.. رابعا: تفريغ واحد من أهم مشروعات مصر الثقافية فى القرن الماضى والحالى أعنى مشروع القراءة للجميع من مضمونه وتحول مبكرا إلى صورة من صور عدم التخطيط، ففوجئنا بنشر أعمال لا تستحق الحبر الذى تطبع به، وكان على المشروع المدعوم من الدولة أن يطور نفسه بالخروج من دائرته المحلية لتقديم نفسه إلى العالم العربي والخارجي عبر طرح المشروع إلكترونيا فمادام المشروع لا يبغى الربح من الأساس فلماذا لا يطرح على نطاق أوسع عبر شبكة الإنترنت.. خامسا: احتشاد الساحة بالمدعين وأرباع الموهوبين ممن نجحوا فى التسلل لمناطق النفوذ وراحوا يطرحون أعمالا هى أضعف مما يتصور.. سادسا: غياب الذاكرة التى تعمل على التواصل والتلاقح بين الأفكار ونتاج العقول، أين العمل الببليوجرافي الذى يمكننا من خلاله طرح مكنون الذاكرة الثقافية.. سابعا: غياب دور المؤسسة التعليمية الصارخ وتحول العملية التعليمية إلى عملية روتينية ليس بإمكانها أن تصنع عقولا، ومن ثم فقد العمل الثقافى قيمته لغياب المتلقي الواعي.. ثامنا: الآثار السلبية للتلفزيون مما أدى إلى تسطيح عقلية مشاهده، فبين حالة من التدهور فى المنظومة الإعلامية المرئية وصلت إلى ندرة وجود مذيع قادر على تقديم عمل ثقافى فعال إلى تسطيح العقول بأعمال درامية سطحية وتكريس العرى والابتذال والتوجه للغرائز كان لابد أن يفضي إلى الصورة التى نراها الآن. تاسعا: إن غياب التخطيط كلفنا الكثير من الوقت والمال المهدرين وسيستمر الأمر ما لم نراجع منظومتنا الثقافية بالكامل. ويشير الشاعر أحمد فضل شبلول إلي أن المشهد الثقافي المصري كله الآن ليس بالصورة التي نريدها له، وهو لا يعبر عن كل فئات المثقفين في المجتمع، وعلى الرغم من تعددية المنابر والأحزاب، إلا أن الثقافة تكاد تكون غائبة عن الصورة الكلية للمجتمع، وخاصة وسط جيل الشباب في الجامعات أو حتى قصور الثقافة، ويقول: أول مظاهر غياب الصورة، نلمسه في وسائل الإعلام المختلفة، حيث تعطى الفرصة والمساحة كاملة للفنانين ولاعبي الكرة، ومازالت الصفحات الأدبية والثقافية في الصحف والمجلات المختلفة هي أول ما يُلغى أو يُؤجل عند ورود إعلان مدفوع الأجر، ولا أحد يجرؤ على تأجيل أو إلغاء صفحات الكرة أو صفحات أهل الفن، من هذا المثال البسيط يتضح أن المشهد الثقافي مهمش على أرضية الواقع المصري..