فهد الشقيران من دبي: تساءلت من قبل عن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا في مقالة عنونتها بـ(الفلسفة من برّأها من فيروسات الأيديولوجيا) اضغط هنا
أما في هذا الجزء فسأكتب عن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا منطلقاً من فلسفات ما بعد الحداثة.


1-العلاقة بين الفلسفات والأيديولوجيا:
يشبّه مونرو علاقة الأيديولوجيا بالفلسفة بعلاقة التبسيط بالعلم. وذلك حينما يكتب: (الأيديولوجية في علاقتها بالفلسفة تشبه علاقة التبسيط بالعلم وعندما يُرى العلم عبر التبسيط لا يعُرف غالباً، وإن كان التبسيط مديناً للعلم بأصله) ويكتب في مكانٍ آخر: (الأيديولوجيات تشكك في الفلسفات، وهي مستمدة من فلسفات سريعة ومرتجلة، مبنية على فلسفات أعمق، يُعاد تشكيلها تلبية لحاجات عاطفية متفقة إلى حدٍ ما مع التبادل ومع تقلبات سوق المال في السياسة اليومية، وثمة سمة أساسية للأيديولوجية وهي أنها تلعب بطبيعة إنتاجها دور العلامة المسجلة للسلعة). أما ميشيل سير فيرى إمكانية كون القول الفلسفي أيديولوجياً حينما يكتب: (يجوز أن يكون القول الفلسفي أيضاً أيديولوجية).
من أكثر الفزّاعات التي تطرح ضد تفريغ الفلسفة من quot;الأيديولوجياquot; أن فعل التفريغ هذا يؤدي إلى انتشار الفلسفات quot;الفوضويةquot; و quot;العدميةquot; وأستشهد هنا بنصّ كتبه فشفنيرادزيه في كتابه الأيديولوجيا والفلسفة (نقلاً عن وثائق فاديه) يقول كاتباً: (في المقام الأول من الضروري أن نشير إلى اتجاه يعبّر بوضوح كاف عن تفريغ الفلسفة من الأيديولوجية، ويشمل هذا الاتجاه في الواقع تيارات عديدة، يسهل تمييزها، وتقدم حججاً مختلفة. يؤكد بعض الفلاسفة مثلاً أنه لا يمكن إنقاذ الفلسفة الحديثة إلا عن طريق تحريرها من الأيديولوجية تماماً، ويحاول البعض الآخر أن يقرّ مذهب تفريغ الايديولوجية، استناداً إلى quot;العقلنةquot; الناتجة عن التقدم التقني، والعلمي، وهذا معناه quot;نهاية الأيديولوجياquot;.
أما البعض الثالث فيدّعي أن التفريغ الأيديولوجي ضرورة فقط فيما يتعلق بالفلسفة وعلم الاجتماع الماركسيين السوفييتيين، وهكذا فإنهم يكتشفون بوضوح الأصل الحقيقي لحبهم المدّعي للحقيقة). ثم يكتب في مكان تالي: (لا يمكن أن نرمي الفلسفة وراء ظهورنا ومن الضروري ألاّ نفعل ذلك ولكن من الممكن جداً أن نضحي بالأيديولوجية). كما تم استخدام quot;التفريغ الأيديولوجي للفلسفةquot; كوسيلة لضرب الماركسية حينما يكتب فشفنيرادزيه:(إن مذهب التفريغ الأيديولوجي هو الرغبة في سلب التأثير المتزايد باستمرار للأيديولوجية الماركسية، ووضع مشكلة الإنسان في المحل الأول، على طريقة المدارس المختلفة، اللاهوتية، والانثربولوجية الفلسفية، الفرويدية والوجودية).

