كثيرا ما تصلني رسائل من أصدقاء وغير أصدقاء يسألونني فيها عما حل بعلاقتي بالسوريالية، هل تخليت عنها، ما رأيي فيها... الى آخر الأسئلة المشروعة. وجدت أن أفضل جواب عن أسئلتهم، هو نشر نص النداء الذي كتبته بالانجليزية ونشرته في العدد الرابع (خريف 1986) من المجلة الانجليزية التي كنت أصدرها من باريس GRID في منتصف الثمانينات. والنداء كان موجها إلى فروع الأممية السوريالية آنذاك التي كنت أعمل معها وكانت هذه المجلة منبرا لها. وقد أحدث وقتها انشقاقاً مع الفرع الأميركي المعروف بسلفيته الايديولوجية المنقودة في النداء.
كُتِب هذا النداء بالانجليزية مباشرة، إلى قوم مطّلع على نصوص السوريالية وعلى خبايا تاريخها وبياناتها الداخلية ففي كل جملة ثمة دلالة ذات مرجعية حركية، لذا سيجد القارئ العربي صعوبةً في فهم مرجعيات بعض الطروحات التي أثيرها... مما جعلني أتدخل في الترجمة التقريبية التي قام بها صديقي محمود شريح مشكوراً، لتبسيط وشرح بعض الفقرات الغامضة، مع إضافة توضيح، تجده في اطار عن حركة quot;أممية مبدعي الأوضاعquot;، ومفهوم الاختطاف. كما اني وضعت في نهاية المقال كله، النص الانجليزي إذ ينطوي على هوامش إيضاحية لم أضعها في المتن العربي. العنوان العربي من وضعي، أما العنوان الأصلي للنداء فهو: quot;القطيعة ارتباط حقيقيquot;.
خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت فقاقيع جديدة تعكِّر ركود المياه الآسنة لما يسمّى عودة السوريالية. معارض تبدو فيها هذه الحركة وكأنها بطّة تحتضر في أجواء قرقعة وفوضى، وحشدٌ فضولي من جامعيين يعيدون إحياء المُبتذَل القديم نفسه، وجمهرةُ متأدّبين يحجّون دوريّاً إلى باريس المحروسة آملين بأن تحلّ عليهم بركةٌ سورياليّة تسبغها عليهم جيفة هذا الحارس المهترئة أو ذلك الطاعن السن في حراسة المعبد؟ وأخيراً وليس آخراً هذا البعث النشط لتجمّعات لا تسهم بجديد، ولكن تؤكِّد دوماً وبأتفه السبل على مبادئ نزعت من سياقها التاريخي حد تحنيط ديناميّة المبادئ بالذات؟ إذ كلّما اختزلوا السوريالية إلى مجرد عمل سياسي، حرموها من فحواها السياسي الفعلي الذي يقوم ضمنياً على نقد الخطاب الحزبوي الكامن في المشروع الثوري نفسه؟ إن التفكير عقائدياً معناه ترسيخ الندم على الولادة بخطيئة.
عندما اتهم السوريالية اعداؤها بأنها ليست سوى ذنب للحركة الرومانتيكية، كان ردّ بروتون: quot;نعم لكنه ذنب ذو قدرة على القبض..quot; معظم هذه الجماعات تكشف عن نفسها ومنذ تكوينها على أنها أذنابٌ عاجزة القبض على أي شيء، فهي مفعمة بتفاؤل ولّى زمنه، وليس كما يتوجّب عليها أن تكون. امثلة سوريالية ينتشطها الابداع كشاهد يفصح عن أفراد واعين من شأنهم، غريزياً، التضحية بهذا التعويد الذي غالبا ما يحرّم على المرء ارتباطه بالقضية. أن يكون حرّاً بلا هوادة. على الأشياء أن تنحلّ عن بعضها بعضاً إذا ما كان لها أن تولد من جديد وتنطلق بنقاء وأصالة، كما قال آرتو. فلا يمكن للمرء، في هذا الحال، إلاّ أن يتّفق مع ألان جوبير حين يقول quot;إنّ عادة التفكير عقائدياً قد حجبت روحنا إلى درجة أنّ عريَنا وما هو طبيعي فينا يبعثان فينا الذعرquot;
إن الثورة البروليتارية في الثلاثينات، التي وجد اندريه بروتون أنّ هناك ضرورة لها لانجاز الحرية السورياليّْة، لم تكن سوى مفهوم ديني لتحقيق السعادة البشرية فحسب، وإنما أيضاً مجرد قناع تاريخي يحجب عن العيان ذلك النزاع الحقيقي والمُستعِر أبداً بين المثقفين اللاهثين للوصول إلى الحكم وبين أقرانهم الذين أمسكوا بزمام السلطة. والبروليتاريا تدرك في قرارتها هذه الحقيقة كاملةً، ولهذا فهي تسعى أبداً إلى تعزيز وضعها كبروليتاريا فحسب shy; أي صورة الاغتراب بالذات بدل تدميرها.
