عبد الجبار العتابي من بغداد: للشاعر العراقي رشدي العامل مكانة خاصة في الشعر العراقي المعاصر، وفي استذكاره يفوح عبق خاص من جنبات الذكرى، عبق يعرفه محبوه ومريدوه لانه يمتلك وجدانياته، فهو من الشعراء الذين يظل طعم قصائدهم على طرف الذاكرة، وتظل كلماتهم تحلق بجمالياتها في فضاء القلب، ملحق (عراقيون) الذي تصدره جريدة المدى استذكره لمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لرحيله الذي كان في التاسع عشر من ايلول/ سبتمبر من عام 1990، عن عمر ناهز الستة والخمسين عاما.
افتتح الاحتفاء بالعامل بكلمة كتبها مدير تحرير الملحق افتتحها بقول للشاعر (اطرقوا ثلاث طرقات على قبري اذا سقط الطاغية حتى اعلم ان ليل العراق قد انتهى) مشيرا وموضحا الى (بعد أن ظل طيلة العقد الاخير من عمره صامدا بشجاعة نادرة في وطن محاصر بين الحرب والقمع)، وبموته ختم رشدي العامل، في عز المحنة التي تمر بها بلادنا، موقفا ثابتا ارتبط به شعره وحياته. فقد كان شاعرا من الجيل الذي يلي الرواد،كانت ولادته عام 1934في مدينة حديثة عاش نضالات شعبنا الكبرى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وساهم في عدد منها: اضرابات العمال وانتفاضات الفلاحين والهبات الشعبية في وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952، وانتفاضة خريف 1956 وثورة الرابع عشر من تموز 1958.
واشار الى دواوينه التي هي: همسات عشتروت 1951، أغان بلا دموع 1956، عيون بغداد والمطر 1961، للكلمات أبواب وأشرعة 1971، انتم أولا 1983، هجرة الألوان 1983، حديقة علي 1986 والطريق الحجري 1988.
وتضمن العدد موضوعا للكاتب الناقد حاتم الصكر بعنوان (العذاب السعيد أو: جنات رشدي العامل)، جاء فيها: في 11/7/ 1986 يهديني رشدي نسخة من ديوانه (حديقة علي) وعليها يكتب إهداء مشاكساً (أخي حاتم سأظل شاعراً رومانسياً) لقد كان يشير دون شك إلى مقالتي عنه (غناء الالوان المهاجرة) حيث قلت ان رشدي قد وجد خطابه عبر نبرة غنائية وجو رومانسي يؤطر قصائده حتى تلك التي يوهم القارىء بأنها واقعية (احتكاما إلى موتيفاتها: حدث- شخصية- موقف) فهو يختار زوايا ومدخلا ومعالجات تضعه دوماً في (مواجهة) موضوعه مباشرة فيعلو صوته، ويتجه إلى الخارج مبرزاً ذاته لتكون (بؤرة) تنطلق منها أشعاعات نصه حتى تلامس الخارج، لكنها مشدودة إلى مركز بدايتها: الذات. ففنائية رشدي وجدت في المأساة موضوعاً وشكلاً تعبيرياً متلازمين،كما أشرت في المقالة ذاتها إلى مناقشة بينه وبين الزميل ماجد السامرائي، وكان رد رشدي على السامرائي بعنوان طريف وموحٍ: (نعم، إنا شاعر رومانسي)
فهل كانت رومانسيته أمتيازاً أم عيباً؟ تقليداً ومحافظة أم خصوصية وهوية؟، أن الخطاب الرومانسي واضح في شعره، فالقصيدة، كما أعترف في مناقشاته تلك: (تتحكم إلى درجة العذاب. تمزقني. تفري عروقي. وأحياناً تتعطف علي فأحبها في الحالين.) قصيدته أستجابة لحالة.
