quot;قد يأتي الموت، يتدرج بخفة وخداع، أو ليست الحياة خدعة؟quot;

اعداد د. حسين الهنداوي: توفيت فجر اليوم الاحد 18/1/2009 في مستشفى ايلنغ بلندن الكاتبة والفنانة العراقية تحرير السماوي بعد معاناة مع مرض سرطان داهمها وهي في ذروة عطائها الابداعي. وكانت الاديبة الراحلة، وابنة الشاعر العراقي المعروف كاظم السماوي احتفلت في الحادي عشر من الشهر الحالي بعيد ميلادها السادس والخمسين بحضور عدد من الفنانين والكتاب العراقيين ونجلها الوحيد الموسيقي غيث شريف الربيعي فيما اقيم لها في الثامن والعشرين من ايلول الماضي معرض بآخر اعمالها التشكيلية في صالة غاليري آرك بلندن.
laquo;شيء وحيد ومؤكد: المرء لا يعود أبداً. المرء يرحل فقطraquo;. هذه الكلمات بدت ترافق تحرير السماوي طيلة السنوات الاخيرة، بعد ان كانت قد ترجمتها هي ذاتها لتكون العبارة التي اختارها ليون وربيكا غرينبرغ خاتمة لكتاب مثير ترجمته تحرير السماوي وصدر مؤخرا. فأسرار تجربة الكتابة ومعاناتها ثم معاناة الكاتب في المنفى ميّزا العطاء الادبي لتحرير السماوي، التي واجهت كلا الهمّين المتدفقين من تجربة منفى شخصية غنية أصلا وكأرث عائلي، او من تجربة جيل عراقي خاصة -تنتمي له بكل جوارحها- لا يقل عمقا عن اهم تجربة عالمية مماثلة وان لم يتم بعد الالتفات الى معاناته القاسية والخلاقة في آن. بيد ان الصمت اللافت كان الوجه الآخر لذلك الألم الدفين لكن الذي عبرت عنه مجموعة نصوص غير عادية ترجمتها تحرير السماوي عن الالمانية خاصة وفي المقدمة منها كتاب quot;في تجربة الكتابةquot; من تأليف س. ر. مارتين، وكتاب آخر بعنوان laquo;التحليل النفسي للمهجر والمنفىraquo; من تأليف ليون غرينبرغ وربيكا غرينبرغ، صدرا معا عن دار :المدىquot;، وكتاب ثالث بعنوان quot;المنفى والادبquot; عن تجربة الكتاب الالمان في المنفى خلال مرحلة الفاشية (1933-1945) من تأليف ماتياس فيغنر.
فعبر نقلها quot; في تجربة الكتابةquot; الى العربية ارادت تحرير السماوي عرض الحالة النفسية التي تعتري المبدع وهو يعيش دوافع العمل الابداعي الذي، وقبل ان يتبلّر في وجدانه بصيغته النهائية المميزة، يتنامى فيه بشكل بطيء ومنهك حيث تتنازع النفس ضغوط القلق والأمل عن النجاح والإخفاق تماما كما هي حالة اية ولادة لا يعرف مآل المخاض فيها حتى فعل الولادة المحاق بكل الالام. هذا الحال عاشه أرنست همنغواي ومارغريت ميتشل وتوماس مان وأجاثا كريستي فرانسواز ساغان وسواهم. بينما ضم كتاب laquo;التحليل النفسي للمهجر والمنفىraquo; أكثر من خمسة وعشرين عنواناً تناولت الهجرة كصدمة وكأزمة، والهجرة كحالة تأزمية، وتحليل ما قبل الهجرة، وتطور عملية الهجرة، والمهجر واللغة، والهجرة والسن، والهجرة والهوية، والتطور النفسي للفرد ضمن تجربة الهجرة، والمنفيون وشهاداتهم