ولسوء الحظ فقد توفي بروتون في وقتٍ مبكّر جدّاً، وإلاّ لكان بالطبع قال وفي ذهنه ماركس أن الأمر الوحيد الذي يعرفه هو أنه ليس سوريالياً. ولو كان جهر بذلك لشقّ قناة جديدة لأتباعه كي ينقذوا على الأقل السورياليّة بمفهومها الأوسع، أي .وظيفة الفكر الحقيقية.، بالتعبير عنها بعمق أكثر حتى يكتب لها أن ترقى إلى مصاف أسمى عوض أن تبقى هالة تقديس لدى متأدبين لا حول ولا قوّة بهم إلاّ التفتيش في درج الاختراعات التي هجرتها السوريالية منذ زمان. كالكولاج، الكتابة الآلية، الخ. لا يُساء فهمي بأني أدعو إلى التخلّي تماماً عن تلك التقنيات. مقولتي shy; وكما نعرف جميعاً shy; أن كلّ اختراع يمهِّد لاختراع آخر، أي أنه دعوةٌ إلى الانفصال عن التقليد الشائع، وبكلمة أخرى فأنّه سبيل إلى تخطّي ما عشّش في الذاكرة، اضافة إلى أنه بعثٌ لما بقي من الابتكار وصمد. ويحق لي أن أقول بأن هذه الاختراعات جعل الاعلام منها، بطرق أكثر ابداعاً من هؤلاء، مادة صالحة لفائدته.
ما إن يُصبح الابتكار نهجاً تقليدياً، حتى يتحوّل ليس فحسب إلى مادة مومسة يُحسن ويُساء استعمالها، بل أنه أيضاً يعمي بصيرة المرء عن رؤية العنصر الحيّ الكامن في الابتكار، وهكذا يبترُ استمرارية الطبيعة الابداعية والتأويلية المتأصلة في التناول السوريالي للمواد المعطاة. هذا لا يعني تم طمره تحت الأرض منذ زمن بعيد، حتى وهو ما زال فعالاً في السوريالية. ذلك أن الرغبة في احيائه تحتاج إلى شباب متجدد ومتحرّر من التمسّك الديني بالمبادىء ومستعدّ للشكّ حتى في المُثل العليا التي ناضلَ أسلافنا من أجلها، أي شباب قادر على قتل الأب، له عين لا تزال خام وأكثر افتراساً من آكلي لحوم البشر، إلى حدّ أنها تقوى وبلمحة خاطفة على رؤية مسار تاريخ السوريالية بأكمله، لتقف عند محطة جوهريّة لم ينتبه إليها أحد في ذلك التاريخ نفسه. عينٌ بلا ذاكرة تقوى على تحريرنا من أية هالة تحيطُ بالتراث والأمكنة القديمة. وإلاّ فاننا أسرى جمال الماضي المزيّف الذي يتّخذ شكل بيت عنكبوت ننظر منه في غالب الأحيان إلى غدٍ جوّال، ومع ذلك فان الغد يبقى الأمس الأسوأ. وبالطبع فان الأمر يتطلّب انقطاعاً عن لغة التخريب التي كانت لزمن مضى لغة الأحرار، وهي اليوم، وكما قال جورج حنين صائباً، quot;ذات مصداقية توازي التأكيد على أظلم الممارسات المجحفة بحق البشريةquot;.
