لندن: كانت الأمسية الثقافية الرائعة ليهود العراق يوم الثلاثاء 12 نوفمبر فى مركز نعيم دنكور بلندن فى كلمات جميلة عدة ثم فلم لاعبى كرة الطائرة لليهود العراقيين وقصصهم وذكرياتهم وتاريخهم من العراق ومحنة التهجير ورحلاتهم بين الدول المختلفة فى البحث عن الوطن والهوية الجديدة حتى الإقامة بلندن الرائعة ثم الحوارات والأسئلة والمداخلات المختلفة من الحضور الكثيف والنوعى الذى ملأ القاعة.
بدأت الأمسية بكلام الأستاذ ديفيد دنكور وهو يشرح جزء من التاريخ المعقّد وهذا المركز الكبير (مركز نعيم دنكور) ومشاريع والده الدكتور نعيم الكثيرة والمتنوعة أكاديميا وثقافيا ودينيا وإجتماعيا فى بريطانيا وهو يتعهد منذ زمن (البلد المستضيف والذى رحّب بنا وآوانا وأعطانا الجنسية والأمان وغيرها من الحقوق المدنية والحريات ينبغى ردّ الجميل لهذا البلد ...) إلى قصة الفلم وبداياته عندما طلب من السيدة فيونا مورفى أن تعمل هذا الفلم عن (لاعبى كرة الطائرة من بغداد) وكيف بدأ المشوار الطويل وقال أنّها قصة من قصص كثيرة قد يحملها الحضور، وإنّ تدوينها للتاريخ ذاكرة وللأجيال معرفة وللشباب خصوصا الجيل الجديد الذى ولد فى بريطانيا وعنده مجموعة كبيرة من التساؤلات لاسيما الهوية والوطن والأولوية بينها فى تعريف نفسه وتقديم هويته والتفاعل مع تاريخه وهويته وواقعه ومستقبله. كما قدمَ أيضا الحاخامَين اللاحقَين، فتحدث الحاخام الكبير السابق للجالية اليهودية الشرقية (د.إبراهيم ليفى) عن تاريخ يهود العراق ومعابدهم وحاخاماتهم واعتبارها مركزا دينيا للعالَم ... كما تحدث الحاخام الكبير الجديد (جوزيف دويك) بحديث ممتع شيق وجميل عن التاريخ والحاضر ودور اليهود العراقيين فيهما.
والجدير ذكره أن (جوزيف دويك) هو شاب فى السابعة والثلاثين من عمره، مولود فى لوس أنجلس بأمريكا، مقيم حاليا فى لندن، وأصله من حلب من سوريا فقد جمع كل هذا التنوع الجميل وحاز الأكثرية من الثلثين المطلوبة فى اقتراع لأربع كنائس للشرقيين (الإسبانية والبرتغالية) اليهودية المعروفة فى بريطانيا وذلك بعد استقالة الزعيم الروحى السابق إبراهيم ليفى وانسحاب الحاخام ديفيد بصوص فى الإقتراع الذى قاده السيد ألن مندوزة مسؤول مؤسسة هنرى جاكسن الفاعلة المعروفة.
تحدثت فيونا مورفى المعدّة للفلم عن تجربتها فى الفلم والمراحل التى مرت بها وطورت الفلم حتى وصل إلى النتيجة التى ترونها مهيئة للعرض كاملة من مختلف جوانبه وتمنّت أن تكون فى بغداد لتشهد معالم الحدث ومواقع الذكريات ومحاكمة القصص للأماكن والأحداث وتعاقباتها.
كان الفلم قد استغرق ما يقارب الساعة والنصف وفيه حكايات تاريخ العراق وقصة يهود العراق فى كل تلك الحقب من خلال أشخاص فريق كرة الطائرة ومتعلقيهم الذين كانوا فى بغداد ومراحلها التاريخية المختلفة وآثارها لاسيما على يهود العراق من خلال مقابلة السيدة فيونا لهم فى لندن وأسئلتها المختلفة عن الماضى والحاضر، عن الأيام الجميلة وكذلك أيام المحنة والفرهود والسجون والهجرة.