وعن تجربتها الخاصة في المنفى حيث عاشت أكثر من ربع قرن قاسية ترى الكاتبة تحرير السماوي ان حالة المنفى، هي شيء من الغيبوبة او انقطاع في الوعي تنفصل معه الأشياء الحياتية عن تجربة، وماضٍ، وعادات، وتاريخ.. الخ. اذ ان حياتنا في المنفى، هي حياة جديدة لا نقدر على اقتحامها كما يراد لنا أو كما اعتدنا أن نقتحم الحياة التي نعرف، ولا نقدر على العودة إلى حياتنا التي عرفناها في الماضي. منتصف طريق، مفترق طرق، وقوف أمام اتجاهات متنافرة. لا عودة ولا مضي.. حالة جمود نفسية وبالتالي فكرية ووجودية.
والمنفى لديها quot;حالة دفاع عن النفس المتبقية، وما الولوج في المجتمع الجديد الإ حالة دفاع عن وجود وحماية ماضٍ ترك اضطراراً. انشطار جليّ في النفس والذهن والحياة.. شرح في الشيء وعلى الشيء نفسه. وما دام الانقطاع هو انقطاع عن الماضي والحاضر، فنحن شئنا أم أبينا مغيبين عن الحياة، الواقع، التعصب اليومي.. والمستقبل طفل نجهله يعيش بيننا ولا نراهquot;.
فنحن في المنفى quot;نعيش حالة من التغييب، التهميش، حالة طوارئ أعلنتها الحياة علينا. وكل من يرى العكس ويداهم مجتمعاً جديداً بأحلام كبيرة لا يعرف نفسه. ولا يعرف أن تلك النفس تبحث عن مستقر متحذر وليس عن مستقر طائف بين الأرض والسماء. نحن الجيل المرفوض في أرضه وأراضي الدنيا. المجتمعات لا تتبنى إلا أبناؤها، ونحن جيل اليتم.
فماذا تبقى لنا الذين نهيم على وجوهنا في أراضي الدنيا بحثاً عن أمان وخفقة حنين؟ quot;قليل من كل شيء... نستمع إلى أغانينا ونطهو طعامنا ونتناقل بعض الأخبار ونكتب عن مأساتنا اليومية... ونقتل ما تبقى من حياة باحتساء الخمر والتفكر بماض لم يعد موجوداً. ما هو آت quot;مجهولquot;، حاضرنا مجهول. الماضي هو الإشراقة الوحيدة المتبقية في منفاناquot;. اما عن البعد الذاتي فهو باختصار التالي كما كتبت في مقال بعنوان: quot;شيء عن المنفىquot; نشرته مجلة الكاتبة قبل سنوات طويلة:

1
منذ صغري وأنا اعرف نكهة المنفى، ولدت ووجدت في هذه الحياة وأنا مرفوضة من مكاني الأصلي. صغيرة كنت وأسئلتي، بحجمي أو أكبر قليلا.. لماذا؟ ما هي السلطة التي فرضت علي أن أكون هامشية، اقف على حواف المجتمعات، وان دخلت واقتحمت وحاولت إيجاد مكان مناسب لي، أعود فاهرب من تلقاء نفسي، لأني اشعر بغربتي وقد تضخمت كالمارد التعب... اهرب ولكن إلى أين؟
من أعطى ذلك القرار لكي أكون كالفتات منثوراً هنا وهناك، لا اعرف كيف ألملم نفسي المبعثرة، مجزأة إلى عشرات الأجزاء، كل جزء يصرخ مطالباً بشيء ما... ذكرى هنا وذكرى هناك، وجوه هنا ووجوه هناك، ماض مشتت بوحداته وعناصره، ماض كالحاضر، يتواصل ويتواءم وينساب باضطراباته وتفتته وتشرذمه.. ماض لا يعرف مستقرا له.. وحاضر لم يزل يبحث عن مكان، ومستقبل يزحف بطيئا كسلحفاة عجوز.
اعتدت الهروب من الخارج ومن الداخل إلى ما لا اعرف!
وأينما اقف، الأرض تهتز تحت قدمي، رمال متحركة أخشى أن تبتلعني فاهرب إلى نفسي.. الملجأ الوحيد الذي أعرف.