لستُ ضدّ شخص ما موغل في السياسة، كما اني لستُ ضدّ شخص آخر متبحّر في الفنّ. بل على النقيض من ذلك تماماً، فهناك حاجة إلى كليهما، ولكن بشرط أن يعمدَ كلُّ منهما وبطريقته الخاصّة إلى quot;دفع العقل لينغمس بموضوعية باطنه في لجّة السوريالية بغرض احياء أبهى لحظات طفولتها بدهشة متّقدة، والامساك بذلك الشعاع الخفيquot; لطاقتها التحررية، على حد قول بروتون. أعترف بأن هناك أفراداً مزيّفين كثيرين يزعمون أنهم مبتدعون ومتحرّرون من العامية الحزبوية، في حين أن أقدامهم تسعى عبثاً نحو المؤسسة الثقافية، بقدر ما هناك أفراد غيرهم يتوهّمون بانهم قد توصّلوا إلى صياغة معادلة تجمع فيما بين فعلي العقل المنفصلين هذين quot;السياسي والابداعيquot;، عبر المشاركة في تظاهرة أو توقيع بيان عام، بينما هم يسهرون الليل بطوله يلطّخون لوحة الكانفاس بأشكال سوريالية. لا شفاء من هذه المعمعة، فالحركات مثل البشر، مصيرها واحد: كلّما كانت أصدق خرج منها محتالون أكثر!
في فترة كهذه حيث تحوّل الحماس السوريالي إلى تظاهرات مزيّفة ووعود كاذبة، يجد المرء نفسه مضطرّاً إلى اعادة النظر بمنطلقات السورياليّة نفسها وحلّ المقولات التي أسّستها بحكم الضرورة المرحلية لتعرية العقل من أوهامه، مقولات جعل منها تلاميذ السورياليّة عقبات في وجه تطوّرها، ولا سيّما منها ما اختصّ بسرد الاحلام وتكرار الصورية واللجوء إلى الكتابة الآليّة.
ولتقصّي مسيرة فهم السورياليّة هذا، علينا أوّلاً العودة إلى نهاية الستّينات حين صدر بيان 23 آذار 1969 الذي لفت انتباه الناس إلى أنه quot;اثر القرار الذي تمّ التوصّل إليه من قبل عدد من السورياليين، اتّفق بعض هؤلاء ولأسباب غير متماثلة بالضرورة على تعليق نشاطهم بدءاً من 8 شباط 1969quot; طالما quot;أن هذا النشاط لا ينبعث عن مطالب واضحة، وأن المغامرة الفردية لن تكون قادرة على تمجيد مخاطر النشاط الاجتماعي، يجب أن يُفهم أنّ العرض العام الذي يتقدّم به هذا الفرد أو ذاك لا يمكن الأخذ به على أنه ممثِّل لنشاط الحركة السورياليّةquot;. وبعد أشهر قليلة قام جان شوستر باشعال فتيل هذا الحلّ الذاتي حين نشر في صحيفة اللوموند بتاريخ 4/10/1969 فميّز بين السورياليّة التاريخيّة التي أكملت مهمّتها والسورياليّة الأبدية التي quot;سوف تساعد على فهم كلّ ملكات الحلم والتمتّع بها، وتفسح المجال لقيام الحلم حقيقة تنظِّم مصائر البشر في سياق حياتهمquot;. على أن الجهود العديدة هذه من اجل ايجاد مخرج، باءت جميعها بالفشل في خلق نشاط سوريالي ممكن، هذا فيما إذا لم تكن سوى مجموعة من تصفية حسابات فرديّة. لكن حتى لو عمد فردٌ ما صادقاً إلى تنظيم مجموعة صلدة، متماسكة في قراراتها، وآخذة بعين الاعتبار كلّ أشكال المواجهة الجديدة، على أمل أن تتحوّل إلى مرجع نقدي موثوق به، فان ذلك لن ينفع، وذلك لسبب بسيط هو وكما عبّر عنه بدقة السوريالي آلان جوبير: quot;لم يعد ثمة حركة سورياليّة، بل جمهرة سورياليين في حركة دائبةquot;.
