quot;ليست هذه بقصيدةٍ، و لكنّ الضّررَ هائلٌ و في حاجةٍ إلى جبرٍquot;. أرنست هربك

من هو أرنست هربكErnst Herbeck ؟ هو شاعر نمساوي ( 1920 ndash; 1991 ). أقام في مستشفى غوجينغ للأمراض العقليّة. و استجابةً لاقتراح طبيبه، كتب أرنست الآلاف من النّصوص على مدى ثلاثين سنة.
كيف كتب أرنست نصوصهُ ؟ يُعطيه الطّبيب الخاص به ورقةً و قلمًا و كلمةً مفتاحًا. ليتداعى بشكل حرٍّ فتنساب الأسطر الشعريّة مشكّلةً كنوزًا لسانيّةً على حدّ عبارة الشاعر النمساوي أرنست ياندل.
لنُسلّمْ أوّلًا بأنّنا لسنا أمام حالة شعريّة quot; عاديّة quot;، بل نحن أمام مجنونٍ يكتُبُ طلاسم غير مفهومة تحت طلب طبيبه، فهل إسناد صفة الشّاعر لهذا المجنون أمرٌ مقبول ٌ في عرف أهل الأدب ؟
تقول الأسطورة العربيّة الخاصّة بالشعر و الشعراء بأنّ لكلّ شاعرٍ تابعة تنجده و زوبعة تؤيّده، و التّابعة في لسان العرب هو الرّئيُّ من الجنِّ، يوحي لمتبوعه بالشعر، أمّا الزوبعة فهو رئيسٌ من رؤساء الجنّ، كما جاء في رسالة quot; التّوابع و الزوابع quot; لابن شهيد الأندلسي. و تجتمع توابع الشّعراء وفق هذه الأسطورة في وادي عبقر، و هو وادِ سحيقٌ يقع في نجد.
الشاعرُ إذنْ وفق الأسطورة العربيّة هو quot; مجنونٌ quot; و quot; عبقريٌّ quot; بالضّرورة، يخرج كلامه عن الاستعمال العادي-اليومي-المعيش-المعقول-المباشر أيْ استعمال العوام، ليندرج في الاستعمال الفنّي-الشعري أي استعمال الخواص.
أرنست هربك شاعرٌ بالمعنى العربيّ مرّتين مُضاعفتين، فهو مجنونٌ أوّلًا -بالمعنى المعاصر للكلمة - في عرف العامّة و في عرف أعوان الحَجر الصحّي، و مجنونٌ ثانيًا لأنّ له رئيًّا من الجنّ، جنٌّ يقطن في وعيه و لاوعيه ليملي عليه الطّلاسم ، جنٌّ يُسمّيه النفسانيون اضطرابًا عقليًا-نفسيًا.
و هو عبقريٌّ أوّلًا -بالمعنى المُعاصر للكلمة - لأنّ مدوّنته اُعتبرت إبداعًا شعريًا متميّزًا و فريدًا، و عبقريٌّ ثانيًا لأنَّ الجنّ رئيّهُ يقطنُ في وادي عبقر الكائن في لاوعيه السّحيق.
الأسطورة لا تُحملُ على الحقيقة، و إنّما هي في كنهها استعاراتٌ و مجازات، لذلكَ فإنّنا تأوّلنَا مكانيّة العبقريّة ( وادي عبقر ) و كائنيّة الجنّ ( الجنّ كائنًا أسطوريًا ) في سياقٍ استعاري : فالذّهنُ عينهُ الوادي، و ما يحوم في هذا الذهن من اضطرابات هي عينها الجنُّ، و ما ينتج عن كلّ هذه التفاعلات الواقعة في عالم quot;أرنست هربكquot; من طلاسم هي عينها الشعر.
