بغداد: ما زال ابو نؤاس هناك.. حاملا كأسه، ولا اقول قدحه، لان ابو نؤاس ليس من طبعه ان يحمل قدحا فارغا، بل يحمل كأسا مترعة ويشير بها الى نفسه اولا ثم الى العابرين منه، ما زال هناك.. يجلس على دكة عالية في حدائق الشارع الذي يحمل اسمه (شارع ابو نؤاس) وسط بغداد، على ضفاف نهر دجلة الخالد، وجهه الى شارعه الجميل وليس الى النهر الذي انحسر فيه الماء وأصبح لا يسر صديقا، الذي فيما بعده.. تقوم القصور الرئاسية والمنطقة الخضراء، انه لا يأبه لمن هناك..، بقدر ما يأبه لمن يمر من امامه او على رصيف شارعه،كأنه يردد ان لا شغل له مع اهل السياسة، لا يريدهم مثلما هم لا يريدونه، شتان ما بينهما، في الازمنة التي خلت وفي الازمنة التي تلت،لا يريد ان يصغي لما يقولون مثلما هم يدعون انهم لا يصغون الى ما يقول، كأنه يقول انه صادق فيما هم كاذبون.
الكثيرون.. يتساءلون: كيف حال ابو نؤاس الان؟ على الاقل في السنوات العشر الاخيرة من عمر بغداد، في شارعه الذي عتمت فضاءاته وتغيرت ألوان مساءاته وداست ارضيته المجنزرات وأحتلت بنايات منه الرايات الاميركية، في حدائقه التي ذبل الاخضرار فيها ويبست الاشجار وغاب عنها المتنزهون والعاشقون، في موقعه الذي طالما توقع المثقفون ان يقتلع من مكانه وسط القلق والارباك وتجاذبات الممنوعات والمحرمات والرجس، يتساءل البعيدون عن بغداد: هل ما زال ابو نؤاس يقرأ الشعر بين جموع محبيه وعاشقيه، ام ان الخوف اسكته، هل يمكنه ان يقرأ مثل هذا الشعر:
لا يصرِفنّكَ عن قصفٍ وإصباءِ مجموعُ رأيٍ ولا تشتيتُ أهواءِ
واشربْ سُلافاً كعين الديكِ صافيةً من كفِّ ساقيةٍ كالريمٍ حوراءِ
وصفّقوها بماءِ النيلِ إذْ بَرَزتْ في قِدرِ قَسٍكجوفِ الجُبِّ روحاءِ
كأنها ولسانُ الماءِ يقرعها نارٌ تأججُ في آجامِ قصباءِ
لها من المزجِ في كاساتها حَدَقٌ ترنو إلى شَربها من بعد إغضاءِ
فاشربْ هُديتَ وغنِّ القومَ مبتدئاً على مساعدةِ العيدانِ والناءِ
لو كان زُهدكِ في الدنيا كزهدكِ في وصلي، مشيتِ بلا شكٍّ على الماءِ
ابو نؤاس.. هناك، ما زالت بيده كأسه التي تمر منها السنون والمنون وتتراقص للبحث في قعرها العيون، ساكت.. ساكن، لكنه باذخ في جلسته وشعوره بالتميز وسط ظروف تعج بالامنيات ان تنكسر الكأس ويندلق ما فيها، لكنه هنا.. لا زال يستقبل الاتين اليه بترحاب عجيب فيسمح لهم ان يلتقطوا معه الصور التذكارية وهم في غمرة من الفرح، ومن ثم يقرأ عليهم شعره فينصتون اليه فيترقرق في نفوسهم الحنين، اذ.. لا يمكن ان يمر احد من هناك دون ان يقف متأملا كل شيء فيه ويقرأ ما يقرأ من كلام مدون هناك، وربما ينصت ويسمع الشعر يتدفق من المكان، ومن ثم يلتقط صورا تذكارية معه، لان الفرح.. ببقاء ابو نؤاس على قيد الحياة، وهذا المكان الذي يعد واحته الفضلى، شيء يدعو الى الامل، وربما يعد امرا غير قابل للتصديق، اذ إن (برونزه) لم يسرق، ووجوده لم يغيّب، وكأسه ما زالت تتلألأ الراح فيها !!، وقد جرت محاولات لتغيير اسم المكان الذي يحمل اسمه لكن الذاكرة الجمعية للناس أبت ذلك، وظل بيت شعره محتفظا بالكلمات المنقوشة على قاعدة هذا التمثال عصية على القراءة الا لمن عشق ابو نؤاس طبعا:
(ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ ولا تسقني سِرّاً إذا أمكنَ الجهرُ)
(ولد ابن هاني عام 763 ميلادية وتوفي عام 814 للميلاد (145 ndash; 199 هجرية)، ونشأ في مدينة البصرة وغادرها ليستقر في بغداد)، ويمكنني ان اقتبس كلاما قاله لي المعماري الدكتور قحطان المدفعي عن ابو نؤاس، جاء فيه: شعر ابو نؤاس سلس، وحين اقرأه اشعر وكأنني ألعب (الايروكس)، وهذا هو سر اهتمامي به، فهو يتكلم بالصدق ولا يخجل ان يقول عن شيء: (هذا احبه.. هل لديكم مانع؟)، ابو نؤاس هو الشخص الذي يردد كلماته ملايين الناس في مكة المكرمة، ولا اعتقد ان ابو نؤاس متناقض حينما يكتب (لبيك اللهم لبيك) ويكتب عن الخمريات، وأريد او ان اوضح لك: اولا: الخمر منتوج عراقي، في ذلك الزمن كان الخمر ينتج للتصدير ويشربه الخلفاء كلهم، والشعراء كله، ويشربونه بطريقة محترمة لا تصل بهم الى حالة السكر، انا برأيي ان (السكر ) عيب،ليس عندنا فقط بل في كل الدنيا، الذي يسكر معناه لا يستطيع السيطرة على نفسه وهذا مخجل، انا بالنسبة لذوقي استمتع به، انه عراقي بغدادي يحكي مثلما نحن نحكي الان، نفس المنطق.