في رسالة مؤرخة 16 آب 1949 من جورج حنين إلى نيكولا كالاس، قال حنين أنه حين اقترح على أندريه بروتون لدى عودته من أميركا أن الحاجة إلى الوقوف على آراء السورياليين في العالم أجمع أكثر الحاحاً من اقامة معرض للوجاهة، لم يعر بروتون الموضوع اهتماماً ذا شأن، زاعماً أن ذلك لن يؤدي إلا إلى بلبلة وتفسّخ؟ وعلى الرغم من هذا المنحى الخاصّ اليائس من مستقبل الحركة السوريالية، فالبلبلة والتفسّخ اللذان سعى بروتون إلى تجنّبهما كانا وشيكي الحدوث، إذ برز السورياليّون المحيطون بالحركة على شكل تجمعات فنيّة (عرفت فيما بعد بمجموعة كوبرا، السوريالية الثورية، التجريدية الغنائية، التصوّريون المعماريون، الحَرْفيون أي المنطلقون من الحرف) ليبرهنوا على ضرورة مواجهة الواقع مواجهة جديدة. فكانت تجاربهم أشبه بالصرخة الأخيرة للحسّيّة التشكيلية في مرحلة الحرب الباردة، ونجحت إلى حد ما في الانعتاق والانفلات من الصورية السورياليّة التقليدية، فرسّخت وجودَها، وما سورياليّة دو شامب في الخمسينات إلاّ نموذج ساطع عنها؟
على هذا النحو قامت اشكال التعبير الجديدة، كالاختطاف، بالتسلّل إلى مسرح الابداع في الخمسينات، فطغت على بعض الممارسات السوريالية ونسختها. فمثلاً كان لوتريامون أول من انتهج الاختطاف فرسّخها ثم شاعت في الستّينات مع حركة quot;اممية مبدعي الاوضاعquot; على أنّها نقيض القيمة السابقة لتنظيم التعبير في فترة ما بعد الحرب، وهكذا نهج كتابة لوتريامون الآلية الذي تبنّاه
وما إن اندلعت أحداث أيار 1968، شكل أفراد الأممية مع العمال والطلاب الموالين لأفكارها، ومع حركة المسعورين، الجزء الأكثر تطرفاً، أي الأكثر تاريخية في هذه الأحداث، إذ أعادوا الاعتبار لسلاح ثوريي كمونة باريس. المتاريس التي أمتلأت بها شوارع باريس.ويعتبر كتاب غي ديبور المجتمع المشهدي La Societ du Spectacle الخلاصة النظرية لهذه الحركة، وله أهمية وتأثير كبيران في الحركة الفكرية التي شهدتها فرنسا في السبعينات. |
السورياليون قد نقضه اسلوب لوتريامون الأصلي. الاختطاف، هذا المعطى تاريخيّاً على أنه طاقة تخفيض قيمةٍ يتوجّب في ضوئها اعادة النظر في كل عناصر التراث، إما أن تُستثمر من جديد أو أن تختفي نهائياً، على حد قول الفنان السويدي آسغر يورن.
