مقذوف وسط ظلمة حالكة، عبر فجوة سالكا جدارا لزجا ملطخا بدماء سوداء، ليملا فراغا ويكمل المسيرة.
أشباح مقنعة عملاقة يطوفون حوله حاملين سكاكين صدئة، لنبش الأحشاء وبقر البطون.
اللحظة الأولى (ألصعقه) أحساس نما بين الموت والحياة، لحظة الهبوط والصعود.. بين.. بين..الاصطدام، لحظة التبلور، والتاني الصارم.. الانفلاق في حيز الوجود.
لا تفسير لتلك اللحظة اللعينة، انه (العماء) لاشى مثله.
قشعريرة ورعدة تسري بقوة فاعله في جسده الطري، يهتز من مكامنه، يرتجف، يرتعش، تصطدك فكه الدموي الأسفل بالأعلى.. يفتح كفه الصغير ملوحا في الهواء، لا حول له ولا قوه، انه الاستسلام بكل معانيها.. فقاعات دموية سوداء ترسم خطوطا وأشكالا لا أباليه على طراوة جسمه الصغير.
أشباح مقنعه يرقصون حوله، رقصة الموت. يرى أحشائه بأشكال غامقة تلوح في الهواء عاليا وترمى هناك بعيدا عنه، آلة حادة تمزقه أربا.. أربا.
شبح عملاق حمله بشده إلى إلا عالي، قلبه رأسا على العقب.. انقلبت العوالم حوله واخذ يتأرجح مقرفصا مكوما، اتسعت حدقتا عينيه.. جال بنظره حوله، تمطط كل شيء وتلاشت متا رجحه، بانت بأشكال هلامية مشوه وامتد الأشباح.. (السقوط في الفراغ). جاء القدر لكي يحيط به إلى الأبد.
كف شنيع تنزل بقوة الرعود على مؤخرته. (عقوبة صارمة وجزاء شنيع).
كان صوت جلده هادرا مازالت تتموج بتلاطم في قمة رأسه..
انتشرت رائحة كريهة، أعمدة بخار دموية تتعالى غطت وجوه الأشباح شكلت خطوطا توحي بالقدر المشئوم.
كان غاطسا في الكآبة والاضطجار، وكاد أن يختنق غيظا، ولكن الصعقة تسري في بدنه تسوقه إلى الضياع الأبدي.
(من الظلام إلى الظلام، ومن العفونة النتنة إلى المهازل والمخاطر).
القلق تتشعب في الرأس، المخاطر، المآسي و الكوارث. وسط عالم من الأموات و المجانين.. يمرق كل شيء بسرعة هائلة، أصبح رأسه مستودعا فتحت مصا ريع أبوابها و نسخت كل شيء في دهاليز عقله.. تلك الغرف الكرستالية ألا نهائية.
بعد أحقاب من الزمن بوطأته الجبارة و عبر مسيرة الصراع والتحدي التزم الصمت
(قذف بصمت، وعاش بصمت قاتل وأعمق). متمردا، غاضبا على كل شيء، قاسيا على نفسه، كارها للحياة.
انه ألان يصب نظره في نقطة (ازيزيه) سوداء، تستقر وسط أشكال مرئية حينا و ألا مرئية حينا آخر.. أشكالا تكسر حواجز الوجود وتدخل خلف الأشياء و المعالم، انه المصير، الوجود القائم، الحقيقة.. تتسع حدقتا عينيه و تتمطط شفتيه، طنين قاتل و عواء ريح جنائزية يمر غله ويلتف حوله حتى الجنون.
انطوت عليه جدار غرفته النتنة وأخذة الكراكيب القديمة ترجرج هلامية الشكل لتغلفه بلحاف من القبح والنتونه، قفزت في ذاكرته المتعبة تساؤلات شتى.. اختلطت عليه الأمور وتشعبت، أفكار تتوافد دون انتظام و ترتيب برموز وعقد وإشارات تتحرك أمام ناظريه.. انه الآن لا يرى بالعين ولا بالقلب.. يرى و يحس بشيء آخر غير مألوف للطبيعة البشرية شيئا آخر خارج الحواس.
طريق ممتد منذ الأزل، (من الفجوة الدموية إلى الهاوية) الملتفة على بعضها لتبلع الكون.
حشد عظيم و مسيرة مرعبه بلون السواد فاقت الخيال والتصور، بشرية منهمكة في مسيرة دائمة، كدوامة تشبه طواحين تدور بعويل عاصفة هوجاء، تعو عواء أبديا.
رجال ونساء، عراة صابين أنظارهم نحو الأمام للوصول إلى غاية لا مطلوبة.
قوة أزلية خارقه تحرك الحشد الهائل، إلى الأمام دوما.
سيمفونية بصوت ما بعد الرعود تنظم المسيرة، تدمدم، و هدير صاخب دون انقطاع تدوي. رجال يأكلون أذيالهم وقد تمسخوا إلى مخلوقات عجيبة.. من يمشي على صدغه، ومن يزحف مبتور الأطراف.. ومن ينتفخ رأسه وتنفجر وإذا برؤؤس من الجمر تتوقد وتصبح أشلاء تحوم حول الحشد.
نساء عاريات أظافرهن بطول قاماتهن يتكئن عليه ويأكلن أرحامهن، شعورهن تنتفش، وأثدائهن تتهدل، أطفالا يمشون بأقدام التوابيت، يزحفون خلف أمهاتهم، يتضورون جوعا يجهشون في البكاء، يلوحون بأياديهم في الفراغ.
انه وسط الحشد رافعا رأسه للأمام صابا نظره إلى عمق الفراغات حيث ( العماء).
هو الوحيد يدرك مصير هذا الحشد الرهيب والذي لا يعد ولا يحصى، يعلم إنهم يبتلعون في فوهة الهاوية الجبارة والتي لا مناص منها حيث فوهته المتزوبعة التي لا ترحم حد الانصهار.
وقبل البلوغ إلى الهاوية وبعد مشقة عسيرة يجب أن يبصم الكل على الجدار القائم أمام الفوهة. فهناك من يبصم بلسانه لوقاحته ونفاقه، ومن يبصم برأسه لغبائه وسفالته.. ومن يبصم بجهازه التناسلي رجالا ونساء، ومن يبحث عن أصابعه المقطوعة لكي يبصم.
صعق بقوه، كان الوقت صباحا، فتح عينيه رأى طرفه الأسفل معلقا في الهواء يتأرجح وسط الغرفة، وطرفه العلوي مثقل على سريره المهزوز.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، هز كتفيه، مد يده، وأشعل سيجارة...!