وكتبت الشاعرة فليحة حسن موضوعا بعنوان (رشدي العامل وتجارب الحياة اليومية) قالت فيه: يذهب بعضهم إلى القول بان (المهمة الأساسية لشاعر القصيدة اليومية، هي أن يكون شمولياً ضمن اعتبارات أكثر منهجية وتأثيراً في اللحظة الزمنية الحاضرة. وضمن هذا الواقع الزمني أيضا يعيش الشاعر الذي يرفض أن يكون وحيداً فوق مساحة القصيدة اليومية... فهي تعيش حتى بأحلامه شكلاً جماعياً، لأنه يلغي اعتبارات الحلم الفردي أو المطلق إذا كان منتفياً مع أحلام الآخرين)،من هنا تبدو قصيدة (مذكرة عائلية) لرشدي العامل ضاجة بالأحلام المشتركة، المومى اليها بضمير المتكلمين (نا)، والذي جاء مقترناً بالفعل الماضي نحو (قطعنا، زرعنا، عرفنا) منساباً بحركة بطيئة قوامها التذكر، (في مثل اليوم)، حيث بدا الشاعر مؤرخاً ذا حضور واع لذلك التاريخ لأنها تمثل تاريخه المعيش:- (في مثل اليوم من العام الواحد والستين / في مثل اليوم
قطعنا نهر الأحزان /وقطعنا الأشواك البرية /شتلات الورد وأشجار التين /وجذور النسرين / وعرفنا لون الفجر / وطعم القبلات الليلية / والبوح الناعم، / بين النوم، وبين الآهات السرية)،
وفي هذه القصيدة يبدو أن التفاؤل يحطُّ رحاله على روح الشاعر فبدا مبتهجاً بتذكره ومتصلاً مع ذكراه (في مثل اليوم)، هو الذي قطع نهر الأحزان وزرع الأرض بكل ما هو جميل ومشتهى وعرف من اللذائذ عامتها وخاصتها، وإذ تتكرر الأفراح بتكرير تدوينها.
وكتب هادي الربيعي (أنا... ورشدي العامل) قال فيه: (ربما انا اقل الأصدقاء لقاء برشدي العامل بحكم ظروف المحافظات المعروفة ولكنني حتى الآن لم افارق رشدي العامل في مخيلتي التي تحمله بمحبة غامرة ولدي ملف جمعت فيه عشرات القصائد التي كان ينشرها بين الحين وألآخر وقد كتبت عن احد دواوينه بما اثار استحسانه وما زال هذا الملف من اغلى ما احتفظ به.
رشدي العامل موهبة متدفقة بالعطاء والانثيال ولكنني كنت اقول له دائما ان هناك الكثير الذي ينبغي حذفه من القصائد لتظل مشعة اكثر وما زلت مؤمنا بأن رشدي كان يمكن ان يكون من اهم شعراء العالم فيما عرف فقط كي يزيح الأشواك التي كانت تزاحم ازهار قصائده المشعة فهو مغرم بالتفاصيل الكثيرة في قصيدته ولكنه مع ذلك ظل متألقا بحضوره الطاغي في الساحة الشعرية لسبب بسيط جدا لأنه شاعر حقيقي وأصيل وصادق مع عالمه الشعري الى ابعد الحدود).
اما عيسى الصباغ فكان موضوعه عن (العاميّة في شعر رشدي العامل) اشار فيه الى ان الشاعر وظف كغيره من شعراء عصره التعبير العامي في شعره وقد اتخذ توظيفه اشكالا متعددة.
وكتب فيصل لعيبي (رشدي العامل.. شاعر البهجة والوحدة والرماد) ذكر فيه (كم هي مرارة هذا الشاعر الحساس والمرهف؟ انها قصيدة رشدي التي تميزه، مرارات والم وضياع الآمال والأحلام وتعميقا لمأساة المثقف الواعي وهي مأساة خاصة وعامة معاً، ضياع بيته وغياب أصحابه وإنهيار عالمه الذي رسمه مرة فوق مناضد الرفاق والمحبين الذين تفرقوا في زوايا العراق والمدن البعيدة والمنافي الخاوية حيث العالم يعيق الأحلام ويدفن الحالمين أحياءً. ان أشجان رشدي وجيله كثيرة وصبواتهم لاتعد،لكن لامعقولية الوضع العراقي قد إنعكس على الإبداع، وأصبح الغموض الذي رافق إنتاج المبدعين، أكثر وضوحاً في الحياة نفسها وأصبحت لامعقولية الحياة طبيعية في عالم منقلب الموازين،وتبدو لي أن مأساة رشدي قريبة من مأساة صلاح عبد الصبور الشاعر الأخاذ والشعبي الأصيل وأبن النيل الخالد، كلاهما مر بأزمة ليست شعرية فقط، بل حياتية،فكرية ووجودية، كلاهما خرج خالي اليدين،واتجهت الأنظار الى غيره، كلاهما كان نبيلاً في شعره وتضرب الفجيعة قصائده عمودياً فساد الحزن والوحدة أجواء عوالمهما).