ومع ذلك، فان كلّ ومضات التخريب هذه المنبعثة من ماضي السورياليّة الذي لم تُحَل مشكلته، والذي، كما يرى ديبور، عاش حياة من الشك والبلبلة، لم تتوقع سوى توجيه نظري من السوريالية للقيام بنشاط ثوري، بغرض احياء البديل السوريالي وquot;ترسيخ رؤاه ونواياه الاصليةquot;. لكن السورياليّة لم تمنحهم سوى خلاص مؤقّت، فهي لم تُطوّر نظرية مثلما انتجت مجموعة كاملة من الشعر. فالنظرية بمعناها الموروث وتحديدها المعاصر لم تكن سوى حلم ثر لم تقوَ السورياليّة على ايصاله، ومع أنّ شتات تلك النظرية كان موزّعاً هنا وهناك؟ وإضافة إلى ذلك فانّ السورياليّة في إهمالها ما كانت تومىء إليه تلك الومضات قد أفسحت المجالَ أمام ظهور جدلية نجاح زائفة تكمنُ في صلب الممارسة الفنيّة، أي في انتهازها الفرصة quot;بتذويبquot; هذه الممارسة في quot;تجارة الفن العاديةquot;، مُسبِّبة بذلك quot;ثنائية جديدةquot; ولكن هذه المرّة مُستترة، ما بين الفنّ والسياسة؛ ويحبّذ تجار هذه الجدلية الزائفة أن يعتقد الناس بأن السورياليّة quot;كانت أكثر حركة جذرية وازعاجاً ممكنةquot;، وذلك فقط للحؤول دون نشوء ثورية جديدة عنها، مما ينمّي الحنين إلى سورياليّة قديمة وفي الوقت ذاته التشكيك بأي مغامرة جديدة باختزالها آلياً إلى نوع من سوريالية سبق وان رأيناها. ومهما كان الأمر، فاذا كانت الخمسينات كما رأى بنجاما بيريه مجرّد مياه عكرة من السخافات، فاضت بتأثير من أولئك المؤمنين، بايجادهم اللبس والبلبلة، بأنهم جاؤوا بشيء جديد، ليس إلاّ لاخماد شعلة السورياليّة الحقّة، والتي قامت حفنةٌ من الشبان على الابقاء عليها متوهّجة، يمكننا عندئذ أن نعتبر أن السورياليّة shy; بافسحاها المجال أمام أُممية مبدعي الأوضاع quot;بؤرة كلّ ومضات التخريب تلكquot; للتصيّد في الماء العكر عن وضع ما shy; قد عملت بالتأكيد على خلق نواة تؤدّي لاحقاً إلى تهديد quot;علم السياسةquot; السوريالي برمّته. وبكلمة أُخرى فان تنامي التحدّي الذي تضطلع به امميّة مبدعي الأوضاع (انظر نهاية المقال حول هذه الأممية وحول الاختطاف) لمواكبة اقتضاء تاريخيّ يرمي إلى تبديل أساليب التصدي البالية، قد جرّد السورياليّة من صمّام أمانها. ذلك أن مبدعي الأوضاع لم يكشفوا فحسب عن السياسات المتناقضة للحلم السوريالي وقصور عمقه النظري بنبرتهم التهكمية، بل أنهم أيضاً احتووا على كلّ ما يمكن أن يميزها عن الحركات الفنية. الشتم، غزو الاجتماعات المؤسسية، فضح المثقفين، توزيع بيانات هجومية والخ. وتشذيبه إلى حدّ أن الاستخدام السوريالي للغة الذي أصبح عنصراً أساسياً من الطرح النظري الذي ازدهر بعد أحداث 1968، صار يحمل طابع مبدعي الاوضاع وليس طابع السورياليين. فأحد الأسباب هو أنه لم يعد هناك، في نظر مبدعي الأوضاع، quot;اللُبسquot;، الذي كان السورياليّون مغتبطين لاكتشافه عند كتابة قصيدة،، بين لغة quot;الحقيقةquot; ولغة quot;الخلقquot;، وانما هنالك غاية مشتركة يجب quot;انجازهاquot; كفعل جماعي مستحدث كليّاً يقوم بتنفيذ الحكم الذي اصدره الفراغ المعاصر على نفسه. وحجّة مبدعي الأوضاع في ذلك أن مرحلتنا لم تعد تحتمل كتابة طرائق شعرية، بل عليها أن تمارسها؟