يتحدث الفلم أولا عن بغداد أيام الخير والإزدهار والعطاء فقد ظهرت الصورة الزاهية الرائعة لملكة جمال بغداد السيدة رينية دنكوررمز الجمال والسلام والمحبة والتعايش وكيف كانت بغداد زاهية عظيمة تعيش فيها الطوائف والأديان والمذاهب متحابة متراحمة متعاونة متآزرة دون عنصرية أو طائفية أو أحقاد حيث ازدهر العراق بجهود أبنائه المخلصين وحينها كان لليهود دور الريادة والقيادة في ازدهاره ونموه وكبريائه وزهوه من مختلف جوانب الحياة العلمية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية وغيرها.
تسمع فى الفلم تلك الأغانى العراقية القديمة الأصيلة وألحان الكويتيين وترى بيت دنكور الواسع الملئ بالحيوية والنشاط والعطاء مع فعاليات لعب الطاولة والورق وكرة الطائرة.
كما ظهر فى الفلم صور الحاخام الكبير عزرا دنكور (1848-1930) وهو جد الدكتور نعيم دنكور، إنّه بحق شخصية ثقافية إجتماعية دينية مهمة مرموقة ومعروفة وقد ألّف كتبا وتعليقات على التوراة وغيرها وكان رئيس للطائفة فى بورما عام 1893 وصار رئيس الطائفة الموسوية ببغداد (1923-1927) وقد أسس أول مطبعة للطباعة باللغتين العربية والعبرية 1904 لطباعة الكتب الدينية والدنيوية.
يعرض لك الفلم أيضا مقاطع مأساوية جدا مثل قتل الملك والعائلة ونزول الجيش للساحات وكيفية تفاعل الناس معها.
إن هذه المشاهد الشنيعة جعلت ملكة جمال بغداد تغادر البلاد من الخمسينات مما يجعلها من الهجرات الأولى من العراق فى 1950 إلى لبنان مدة ثم إلى لندن لبدأ العمل فى العقارات والعمارات.
جاء عبد الكريم قاسم واستقبله الشعب كزعيم أوحد وبدأ الناس يتحدثون عن صورته فى الشمس .. وقد تعامل مع اليهود بالحق والإنصاف وأخرج المسجونين ظلما وعدوانا وردّ الحقوق وإعطاء جواز لمن يريد وكان له أصدقاء زملاء من اليهود لكن الزعيم له أعداء كثر مثل عبد الناصر والغرب والبعثيين مما أدى إلى قتله وجماعته بطريقة مروعة فظيعة.
كانت أيام البعث صعبة قاسية حتى كان اليهودى يغير اسمه مثل مايا إلى ماهر كما تحدث أحدهم فى الفلم وحصل الظلم من القتل والسجون والإعدامات العامة فى ساحة التحرير والتهم الجاهزة بالعمالة لإسرائيل والصهيونية وسط هتافات تصفيقية وفرح عارم يقوده إعلام السلطة بكل قوة وحزم. تحدث البعض عن صعوبة الحصول على جواز سفر لذلك لجأ بعضهم إلى الهروب بزى معين عن طريق كردستان وهم فى السيارات لتحمل السيارة الواحدة ثمان أشخاص طوال الليل المظلم خائفين مرعوبين.
وكانت من أكبر المشاكل هى الحفاظ على الأولاد لدرجة أن بعضهم فكّر أن يستأمن جاره المسيحى عليهم خوفا من أخذهم من أبويهم مما حدى بالسيدة إيلين أن تبعث ولديها إلى لندن خوفا عليهما رغم قسوة الفراق عن الأبناء.
بعضهم وصل إيران فى السبعينات من الحدود أيام الشاه محمد رضا بهلوى فوجدها جميلة فى نواديها ونشاطها وحويتها وانفتاحها كبغداد القديمة أيام الخير، لكن الفرحة لم تدم طويلا فقد جاءت الثورة أواخر السبعينات وفقد الأمن والأمان والخير والإطمئنان مما جعل الهجرة ضرورية مرة أخرى لى لندن.