تبدو أعراض الفصام جليّةً في نصوص quot; هربكquot;، و من أهمّ أعراض هذا الاضطراب المعروفة انعدام التّرابط بين الأفكار، أي ارتباك في مستوى العلاقات المنطقيّة، و عدم القدرة على التحديد الماهوي للأشياء، و الضّلالات و الأوهام التي تنطُّ و تقفز في تمثّل المريض للعالم.
ما الشعرُ ؟ هل يقومُ على الحقيقة الموضوعيّة ؟ هل ينقل الواقع كما هو ؟ هل تحكمهُ قوانين رياضيّة صارمة ؟ هل يخضع لمعايير المنطق الصوري ؟ هل تنطبق عليه أحكام العقل المحض ؟.
نعودُ إلى سُؤالِنا : هل يحقُّ إسنادُ صفة quot; شاعر quot; لأرنست هربك ؟ هل هذا أمرٌ مقبولٌ في عرف أهل الأدبِ ؟
إنَّquot; أرنست هربكquot; شاعرٌ بالقوّة، لأنّ أعراض الفصام هي ذاتها من مقوّمات القول الشعريِّ، و طالما حُوِّلتْ هذه الأعراض من مجالها الرسمي- المرَضِي، (أي مجال الحجر الصحّي و المراقبة و الكبت و القمع)، إلى فضاء التجريب الإبداعي ( أعني تجربة الكلمة المفتاح و التّداعي الحرّ التي طبّقها طبيب هربك ) فإنّ المدوّنة التي تركها quot;أرنست هربك quot; اُعتبرت شعرًا و اُسند إلى صاحبها صفة الشَّاعر.
ليس مناخ اللّاعقل و الجنون و الاضطرابات النفسيّة بغريبٍ عن عالم الفنّ و الإبداع، بل لنقلْ أنّ الإبداع هو المحضن الحقيقي للجنون، لأنّنا إذا ما نظرنا إلى قائمة المبدعين على مرّ التّاريخ سنجد أنّ جلّهم يعانون من مختلف الاضطرابات، و أنّ لولا اضطراباتهم هذه لما كانوا ما عليه : نيتشة، فان غوغ، آلتوسير، رولان بارط، رامبو، غوته، تشايكوفسكي، دوستيوفسكي، بيتهوفن، شوبنهاور ... و القائمة تطول و لا تكاد تُحصر، ألم ينتحر 150 شاعرًا على امتداد القرن العشرين فقط ؟
لم يشذّ أرنست هربك عن هذه القائمة، بل هو سليلها، و تجربة قُصوى في المناخ ذاته، إنّهُ تجلٍّ ساطعٌ في سرديّة quot;اللّاعقل المحض quot;، و قولٌ شعريٌّ مجنونٌ و عبقريٌّ لا تكلّف فيه و لا صناعة، بل هو السجيّةُ عينُها و قد فاضت على العِقالِ...

بعض النّصوص التي قُمنا بترجمتها :

الشعرُ
الشعرُ صيغةٌ شفويّةٌ لصناعة التّاريخ ببطءٍ
الشعرُ عملٌ أدبيٌّ
علّمنَا الأستاذ في المدرسةَ أنّ الشعر مسألةٌ منتهيةٌ
الشعرُ يكرهُ الواقع الأشدَّ صعوبةً منه
الشعرُ نقلٌ لسلطةٍ إلى القارئ
القارئ يختار القصيدة و ذلك تاريخٌ في أشجارٍ
يعلِّمُكَ الشعرُ كيف تُجلي الحيوان الذي فيكَ لتجده في البراري
الغزلانُ مشهورةٌ بكونها مُؤرّخةٌ

قلبي
قلبي خفق اليوم كعادته
الكتابةُ كانت قوطيةً
السِّياجُ كان عاليًا و أنثى النّمر حمراء اللّون قبل نوبة غضبها
الثّكنات تقعُ بقربي
القلبُ يخفقُ بهدوءٍ
الدّماءُ تسري في العروق

ndash; كاتب من تونس