كما تضمن العدد موضوعا لعيسى مهدي الصقر بعنوان (رحيل رشدي العامل) قال فيه: (فجر يوم الأربعاء، التاسع عشر من أيلول، عام 1990، ارتحل الصديق الشاعر رشدي العامل. ومع أنني شاهدتهم يهيلون التراب علي جثمانه، في القبر الندي، والشمس تجنح للغروب، إلا أنني لا أستطيع أن أستوعب حقيقة أن صاحبي الرقيق رشدي ما عاد موجودا معنا، فهو ما يزال ماثلا أمامي، في غرفته المنعزلة، في ركن البيت، وبابها المطل علي حديقة صغيرة (حديقة (علي) كما يسميها، علي إسم إبنه البكر المغترب). أراه نصف جالس، نصف نائم علي الفراش، بين كتبه وأوراقه، وبضعة مقاعد للزائرين من الأصدقاء، يتحدث، يقرأ شعرا، يمزح، وجهاز مذياعه الصغير، علي طاولة قريبة، مع عدد من الأشرطة (خليط من موسيقي كلاسيكية، واغنيات لأم كلثوم، وماجدة الرومي التي كان يعشق صوتها) وعلي الفراش كتابان أو ثلاثة).
محمد سعيد الصكار خمس رسائل من رشدي العامل لو هممت أن اجعل من كلمتي هذه رثاءاً لرشدي لهتف من أقصى القاعة: laquo;لك بشت هاي شتدسويraquo;!، ولكان على حق؛ ولذلك فلن أغيظه ولن أغالطكم، فأنا نفسي لا أصدق أن رشدي العامل غادرنا. لقد كنا على موعد، وكان الموعد يبدو قريباً جداً، أو هكذا تصوره هو، وأدخلني في تصوره؛ فقد كنت أريد أن اصدقه لكي أراه؛ كان على مسافة أسبوع عندما اتصل بي ليلاً واخبرني بأنه سيأتي إلى باريس، وصب علي أوامره بالاستعجال في ارسال الدعوة، وقد سعينا فعلاً بذلك، أنا والصديق العزيز المشترك فواز طرابلسي، وتوالت التلفونات منه ومني بحماسة وانفعال، حتى أنه صرخ بي يوماً بالتلفون: عجل يا أخي، سويتها قصة عنتر! هذه المخابرة كلفتني عشرين ديناراً، قلت له: عزيزي رشدي، لا تتعب نفسك وجيبك فأنا سأتصل بك، إعطني رقم جوازك وستصلك الدعوة فوراً، فرد عليّ بمنتهى البساطة: laquo;جوازي؟... جوازي ساقط من زمان، وسأسعى إلى الحصول على جواز جديدraquo;!، وكان هذا ضرباً من براءته وأحلامه الطوباوية!)
