برشلونة: اختياري الكتابة عن هذا الفيلم الرائع سببه رحلتي الاخيرة الى quot;كاليفورنياquot;، واهتمامي بمتابعة اثر كاتبي المفضل منذ الطفولة quot;جون شتاينبيكquot; 1902-1968 و كون معظم رواياته تبنتها صناعة السينما مثل quot;عن الفئران و الرجالquot; و quot;تورتيلا فلاتquot; و quot;فيفا زاباتاquot; الخ، أختار هنا quot;شرق عدن quot;أو quot;شرقي عدنquot; الذي صنعه المخرج العظيم quot;أيليا كازانquot; 1909-2003 الاسطنبولي المولد. والذي يكاد لمس العبقرية في كل أفلامه رغم الاتهام الذي تعرض له في تعاونه مع لجنة quot;مكافحة الشيوعيةquot; بقيادة السيناتور السكير quot;ماكارثيquot;، -الاتهام صحيح- أعترف به فيما بعد.
قبل أكثر من عقد من الزمن قام المخرج quot;جون فوردquot; تبني سينمائيا رواية quot;شتاينبيكquot; الخالدة quot;عناقيد الغضبquot; التي سببت العديد من المتاعب للكاتب التي اضطرته الهجرة الى نيويورك . في بداية الخمسينات يتعاون الاثنين في صنع فيلم quot;فيفا زاباتاquot; 1952 و بعد ذالك في 3 سنوات يلتقيان لبناء الفيلم الفريد عن الرواية الجميلة فيها يترك quot;شتانبيكquot; أسلوبه الساخر و اللاذع الذي تميزت به رواياته الاولى.
quot;شرق عدنquot;، تعتبر واحدة من روايات الكاتب التي، فيها يطلق العنان لخيال quot;أنجيليquot; فقط في ملاحظة أسماء أبطالها. مثل quot;ادمquot; الذي يلعب دوره الممثل الكندي الاصل quot;رايموند ماسيquot;1896-1983 . وهو والد أبنين
quot;كالquot;في أشارة الى قابيل في الاسطورة، و هذا الدور يلعبه quot;جيمس دينquot; 1931-1955، و quot;هارونquot; دور يقوم به الممثل التليفزيوني quot;ريشارد دافالوسquot; 1930، و هذا لم يشتهر سينمائيا لانه كرس نشاطه في العمل التليفزيون.
quot;كال quot;، الابن الاصغر كان بالغ التعقيد، و صعب المراس، في داخله شجن و شوق لوالدته التي تخيلها تطير مع ملائكة السماء حسب رواية الوالد الشديد التدين. الى ان يكتشف بعد سنوات ان والدته تعيش و تدير quot;ماخوراquot; أنيقا في في مدينة quot;مونتيريquot; على الساحل، و القريبة من من قرية quot;ساليناسquot; الشهيرة بزراعة الخس، كان هذا الشاب يود توازن حب و عطف والده كما كان هذا يبدو في تعامله مع الاخ الاكبر quot;هارونquot;، لان هذا كان ابنا مطيعا للاب المتدين، كان مثالا لحسن السلوك في اعتبار قيم والده.
quot;جيمس دينquot;، الوجه السينمائي المميز في الخمسينات يعكس حياة جيل من الشباب المتمرد على معاني الحرية التقليدية، في خروجه عن المألوف و السائد في العلاقات الاجتماعية، هنا يقوم بدور البطولة في واحدا من 3 افلام قام بها قبل وفاته شابا ، في معظمها يحاكي صراع الاجيال. و الدراماتية الاجتماعية في محيط الغرب الاميركي قبل و اثناء الحرب العالمية الاولى، هذا بجانب البحث عن الاصول و جذور العائلة، و تأثير quot;وراثية الجيناتquot; في السلوك، ثم تقييم هذا بدرجات الخير و الشر.
يتمكن quot;كازانquot; في صنع فيلما رائعا بحق خصوصا في التصوير الذي أشرف عليه quot;تيد ماكووردquot; 1900-1976 الذي يستخدم ببراعة تقنية quot;سينما سكوبquot; الحديثة الاكتشاف في التصوير السينمائي حينذاك. و سيناريو الكاتب القدير quot;بول اوزبورنquot; 1901-1988 الذي يعالج رواية شتالينبك بحساسية كادت ان تفوق هذا الاخير الذي كان كان حريصا على روايته. و كان يشرف شخصيا على كتابة السيناريو، و حتى التصوير، يقول فيما بعد quot;أيليا كازانquot; في هذا الشأن quot;كان اشراف و حضور شتاينبيك مهما جدا في صياغة الفيلم النهائيةquot;.