2-ديفيد هوكس: مفهوم الأيديولوجيا لدى ما بعد الحداثة لا يلزم فلسفياً:

(تتسم فلسفة ما بعد الحداثة باستقلالية التمثيل فالسيموطيقا والتفكيك يتحديان الاعتقاد الواقعي للقرن التاسع عشر الذي يذهب إلى أن العلاقات اللغوية تشير ببساطة نحو أشياء واقعية على نحوٍ شفاف لا تعقيد فيه. وبدلاً منه يوحيان بأن ما ندركه بوصفه العالم quot;الواقعيquot; قد خلقته لنا أو شيدته لنا أنظمة الدلالة التي نستخدمها لتمثيله. وقد أدى ذلك بعددٍ من مفكري ما بعد الحداثة إلى أن يطرحوا التساؤل حول ما إن كان مفهوم الأيديولوجيا ما يزال لازماً، ذلك أن كلمة أيديولوجية تشير في المعتاد إلى طريقة في التفكير خاطئة على نحوٍ نسقي، إلى وعيٍ زائف، فإذا أمنا بقوة التمثيل في تشييد الواقع أصبح من الصعب الاحتفاظ بالتمييز بين الحقيقة والزيف، وربما تكون هناك تأثيرات حقيقية تنتجها أنظمة الدلالة المتنوّعة أو الخطابات ولكن ليس من الممكن وجود أي مقياس خارجي للحكم نستطيع وفقاً له تقييم المزاعم المختلفة. وانطلاقاً من النزعة النسبية التي توصف بها عادةً فلسفات ما بعد الحداثة، فإن أكبر ضربة توجه ضد المفهوم quot;الأيديولوجياquot; أن الإقرار بوجود وعيٍ زائف يلزم عنه الزعم بأن ثمة قاعدة صادقة أصليّة، وهذا يقود إلى نحت معايير محددة تقيّد مجالات التفلسف والتنظير).
أما نيتشه وعلى طريقته الفلسفية القائمة على quot;التفلسف بالمطرقةquot; أو على quot;تشريك الديناميتquot; قام مشروعه على نقد الفلسفة الغربية. فهو ربّى خليّة مفهوم quot;التجاوزquot; الذي سيأخذ حظّه من الطرح لدى هيدغر. يكتب نيتشه عن أصل الخير والشر فيرى في هذا الثنائي السبب في الانقسام التاريخي لدى المجتمعات بين مجموعة ممتازة من الارستقراط واليونان وآخرين مستعبدين من نساء وعبيد وبرابرة وتلك الثنائية تسوق لهذه القسمة. يعلّق ديفيد هوكس في كتابه الهام quot;الأيديولوجيةquot; فيكتب: (بذلك تكون الفلسفة الغربية كلها-بنظر نيتشه- في الأصل أيديولوجية بمقدار ما تكون خدعة مصممة لخدمة مصالح مجموعة محددة من الناس). وديفيد هوكس وضعنا بين خيارين لفهم موقف نيتشه من الأيديولوجيا، فهو في بداية الفصل المخصص لنيتشه يسوّق للرأي الأول الآنف نقله وفي ختام الفصل يخيّرنا بين أن يكون موقف نيتشه إما quot;ألغاء مفهوم الايديوجيا نهائياًquot; أو أن يكون نيتشه اعتبر الفكر الغربي بأسره أيديولوجي الأصلquot;.

3- فوكو: صعوبات في الاستخدام:
في البداية أسوق تحفّظ ميشيل فوكو على quot;صعوبة الاستخدامquot; حينما يكتب: (يبدو لي أن مصطلح ايديولوجيا يصعب استعماله لثلاثة أسباب:
السبب الأول:
أن الأيديولوجيا شئنا أم أبينا هي دوماً في حالة تعارض ضمني مع شيء هو بمثابة الحقيقة، والحال أني أعتقد أن المشكل ليس هو الفصل بين ما ينتمي إلى العلمية وإلى الحقيقة في خطابٍ ما، وبين ما قد يتعلق بشيءٍ آخر، بل إن المشكل هو أن نرى كيف ينتج تاريخياً بعض مفعولات الحقيقة داخل خطابات ليست لا صحيحة ولا خاطئة في حد ذاتها.