لم يكن تدمير سوق quot;الليهالquot; سوى إشارة يُمكن بمقتضاها التنبُّوء بتطوُّرات الأُمور؟ منتدى ذاكرة جديدة انتصب فوق انقاضه shy; مركز جورج بومبيدو shy; يومىء إلى حقيقة مفادُها أن عهد المواجهة النوستالجية طفق ينحسر. ومع هذا فإن طوفاناً من البرامج الثورية بدأ يغرق المكتبات ويتّهم السابقين بالضلوع في الخديعة، فأصبحت مكتبة ماسبيرو تروّج ذلك الادعاء. وبرزت واضحة رغبات دفينة كانت مقموعة في ظلّ الثقافة السوريالية؟ مثل quot;اللعبة الكبيرةquot; وجورج باتاي وآرتو والدادائيين، الخ.، فأصبح اعادة نشر مداخلات هذا الاتجاه شعار المرحلة. ولربّما كان في بعث الاساليب الثوريّة القديمة منفعة وحكمة، لكن استمرار النزاعات القديمة وتلقّي الناس أفكاراً ولدت في زمن مغاير حجبا عن الجيل الناشىء كلّ مسعى نقدي في ذلك الحين. اذكر حين وصلت إلى باريس في منتصف أيار 1972 أن جميع من التقيت بهم في الحيّ اللاتيني كانوا واقعين تحت سطوة حلم، فكأن الانتقال المرتقب من مملكة الضرورة والحتمية إلى مملكة الانعتاق والحريّة على قاب قوسين أو أدنى، وأن انجازه مسألة أيام قليلة. كانت الحقيقة تتربّص بأدنى شكّ. لم يصدّق أحد أن تلك الثورة قد تبخّرت، فلم يبكِ عليها آنذاك سوى حفنة من شجيرات كانت تواكب الجادّات لقرون خلت، ذلك أنّ جرثومة صفرة النبات كانت قد فتكت بجذور مرحلة بأسرها، والحكومة أقرت قطع الأشجار. إنّ مزبلة التاريخ مترعة بمتعهّدي التغيير، والسورياليّة ليست بمنأى عنها.
قمت بلمّ شتات هذه البديهيات الأساسية، لا لاعلان مناصرتي نقد الانفصال بين الصورة السوريالية ونتائجها الذي شنّه مبدعو الأوضاع (مع اني لا أقرّ بحساباتهم المسيّسة للتقنيات الشعريّة)، ولا لالقاء شكّي على طيب نيّة السورياليّة في التصدّي لكل تجارب الانفصال التاريخية، أو على أصالة مبادئها، ولكن لاؤكدّ على الحقيقة القائلة بانه كان هناك أسباب أرى إنها أثّرت كثيراً في عدم استعمال الايتكيت السوريالي، هنا في فرنسا، وإلى حدّ ما في العالم. فمثلاً تمّت مصادرة تاريخية بعد 1968 لدعوى السوريالية إلى التدخل في الشأن الاجتماعي. ألقِ باللوم على أممية مبدعي الأوضاع إن شئتَ. ولإعادة رونقها دون الوقوع في لغط دعاتها المعاصرين فهذا معناه الوعي الحادّ ليس فقط لمشهدها المتكرّر أبداً ولكن أيضاً للمصيدة الناشئة عن المواجهة الجذرية مع الواقع السائد. وإذا ما كان لهذا التمايز quot;أن يتجلّى من جديدquot; فعليه إذن quot;أن يتمظهر في ظلّ زاوية الحركيّة الخاصة بالسورياليةquot; (بروتون)، وليس وفق تفاؤل ينشقّ عن الحقل الاجتماعي الذي يستوعب كل قوّة دفع خفيّة تعجز عن التعبير عن نفسها، إذ يتحوّل ذلك التفاؤل إلى نقيضه. وعليه، فقد بدا أن منطقة الحياد هي ما بقي فقط أمام الثورة السورياليّة لتعبّر عن نفسها فيها، أي أنه كان عليها أن تعبّر عن نفسها في أشكال ليست نفياً ولا توكيداً؟ وهكذا فان الضالعين فيها كان محتوماً عليهم أن يسموا على الرفض وعلى الاجماع معاً، كما اعتقد أندريه بروتون صوب نهاية حياته. وتلك المنطقة المحايدة ما هي إلآّ ما كان يؤمل بقدومه على شكل التنحي المطلق، أي عنوان معرض سنة 1959، ومنذ ذلك الحين لم ينهض أحد من الذين يدعون أنفسهم سورياليين بمهمّة ممارسة طرحه أو تطويره. بل على النقيض من ذلك، فان جماعة منهم، وخاصة أولئك الذين أعمى التحنن الى الماضي بصائرهم، أصرّوا على المضي قدماً وكأنّ تغيّراً ما في المسار لم يطرأ، متخلّين عن الجوهر ليمسكوا بالعَرَض. فقاموا بتحبير آلاف الأوراق بما رثّ من بقايا السورياليّة، فلم يتركوا لخلفهم ما يستحقّ القراءة، وذلك مرّده إلى أنهم كانوا في الحقيقة كما الآن يتصارعون فيما بينهم على من يتزعّم حركة لم يحجّرها الزمان فحسب بل أضحت في أعين الجيل الجديد جثّة هامدة. كان كلٌّ منهم يحاول انتزاع حصّة الأسد من تلك الحركة وفي باله أن بطاقة عضويّته القديمة تخوّله سلفاً جني المحصول العام، آملاً في تبيان أنه وحده قادر على خلع لقب السورياليّة على ابداعه هذا أو ذاك؟ ومع ذلك فلم يقنع هؤلاء بتقاسم ما جنوه من غنائم، ولم تكن هذه سوى علامة حزينة على عودة سلطويّتهم الدفينة.