وكتب الدكتور مالك المطلبي (قراءة مُقتطعة في مُعلَّقَةِ الليل) جاء فيها (في قصيدته laquo;الى مايكوفسكيraquo; يكتب رشدي العامل يقظاً (أي ناثراً): الليلة التي انتحر فيها مايكوفسكي.. ليلته الاخيرة تستطيع ان تضيف أيضاً: انها الليلة الاخيرة لاي منا، شاعراً، عاملاَ، طالباً فالتفصيلات لا تهمّraquo;.. رشدي العامل، كتبت عن laquo;رشدي العامل laquo;قبل اكثر من ثلاثين عاماً، بأنه الوحيد وسط انسلال الاجيال بعضها من بعض، الذي يملك حق تمثيل الجيلين اللذين كونا الشعرية العراقية: أعني جيل الخمسينيات وجيل الستينيات. كان رشدي يضع رجلاً في الخمسينيات واخرى في الستينيات.. ليس ليتلبس مفهوم laquo;المخضرمraquo; الذي تلبس الشاعر القديم، بل ليتحرر منه، ذلك لان laquo;الخضرمةraquo; مجرد دلالة زمانية، اما laquo;التجايُلraquo; وهو المصطلح الذي اقترحه فهو مفهوم يتعلق بمحتوى العمل الشعري، سنجد كل الملامح البنائية التي تسم شعر الجيلين: منبثة في شعر رشدي العامل: الاسئلة الميتافيزيقية، الميثات، النزعة الرومانسية، والنزعة الانسانية، الاحساس بالمأساة ومن ناحية اخرى سنجد تعدد الاصوات وطابع السرد والتجريب الهندسي واسئلة العقل والتمسرح والتمركز.. الخ)
كما كتب علاء المفرجي موضوعا بعنوان (بصحبة الشاعر) قال فيه: (هو باحساس الشاعر المرهف، وانا برغبة الفتى الطامح الى ولوج عالم الادب والثقافة، اصبحنا صديقين، رغم اكثر من عقدين من الزمن تباعد بين عمرينا. لا ادري ان كان من حسن او سوء حظي ان الازمه في السنوات الاخيرة من حياته في الايام التي كان يعرف جيداً وبحدس الشاعر انها ما تبقى له من رصيد حياته المكتنزة بتجارب ثرة في الشعر والسياسة والصحافة والصداقة ايضاً. كان هو في صومعته يسمع قبساً من الموسيقى، ويطمئن على قناعته بأن الشعر هو الخلاص الوحيد ويستقبل الاصدقاء الذين وجدت نفسي بينهم نلتقي صباح كل يوم في بيته (الشاعر عبد الرحمن طهمازي، الصحفي المخضرم منير رزوق، المثقف الموسوعي محمد علي السامرائي، الموسيقار الراحل فريد الله ويردي، الدكتور الطبيب نزار المفتي)،هذه الصحبة التي قال عنها في احدى رسائله لي (ان عالمنا الفكري والثقافي المحدود يتسع شيئاً فشيئاً عبر هذه المجموعة الصغيرة التي تجمعت بشكل عفوي وبدأت تشترك في الاهتمامات الفكرية بشكل جدي، شعر، قصة، مقالات، سينما، موسيقى... اتمنى ان تتسع فهي نواة رائعة لمجموعة من المواهب المختلفة)، ومن هذه الصحبة تعلمت الكثير، كنت انهل من زادها المعرفي وبمرور الوقت امتلكت الجرأة على محاورتها وابداء رأيي بلا تحفظ وكم كنت سعيدا بأن تجد ارائي صدى لها، زرع في نفسي ثقة لا حدود لها عندما كنت باستحياء ادفع له اولى محاولاتي في كتابة النقد السينمائي ولم يكن يكتفي بتشجيعي بل كان يأخذ على عاتقه نشرها في الصحف)
كما جاء في العدد (اخر ما كتبه رشدي العامل) والذي كان قصيدة بعنوان (السـبي) في نيسان/ ابريل عام 1988 هذا مقطع منها:
(رف على بستاننا طائر
افرد جناحيه،
وغنى وطار
فأرتجفت ساقية، وانثنى
غصن وغطى مقلتيه النهار
وساءل الزورق مجذافه
ماذا يقول الطير خلف المدار
قال له النهر:
يقول الحذار
ان جهاما عابرا في المدى
عيونه جمر، وكفاه نار
سيدفن الاطفال في مهدهم
ويحرق الارض قبيل البذار
فناح طفل،
وشكت ربوة
وأن ورد، وبكى الجلنار
ولملمت العابها طفلة
مذعورة،
لاذت بظل الجدار).