لقد تحدث البعض عن الجار المسلم المحبّ والمساعد والذى لم يتوان عن تقديم الخدمة حتى قدّم أحدهم مفتاح بيته لإيلين حتى تتصل بالهاتف لمن تشاء عند الحاجة لكنها أجابت لايوجد أحد حتى تتصل به.
من أصعب الأسئلة التى وجهتها الإعلامية المتميزة فيونا لهم هو السؤال عن الهوية والإنتماء والوطن وتعريف كل شخص نفسه فقال بعضهم أن الأولى هوية عراقية ثم يهودية بينما الآخر يهودية ثم عراقية ثم إيرانية ثم بريطانية وبعضهم عرّف نفسه بالعربية وبعضهم لم يقبل ذلك لكن السيد ديفيد فى آخر الفلم عندما سئل عن ذلك أشار إلى بريطانيا وما قدّمته لنا من التنوع العالمى والمزيج المتلاقح البناء فى موزاييك جميل رائع بديع يستحق منا شكر بريطانيا عليه.
ذكر السيد ديفيد دنكور أن صورة والدته ملكة جمال بغداد التى نشرت قد أخذها أكثر من 2500 موقع ألكترونى إلى موقعه اهتماما وإعجابا وإكبارا.
تحدث الكثير فى الفلم عن عشقه لبغداد وتحدث السيد ديفيد دنكور عن احتفاظه بكتب الدراسة وظهر يقرأ من كتاب التاريخ الموضوع فى المناهج المدرسية قديما وأن بغداد لازالت فى دمائه وعروقه وحنينه كما تحدث السيد فريدى خلاصجى عن تلك الأيام وذكرياتها بينما تحدثت والدته إيلين عن شوق وحنين مستمر لحد الآن إلى بغداد.
وهو يذكرنى بقول البروفسور العزيز سامى موريه عندما جاء إلى لندن وأقام الندوات حول كتابه الرائع (بغداد حبيبتى) فأحببناه وأحببنا كتابه وقصصه وذكرياته من عاشق ولهان صادق مخلصhellip; وقد سألته الزميلة الشاعرة المتميزة أمل الجبورى لو كان السباق فى الكرة بين الفريقين العراقى والإسرائيلى فمن تشجعه؟ أجاب بالبداهة والصراحة طبعا الفريق العراقى ... إنه شوق وعشق وحنين ومحنة يندر للخيال البشرى أن يتصورها ولا للرسام رسم صورتها ولا للشاعر أن يكتب قصيدتها أو النحات أن ينحت حروفها hellip; شوق فريد وإحساس عتيد ومحنة قاسية ودهر عجيب غريب .. إنه شوق إلى تلك الأيام الخالدة فى الذاكرة وإلى خسارة العراق من هذه الشخصيات العظيمة الخالدة. والعجيب الغريب عدم قبول عبد الرحمن رئيس المركز الثقافى العراقى بلندن وهو صهر وزير الثقافة أن يقيم ندوة للأستاذ الكبير سامى موريه فى هذا المركز العراقى الذى تحول إلى حسينية بلندن فى إبعاد النخبة المثقفة والإقصاء ليهود العراق قاصدا متعمّداً والمجئ بأنصاف المثقفين فى مهزلة من مهازل ما يسمى الثقافة المعاصرة زورا وبهتانا وإفكا.
ومن الجانب الآخر قال بعض فريق الكرة فى الفلم أن شدة الألم والمحنة والسجون والمشانق لازالت عالقة صورتها باقية آثارها مطبوعة دقائقها ولا يمكن محوها يسهولة وهى معاناة مريرة موجعة قد لايعرفها إلا من عاشها وقاسى آلامها.
يُعَدّ الفلم بحقّ متميزا فى رحلة فريدة لفريق كرة الطائرة ومتعلقيهم يستهوى المشاهدين ويجذبهم جذبا ويشدّهم شدّاً فى استغراق عاطفى تاريخى رائع جعل البعض يبكى أثناء عرض الفلم hellip; يبكى على التاريخ والحاضر hellip; يبكى على المحنة الطويلة وأنت تسأل مرارا وتكرارا لماذا كل ذلك ... وتجد نفسك من حيث لاتشعر تشاركهم البكاء من صميم القلبhellip; تبكى معهم لمحنة يهود العراق hellip; تبكى معهم من أجل العراق أيام الخير hellip; تبكى معهم لما تراه فى بغداد يوميا من كل انفجار وقتل وتهجير ... رغم عشقنا لبغداد فى عقولنا ووجداننا ودمائنا ومشاعرنا.