في عام 1955 شركة quot;وارنرquot; تقرر انتاج الفيلم و تترك للمخرج حرية اختيار ممثليه، و هذا اختار quot;جيمس دينquot; بعد مشاهدة الفلمين الوحيدين حيث يلعب هذا دور البطولة في فيلمquot; متمرد دون سببquot; للمخرج quot;نيكولاس رايquot; ثم فيلم quot;عملاقquot; الذي فيه يشارك البطولة مع quot;اليزابيث تايلورquot; و quot;روك هدسونquot; و رغم اعتراض شتاينبيك كان quot;كازانquot; قرر هذا الاختيار. لان الممثل الشاب كان تلميذا نموذجيا في quot;ستوديو الممثلquot; الذي كان قد اسسه المخرج بمشاركة السيدة quot;ستيلا ادلرquot;، و هنا لا بد من الاشارة الى دور هذه المدرسة في تخريج اكبر و اشهر نجوم هوليوود مثل quot;مارلون براندوquot; و quot;ماريلين مونروquot; و quot;مونتغمري كلفتquot; و اخرين. في quot;شرق عدنquot; يؤدي الممثل quot;دينquot; دورا يكاد ملامسة ادواره في الفلمين السابقين، و ربما يتفوق عليها، فهو هنا مادة الفيلم الرئيسية، كما هو في الرواية و يتمكن من أداء دور رائع في كل تاريخ السينما رغم صغر سنه، و كان quot;كازانquot; يهذب الاداء كما شأنه مع كل الممثلين في لقطات تأثيرية و عاطفية و quot;تعبيريةquot; اعتادها المخرج في كل أفلامه، و لكنه هنا بصدد دراما اجتماعية، ربما دينية. يشرح فيها أستحالة الحياة لعائلة فككتها التقاليد و التزمت الديني، فألاب quot;ادمquot; المبالغ في التدين و المحافظة على تقاليد وحدة العائلة quot;الكاثوليكيةquot; و أبديتها في تفسير انجيلي متطرف في الكثير من الاحيان، و هو اب الاخوة الاعداء، و لايخفي حبه و عطفه لquot;هارونquot;، و لا يخفي ايضا نوعا من الجفاء اتجاه الابن الثاني quot;كالquot;، و هذا كان يذكره زوجته التي انصرفت الى عالم الدعارة بعد طفوح كيلها من شدة التزمت و المحافظة الدينية، و الابن الاصغر يبذل كل الجهود في كسب عطف ابيه، و يفشل في كل محاولاته، ليعيش صراعا نفسيا مع ذاته الحائرة التي تحاول تقييم quot;طهارةquot; الاب و تقاليده القديمة، و مقارنة طبعه المتمرد الباحث عن الحرية الذي ربما ورثه من والدته.
في غنائية فلمية ليست خالية من المخاطر الفكرية، و الايديولوجية في البحث عن الحرية، حرية القرار و الاختيار يعالج المخرج بذكاء الانفصام الجيلي بين الاباء و الابناء دون التخلي عن الطرح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي اثناء الحروب، و الرواية تبدأ بقليل من اندلاع الحرب الاولى و تنتهي مع نهاية هذه.
مختصر الفيلم و الرواية فصيرا رغم غنائهما الكثير من التفاصيل المثيرة. الشاب quot;كالquot; يلتقي سيدة في المدينة المجاورة على الساحل، سيدة انيقة تثير في روحه نوعا من الفضول ليتبعها الى بيتها الذي كان عشا للدعارة ليكتشف فيما بعد انها والدته، ان قصة وفاتها التي صاغها الاب كانت الكذبة الكبيرة لهذا. يخفي أمر اكتشافه و يعود محاولة كسب عطف والده الذي خسر مبالغا في مشروعه تصدير الخس الى الساحل الشرقي، و لتعويض هذه الخسارة يطلب quot;كالquot;من والدته قرضا في مشروع بيع البقليات للجيش الاميركي في اقتصاد الحرب، و ينجح في مشروعه، و في يوم عيد ميلاد والده يهديه رزمة من الدولارات تفوق خسائر الوالد الذي يستشيط غضبا بعد معرفة مصدر هذه الارباح، و يرفض الهدية بسبب عدم شرعيتها لأنها تخالف التعاليم الدينية. وهنا يعاني الشاب انهيارا عصبيا يثير انفعال خطيبة شقيقه quot;أبراquot; و تميل له عاطفيا، هذا الدور تقوم به الممثلة quot;جولي هاريسquot; 1925-2013 في أداء رائع، و في ثورة غضبه يدعو quot;هارونquot; لزيارة ماخورا في quot;مونتيريquot; ويدفعه الى غرفة صاحبة هذا التي هي والدته و هو لا يدري ليصاب هو الاخر بانهيار عصبي اسوأ، و من هناك يأخذ القطار للتطوع في الحرب العالمية و يموت فيها. بعد هذه الاحداث المؤلمة و صعوبة هظمها يصاب الاب بالشلل، و هو في فراش الموت يكتشف حقيقة حب أبنه التي تجاهلها كل عمره، هنا النهاية السعيدة و المأساوية للفيلم، الاب، باشارات من عينيه يبارك أبنه، و يبارك حبه للشابة quot;أبراquot; التي كانت خطيبة ابنه المضل.
يبقى الحديث عن الممثلين الرئيسين في هذه التحفة من تاريخ السينما. يقوم quot;رايموند ماسيquot; 1896- 1984 الكندي الاصل. و كممثل ثانوي في كل الافلام اراه هنا يؤدي بامتياز باعتبار دوره المعقد كما ابا شديد التدين و التطرف، و في نفس الوقت يبدي او يتظاهر بالتسامح، و لكن الدور الصغير الذي تلعبه الممثلة المسرحية quot;جو فان فليتquot; 1914-1996، الام التي غادرت العائلة لتعيش حياة الفسق في احتجاج على النفاق الديني، فيها ارى أجمل الادوار الذي تستحق عليه جائزة quot;أوسكارquot; فيما بعد. فهي في ادائها المسرحي الكامل، تكمل حلقة الفيلم الخالد الذي انتجته شركة quot;وارنرquot; في عام 1955 .
و كما اقول دائما لمحبي quot;كلاسيك السينماquot;، فيلم يستحق المشاهدة أكثر من مرة.