أعلمُ يا لا ئمي أن الكلمات أصدقُ إنباءً من الأحداث، لكن مصير السورياليّة الفعلي، مثله مثل مصير أيّة حركة راديكالية في تاريخ الأفكار، ملكٌ للجميع، سواء كان نسخة مقلِّدة أم سلعة تجارية أم صفقة عمليّة، ذلك أنه quot;ما من فكرة تهرب من سطوة المتجرquot;، كما قال ادورنو؟ أن التشبّث بالسورياليّة، ميتة كانت أم حيّة، ليس السبيل الأمثل ولا السلعة الأفضل، ليس الآن على الأقل حيث المتجر نفسه بدأ يتفلّت من قيد الفكرة. واضافة إلى ذلك فان تراث السورياليّة أصبح quot;مثل مالٍ توزّع على عدّة ورثة بحيث عمد كلّ منهم إلى استخدام حصتّه تبعاً لهواه shy; أي أن حصّة كل منهم منقطعة الصلة عن الموروث الأصليquot;، على حدّ تعبير جورج زيمل. أجد أنه من الضروري طرح السؤال التالي: quot;ماذا بقي من أندريه بروتون؟quot; وبالطبع، فبالنسبة إلى الشيوخ الضاغثين باحلام السعادة الأرضية، ومنافسيهم المؤسّسين الخائبين، فانه من السابق لأوانه طرح هذا السؤال، على الرغم مما يعتريهم من قلق عند نهاية كل يوم حين تؤكد لهم الوقائع عجزهم عن رأب الصدع اللاحق بالمشروع السوريالي بأكمله. لكن محق من يؤمن بأن تكون مرتّداً في عالم غنيّ بمتحذلقين متلّونين معناه أنك معافى.
هذه هي صورة ما بعد السورياليّة اليوم. نصيرٌ قديم لها، منعزل في محترفه يحبّر رسالة إثر رسالة ولا يجرؤ على القيام بتغيير حقيقة أنه منذ وفاة أندريه بروتون لا يزال وعيه الباطن مثقلاً بالنمل. أليس من الممكن أن تحلّ مكنسة الساحرة مكان آكل النمل؟ إنّ سمّ الأفعى كامنٌ في جسمها وليس في نابها، كما يروي المثل العربي.
خريف 1986
ترجمها عن الانجليزية: محمود شريح
Towards a shift from surrealism
For a few years now, new bubbles have been breaking the stagnant waters of the so-called return of surrealism; exhibitions in which surrealism looks like a dying duck in a thunder-storm of confusion, an excess of chroniclers who continue rehashing the same old vulgarization, a flock of proselytes who make periodic visits to holy Paris in the hope of receiving a surrealist benediction from this or that unexquisite corpse of the temple's old guard, and last but not least,this perpetual resurgence of groups who add no_thing,but keep on affirming, in the most trivial way, principles shorn of historical context, there by historeifying the dynamism of these principles. The more they reduce surrealism to sheer politics, the more they deprive it of the political substance that furnishes, immanently, a critique of the political discourse rooted in the revolutionary project.To think ideologically is to deepen the remorse of being born with sin. II III IV V VI VII VIII IX Surrealism today is a cause without rebels Paris 1986
|
التعليقات