تحدث البعض فى مداخلاته عما يعانيه العراق اليوم حتى من تهجير وقتل وظلم وقسر كما يحصل للمسيحيين والمندائيين وغيرهم من الطوائف فهى جرائم بشعة يحاسب عليها القانون الدولى وينبغى أن لايفلت المجرمون من القضاء والعدالة الدولية.
إنه لمن المؤسف حقاً لم يبق من يهود العراق اليوم سوى ستة أشخاص حسب نقل ويكيلكس .. وإن كنت أسمع أن بعضهم اختفى تحت أسماء ومسميات إسلامية فتغير الإسم والمسمى والهوية كما فعل أحد الوزراء العراقيين اليهود سابقا ليستوزر فى الوزارة ويستطيع من خلالها أن يخدم العراق الحبيب.
إن السيد الدكتور نعيم دنكور قد أخذ عهدا على نفسه منذ سبعين عاما حين كان يدرس فى المملكة المتحدة أن يقدّم دعما ماليا كبيرا للقضايا التعليمية عندما ينجح ، كما أنه منذ أربعين سنة قد أخذ عهدا آخر فى أنه سيجد الطريقة المناسبة لشكر البلد الذى يقدم له اللجوء العائلى عند الخلاص من البعث العراقى. من هنا كانت منحة إلياهو الكبيرة وكذلك ويستمنستر أكاديمى وعدد كثير من الخدمات الكبيرة تمثل وفاءا بهذا العهد الكريم
قصة حياته متميزة من عائلة شريفة بارزة فقد كان جده الحاخام عزرا دنكور هو الحاخام الأكبر للطائفة ببغداد. جاء إلى المملكة المتحدة أول مرة عام 1930 لدراسة الهندسة فى جامعة لندن ثم الرجوع إلى الوطن للألتحاق بالجيش ثم بناء مؤسسات ضخمة ناجحة فى العقارات والصناعات. تزوج رينية دنكورعام 1946 حيث باتت ملكة جمال بغداد بعدها بفترة وجيزة. لقد حصل على امتياز شركة كوكا كولا للعراق مع شريكه المسلم فى الخمسينات من القرن الماضى. على الرغم من نجاحه الباهر لكن الأوضاع المضطربة السياسية وملاحقة اليهود فى العراق جعله يهاجر الوطن. فى العام 1964 عندما ترك العراق وسكن المملكة المتحدة، فإن حزب البعث قد أصدر مرسوما على يهود العراق إما العودة أو فقدان جميع ممتلكاتهم. إختار اللجوء تاركا وراءه كل ممتلكاته وتجارته الناجحة وأصدقاءه. مرة أخرى يبدأ بالقليل من المال حيث ينجح نجاحا باهرا فى بناء العقارات وتطوير الأعمال التجارية وقد التحق به أبناؤه الأربعة. كان ذلك جزءا من القصة لأن الجزء الثانى المهم هو خدماته الإجتماعية والخيرية الكبيرة فى المملكة المتحدة حيث أسس مركزا إجتماعيا فى غرب كنسنغتون للمهاجرين الجدد وتقديم الخدمات المختلفة. وفى عام 1971 فقد أسس مجلة (سكرايب) ليهود بابل وذلك لتوحيد الشتات اليهودى العراقى. كان رئيس تحريرها والمساهم الكبير فيها لأكثر من ثلاثين عاما متواصلاً فى تدوين التاريخ وتجارب المهجر حتى تجمع قرائها من مختلف أصقاع العالم. لقد أنشأ (مؤسسة المنفيون) كمؤسسة خيرية فى مساعدة الجانب التعليمى ومشاريع أخرى فى بريطانيا وأنحاء العالم منها مساعدة المدارس من الهدم ومشروع الأرز فى القدس وعشرة آلاف من الأكياس أسبوعيا للمدن الفقيرة، و غيرها.