في المكان.. يمر الناس العاديون،من المتنزهين، فيسترعي انتباههم النصب، لا بد ان ينظروه فيما خطاهم تتباطأ ومن ثم لتتوقف.. ولتذهب العيون في معاينة مليئة بالدهشة، ترتفع، تنزل، تدور، تتلوى وتستقر، اعتقد ان لسان حالهم يقول: السلام عليك ابو نؤاس، في قعدتك وهدأتك وهيبتك ونشوتك، يصافحون وجهه بنظراتهم وربما يستذكرون شيئا من حياته او اشعاره،لكنهم سيستغربون ان المكان المحيط به غير محاط بالعناية، وان النصب ليس على ما يرام وقد تساقطت اجزاء من قاعدته، قطعة تلو اخرى، فجعلت منه صورة رثة،فربما هناك من يراهن على ان تتساقط قطع المرمر تباعا لتتعرى القاعدة عسى ان تتهاوى ذات يوم، وكأن ابو نؤاس يشير بيده اليها، كأنه يحاكي العابرين انه ربما غير مرغوب به،لكن المارين به يلتقطون صورا تذكارية معه بمحبة عالية وشغف، كأنهم يركضون الى الوراء مئات السنين ليجدوا انفسهم في عالم ابي نؤاس، وينصتون الى الكثير من شعره، وينتهون الى قوله:
(ايا رب وجه في التراب عتيق / ويا رب حسن في التراب رقيق
ويا رب حزم في التراب ونجدة / ويا رب رأي في التراب وثيق
ارى كل حي هالكا وابن هالك، وذا نسب في الهالكين عريق)
انه لافت للنظر، وكيف لشاعر مثل ابو نؤاس لا يلفت النظر سواء بالـ (قعدة) التي يقعدها او كأسه المتقدمة الى امام او يده اليمنى التي تتحدث كفها المفتوحة المنحدرة خطوطها الى اسفل بتلك الحركة البليغة التي تشير الى ما يمكن ان يتوقعه الانسان العادي البسيط من عدم الاهتمام بالدنيا، المشهد يستمر منذ اكثر من 40 عاما، حيث أزيح الستار عن التمثال عام 1972، نحته الفنان العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك، وعلى مقربة من تمثال ابو نؤاس تقف لوحة برونزية كبيرة تحمل قصيدتين للشاعر، الاولى:
(يا سائل الله فزت بالظفر / و بالنوال الهنيّ لا بالكدر
فارغب إلى الله لا إلى بشر / منتقل في البلي و في الغبر
و ارغب إلى الله لا إلي جسد / منتقل من صبا إلي كبر
إن الذى لا يخيب سائله / جوهره غير جوهر البشر
مالك بالترهات مشتغلا / أفي يديك الأمان من سقر)
فيما الثانية:
(يا ربّ إن عظمـت ذنوبـي كثـرة / فلقـد علمـت بـأنّ عفـوك أعظـم
إن كـان لا يدعـوك إلاّ محـسـن / فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
أدعوك ربّي كما أمرت تضرّعـاً / فـإذا رددت يـدي فمـن ذا يـرحـم
مالـي إلـيـك وسيـلـة إلاّ الـرجـا / وجميـل عفـوك ثـمّ إنّــي مسـلـم)
ربما هما.. استبدلا، طبقا للظروف التي يمر بها البلد، لكن ابو نؤاس لا زال هناك، سواء كانت ساحته بدون اهتمام، او قاعدة تمثاله تعاني عناء تساقط قطع المرمر، لا زال.. يتيح للعابرين منه فرصة التذكر للكثير من الاشياء، فرصة التفكير بما صار وما يصير، وما اراد الاخرون وما تمنى غيرهم، وفرصة لالتقاط الصور التذكارية التي تعني ان ابو نؤاس يختلف عن غيره وإن الصور ستشير الى ان كل المارين منه يعرفونه معرفة حقة، وإنه وان كان وحيدا في حدائقه فالكأس التي في يده لا تراق ولا تتبدى.