2
تشكلت في مجتمعات غريبة.. وما زلت، أعيش حالة طارئة منذ صغري. وما زلت... ابحث عن مأمن تحت رأسي أو تحت التراب.. وما زلت... لم تنقذني الأفكار والأيديولوجيات والمسارات الواضحة في الحياة، لم تسعفني الحالة الجماعية التي تسير وبوتيرة واحدة وهي مطأطأة الرؤوس أمام الزوابع الحياتية.. لم تنتشلني الحالات التراجيدية الجماعية من الهول الداخلي.. كل الحالات ملكي وأنا ملك نفسي.
يهمني الإنسان، النفس الكامنة فينا.. كل واحد منا يستنشق الهواء بطريقته.. يرى الأرض والسماء بطريقته، يعانق الحزن والفرح بطريقته.. لسنا كتباً يؤلفها الآخرون ولا جوقة موسيقية تحتكم لعصا المايسترو.
دربني المنفى على أن أرى الاختلاف في الشيء نفسه، أن أكون ولا أكون، أعطي ولا اعطي، اسير ولا أسير... أن أكون في منتصف طريق، يسير بي إلى ما لا نهاية، تسيرني الحياة والوجود... لم أتعلم يوماً أن أهب نفسي لمكان واحد وحيد.

3
منذ صغري وأنا أرى وجوها غريبة وأماكن بعيدة.. انتقل من بيت إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.. ومن أصدقاء إلى آخرين... فقدت الإحساس بالمكان والثبات والاستقرار والسكون.. اعشق السكون في هذا الكون المحموم.
زمانية المكان لا تهمني والأهداف لا تهمني بقدر ما تهمني حركية الحركة نفسها، آلية الحركة، خطوات تسيرني فكل حركة فيها ما يكفي من الأهداف والنهايات... كل فرد فيه ما يرضي فرديتي، لذا أنا مع الجميع وبين الجميع ومع نفسي في آن معاً.
ابتدع لنفسي مجتمعا ارتضيه أنا، وابتدعه كما أشاء بعيداً عن مكاني الحقيقي. في الغربة يصبح الفرد مجتمعا مكتملاً. تتخذ الأعراف والتقاليد والضوابط الاجتماعية هيئات وأشكالا مختلفة، ما نعرفه منها هو الأساس، وما تصبح عليه هو من فعل تجربتنا اللاحقة... في أماكن ومجتمعات أخرى تحتم علينا الحذف والإضافة والخلق، وأحيانا التناسي والتغافل والاستحضار. وما يتم هناك في المكان الأصلي، لهو بمنأى عنا، بعيدة منا، لا يمسنا بشكل مباشر وغنما مجهول، طفل نرعاه بحذر شديد، وبخوف اشد. نحن نعكس مخاوفنا وأوهامنا وأحلامنا كما نشاء... نهذي، نغضب، نفرح، نلهو، ونحزن وحيدين كالمخلوقات الهائمة في البراري، فمن ينجينا، من أنفسنا؟

4
العلاقة مع الآخر ثقل نحتمله مرغمين، نرى الآخر ونتوجه غليه بصورة عبثية، عبثية الحالة تدفعنا لعبث من نمط آخر، نحتمل على مضض ما يبدر منا من خواء ومساحات بيضاء فارغة وغثيان متلاحق أمام الآخر. كلما امتدت بنا الغربة كلما تغرب الآخر عن نفوسنا وذواتنا، كل واحد منا غربة، كل واحد منا إعياء وغثيان، كل واحد منا خلاصة هم وحزن عتيقين، لا يلتقي حزننا ولا غثياننا ولا غربتنا، حالة واحدة تجمعنا، حالات عدة تفرقنا وتبعدنا عن أقدارنا الإنسانية الطبيعية.
الآخر، في الغربة وطن، إلا أن الآخر الذي نعرف، غربة قاسية الملامح، حقيقية صلفة، ألم منتفخ، ماذا نريد من الآخر؟ أهي لحظات اقتناص الماضي والأحزان؟ أهو التواصل مع وهم فقد مبرراته، أم امتحان أنفسنا وقدراتها على تحمل واقع مجتمع لا نعرف منه سوى الحواف والمنحدرات؟
في الغربة تنتفخ الآلام، وتتورم الذكريات، وتتقيح ذاكرتنا بتفاصيل تفقد مع مرور الأيام نكهتها المعهودة. الغربة اجترار لمرحلة أو لمراحل منقرضة من تاريخ حياتنا.
ينتصف العمر إلى زمنين، الأول معاش والثاني اجترار للأول، أهو الموت أم تلاشي الأشياء والذاكرة والروح؟
قد يأتي الموت على هذه الشاكلة، يتدرج بخفة وخداع، أو ليست الحياة خدعة؟
الموت حاضر أبدا في حياتنا، يكبر فينا كالطفل... فلم نبتدع أشكاله مبكراً؟quot;