والسبب الثاني:
أن مصطلح الأيديولوجيا يحيل ضرورة على ما يبدو إلى شيءٍ هو بمثابة الذات.
والسبب الثالث:
أن الأيديولوجيا في موقعٍ ثانوي بالنسبة إلى شيءٍ يتعين أن يشتغل بالنسبة إليها دور بنية تحتية أو محدد اقتصادي مادي..الخ).

4- فوكو الامتناع عن الاستخدام:
ينطلق فوكو من إنكار لأي طابعٍ مطابق للواقع موضوعياً، فهو يرى أنه: (لم يعد من الممكن استعمال ألفاظٍ من مثل quot;صحيح، أو زائف، أو حتى وعي) بأي معنىً مطلق، صحيح أنه يقرّ بوجود خطابات أحدثت (آثار صدق) ولكن مجرد أنها قد أنتجت بواسطة كائنات بشرية، يكفي كما هو الحال عند نيتشه، لحرمانها من أي طابع مطابق للواقع موضوعياً) هكذا يكتب ديفيد هوكس عن موقف ميشيل فوكو. وفي مكانٍ آخر يطبّع فوكو مع الأيديولوجيا مستنكراً نعت خطابها بالخطأ والتناقض وغياب الموضوعية.
يكتب فوكو: (ليست الأيديولوجيا إقصاءً للعلمية، ذلك أن عدد الخطابات التي أفسحت حيزاً معيناً للأيديولوجيا يماثل في رحابته يماثل ذلك الذي أفسحه الخطاب العيادي أو الاقتصادي ضئيل وليس ذلك حجة كافية لنعت مجموع عباراتها بالخطأ أو غياب الموضوعية).
فوكو يطرح الأيديولوجيا منطلقاً من نظريته في التحليلات الخطابية وبالذات حينما يكتب: (إن التصدي لتحليل الحضور الأيديولوجي في علمٍ ما من أجل إبرازه وتحويله، لا يعني إخراج منطلقاته الفلسفية، الضمنية إلى واضحة النهار، لا يعني العودة إلى الأسس التي تسمح بإمكانه وتبرره بل يعني طرحه ثانية للسؤال كتشكيلة خطابية، يعني التصدي لا للتناقضات الصورية في قضاياه، بل لمنظومة تكوين موضوعاته وأنماط تعبيره ومفاهيمه واختياراته النظرية أي النظر إليه من جديد كممارسة بين باقي الممارسات الأخرى).