لقد قدم الدكتور دنكور عام 2005 منحة مليون جنيه إسترلينى لطلاب الجامعات البريطانية. وقد حصل على أعلى وسام فى بريطانيا فى تموز عام 2006 من الملكة فى عيد ميلادها الثمانين عندما منحته وسام الإمبراطورية البريطانية جزاء لأعماله للجالية اليهودية وللتعليم.
إن مركز نعيم دنكور هو صرح علمى كبير ومشروع ثقافى إجتماعى عظيم حيث النسبة العظمى من الطلاب من ذوى اللاجئين الذين لايجيدون الإنكليزية، فتكون الإنكليزية لنسبة 90 بالمائة منهم، هى اللغة الثانية، فيساعدهم المركز ليتخطوا الحواجز اللغوية من المرحلة السابعة إلى المستوى (أى). وواضح نجاح المشروع فى تفوق وتحول العدد الكبير فى مستوى الطلاب اذى بات مؤهلاً للصفوف العالية ... ويمثل المشروع كغيره من المشاريع العظيمة مصدر فخر واعتزاز وشموخ.
إنّ القرآن الكريم يعتبر اليهود من أهل الكتاب، ونبيّهم موسى ونزل عليه التوراة وجاءت عشرات الآيات فى حقهم مثل قوله تعالى (ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على العالمين) سورة المجادلة- الآية 16 وقد ورد فى القرآن ثلاث مرات لتفضيل بنى إسرائيل على الناس جميعا.
وأنا أكتب كتابى الجديد (يهود العراق تاريخ وأمجاد عشق ومحنة) أرى الكثير مما يجب إضاءته للتاريخ والقراء ليعرفوا فضل يهود العراق على العراق وتاريخه وبنائه وازدهاره خصوصا فى التاريخ المعاصر على سبيل المثال لا الحصر.
أن أول بيت طابوق بنى فى بغداد هو بيت شماس والذى هدّم لبناء فندق بابل فيمحى الذاكرة التاريخية بينما الشعوب تحافظ على معالمها التاريخية
كما كان السير ساسون حسقيل أول وزير مالية عظيم متميز خدم العراق وله المواقف المشهودة أمام بريطانيا العظمى وهو يفاوضها فى العهد الملكى الحديث لدفع عائدات النفط ويشترط الذهب بديلا عن العملة النقدية ليظهر جليا نظرته الثاقبة وحدسه العلمى وقراءته المستقبلية البارعة عندما نزلت العملة الورقة لاحقاً وكان الذهب مرتفعا وغيره من المواقف الوطنية التى ترفعه إلى أفضل وزير مالية للقرن العشرين فى الشرق الأوسط
لذلك رثاه كثيرون مثل الشاعر معروف الرصافى قائلا
ألا لاتقل قد مات ساسون فقل تغور من أفق المكارم كوكب
فقدنا به شيخ البرلمان به ليله الداجى إذا قام يخطب
إنّ أول قاض وأعلى سلطة قانون نزيهة فى تاريخ العراق الحديث يمثلها داود سمرة بفكره وكتبه وأدائه وذكائه وسيرته المتميزة.
كما أن أول ناد إجتماعى إلى لورا خضورى وأول قصر يستضيف أول ملك للعراق هو قصر شعشوع البغدادى كذلك أول قصر يستضيف الملك فى محنة فيضان دجلة لصاحبه مناحيم دانييل المعروف بخدماته الاجتماعية ونزاهته وكذلك ولده عزرا مناحيم دانيال عضو مجلس الأعيان خلفا لوالده عشرين عاما وتبرع بالكثيرمن المال للمعاهد الخيرية والمستشفيات والمدارس كما فعل بأموال أخيه حسقيل المتوفى بباريس فقد أوقفها لمنشآت الطائفة اليهودية ومدارسها ببغداد. لقد خرج فى تشييع المرحوم عزرا رئيس الديوان الملكى والوزراء والمختلف الوجهاء وفئات المجتمع كذلك وقف الأعيان خمس دقائق تكريما لذكراه ومواقفه الوطنية
أما الجانب الثقافى فحدّث ولا حرج فقد كانت مدرسة الأليناس هى المرسة الحضارية الأولى إلى لورا خضورى وقد افتتحت أولى المدارس للبنات فى العراق كله للتعليم وأول مدرسة ثانوية فى الكرخ كانت للست سمحة كما أن أول ملجأ لأيتام المسلمين قد بناه مناحيم دانيل من ماله الخاص وقد حولوه اليوم إلى منتدى المسرح بشارع الرشيد لإخفاء معالم يهود العراق وخدماتهم الكبيرة.