5- الأيديولوجيا تشبه الدورات الكونية:
(فكرة نهائية أخرى ما تفتأ تقرع آذاننا، وهي نهاية الأيديولوجيا، منذ الخمسينات إلى الآن، وبيضغٍ وأشكال متنوعة، وهي بالتأكيد فكرة ذات أبعادٍ متنوعة، فهي على المستوى المعرفي تشير إلى أن العلم والمعرفة العلمية قد انتصرا على الأيديولوجيا والمعرفة الأيديولوجية أو القيمية، وأن شرط الموضوعية الذي تتطلبه كل معرفة علمية سيقود إلى إبعاد quot;المعرفةquot; الأيديولوجية باعتبارها معرفة متحيزة، وغير علمية، لكن لمصطلح quot;نهاية الأيديولوجياquot; وجهاً آخر شبيهاً بفكرة quot;نهاية التاريخquot; ذلك أنه مع ازدهار المجتمعات الاستهلاكية، ودخول الرأسمالية مرحلة الإنتاج العالمي الموسع، تولّد وهْمٌ يقول إن الحاجات البشرية سيتم إشباعها كافة بفضل التقدم التقني، وبما أن الأيديولوجيا-والأيديولوجيات الثورية على وجه الخصوص- تضمّ بُعداً يوتوبياً واحتجاجياً على الواقع ومطلبياً، فإنها في الطريق إلى الانقراض، حيث لم تعد هناك حاجة إليها مع توفر الإشباع والاكتفاء. والحال أن العكس هو الذي حدث، فالإيديولوجيات تتوالد وتتكاثر، وتتناسخ وتتخذ مسوحاً متعددة ودورات أشبه ما تكون بالدورات الكونية. فهي تارة علمانية وأخرى دينية وهكذا). (فالفضاءات التي كانت تملؤها الأيديولوجيا الاشتراكية احتلتها الأيديولوجيا الليبرالية الظافرة. وكأن أيديولوجيا تطرد أخرى وتحل محلها. كانت الاشتراكية منذ أواسط القرن العشرين إلى بدايات هذا القرن بمثابة يوتوبيا، وما أن نجحت في الاستيلاء على السلطة حتى تحولت إلى أيديولوجيا بالمعنى الذي يقترحه المفكر الألماني مانهايم، أي فكراً مبرراً للواقع، وها هي الليبرالية اليوم تجدد إهابها وتتحول إلى يوتوبيا في المناطق التي كانت تسودها الأيديولوجيا الاشتراكية، ففكرة نهاية الأيديولوجيات وفكرة نهاية الأيديولوجيا كلاهما غير صائبتين. فلا الايديولوجيات انتهت، ولا الأيديولوجيا بعامة انتهت) (وقد سبق للمفكر الفرنسي ألتوسير أن دافع بقوة عن فكرة بقاء الأيديولوجيا ورفض فكرة نهاية الأيديولوجيا سواء في صيغتها الاشتراكية القائلة بأن المجتمع الاشتراكي سيحقق للأفراد كل حاجاتهم وبذلك ينتفي الصراع الاجتماعي والاستغلال وكذا الحاجة إلى التضليل والتمويه اللذين يشكلان جوهر اشتغال الإيديولوجيا سواء في صيغتها الاشتراكية، أو في صيغتها الرأسمالية القائلة بأن تحقق مجتمع الوفرة والاستهلاك سيقضي على التطورات الاجتماعية، وعلى ضغط الحاجات وبالتالي سيخلق مجتمعاً مسالماً لا حاجة فيه الأيديولوجيا) (هذا النص بطوله لمحمد سبيلا من كتاب quot;زمن العولمة-فيما وراء الوهم- ص40 و 66).

6-تحليل للعلاقة:
إنني أنفي إمكانية بحث علاقة عضوية ndash;على هيئة أبعاد- بين الأيديولوجيا وquot;الفلسفةquot;. (بالمعنى الهيدغري) وأعني بها المناخ أو الجوّ أو المساحة التي يقف فيها الفرد فكرياً ليمارس التفكير ومن ثم ينتج من خلالها quot;فلسفتهquot; التي تتحول إلى إحدى quot;الفلسفاتquot;. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإن الأيديولوجيا استخدمت في quot;الفلسفاتquot; عبر استعمالات متعددة، حيث يتشكّل معنى الأيديولوجيا وفق المنهج الذي تحدده النظرية، لذا لم يعد من الممكن البحث في الموضوع الأيديولوجي للفلسفات بشكلٍ موحّد. فلكل فلسفة أبعادها التي تفسّر بها الأيديولوجيا، أو منهجها الذي تنتج عبره أدلوجاتها المختلفة. لقد كانت مختلفة، في استخداماتها للمفهوم، ولشرحها له، ولموقفها منه، لذا جاءت الفلسفات مختلفة في أبعادها التفسيرية والإستعمالية لذلك المفهوم. لنصل إلى مسارٍ مختلف، هل الأيديولوجيا من إنتاج الفلسفات، أم من إنتاج المجتمعات؟ خاصةً وأن من الهمام الكلاسيكية التي تحال إلى الفلسفة عادة أنها تقوم بضرب قلاع الأيديولوجيا.


[email protected]