وأول طبيب أعصاب فى العراق هو هو جاكى عبود المتخرج من بغداد ولندن والذى تولى تأسيس وإدارة أول مستشفى للأمراض العقلية وهو يعالجهم بكفاءة وإخلاص وعناية دقيقة فريدة، وأما داود كبّاى فقد كان يعالج مرضاه الفقراء بالعمارة ثم بغداد مجانا وقد يزودهم كذلك بالدواء حتى وقف الناس طوابير وكانت النساء تمسح الحناء على عيادته كما تفعل للأماكن المقدسة احتراما واعتقادا بقدرته العجيبة فى شفاء المرضى الذين قد يزورونه منتصف الليل ولم يسأم عن معالجتهم بكل شغف وحب.
وإنّ أول طيار عراقى مدنى هو سليم ساسون صالح دانيال الذى درس الطيران فى بريطانيا وقد اشترى طائرة صغيرة وجاء بها إلى بغداد عن طريق إيطاليا وبيروت فى بداية عام 1930 وعيّن ضابطا فى مديرية الطيران المدنى.
وأما البنوك والصرافة فهم روادها وقادتها كبنك زلخا وكريديت بنك وبنك عبودى، والبنك الشرقى الذى كان يعقوب صالح حسقيل يطبع اسمه على الأخير بعد أن كان له فروع فى مختلف دول الشرق الأوسط والهند وغيرها، لذلك بات أكثر من نصف أعضاء إدارة غرفة تجارة بغداد الثمانية عشرة من اليهود بما فيهم نائب الرئيس والسكرتير ... وأصبح العراق غير متأثر بالشح والضيق أبان الحربين العالميتين بفضلهم فى تموين البلاد وسدّ احتياجاتها من البضائع الإستهلاكية والضرورية.
وفى عام 1932 م كان إبراهيم الكبير أول من وضع النقود العراقية. كما كانت رينية دنكور هى أول ملكة جمال بغداد عام 1947 وزوجها البروفسور نعيم الذى حظى بأعلى الأوسمة فى بريطانيا من الملكة كما ذكر أعلاه
هؤلاء ينبغى تكريمهم والإحتفاء بهم وتمجيدهم فهم يعيشون فى قلوب الشرفاء و عقول المخلصين كما أن التاريخ يسطر إنجازاتهم بحروف من ذهب خالدة على مر الزمان.
يتصور البعض أنه لايمكن لتلك الأيام أن تعود والأجيال الجديدة لاتعرف عنهم ولا عن تاريخهم وأمجادهم كما كتب لى العشرات ممن عاشوا المحنة وآلامها ... لكن إيلين متفائلة قائلة فى الفلم (لابد أن تعود بغداد إلى ما كنت عليه يوما وسنعود). إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا عندما يطلع الفجر ويزول الظلام ولو بعد حين فهى سنة من سنن التاريخ والكون فكم كبوة سقطت فيها بغداد على مر التاريخ لكنها قامت وانتعشت حتى صارت مركز العالم وقبلة الفكر والثقافة والأدب والترجمة والفلسفة والحضارة.
إنه الأمل الذى به نعيش ونحيى، الأمل الذى ينبغى أن نسعى إليه جميعا لكى نجعله واقعا حيا معاصرا حتى يرجع الحق إلى نصابه ويعود العراق إلى أهله الحقيقيين منذ ثلاثة آلاف عام ويعشقونه عشق الذين بنوه سابقا ويمكنهم أن يعيدوا بناءه وتحريره وازدهاره.
التعليقات