في الثالث والعشرين من شهر نيسان/إبريل، كلّ سنة، يخرج الشعب الكتالانيّ ليحتفل بعيد الحبّ والكتاب. إنّه يوم وفاة أبي الرواية الأشهر ثربانتيس، ويوم الكتاب العالميّ كما أعلنته اليونسكو قبل مدة، لكنه في الأصل يوم وفاة القديس سان جوردي [23/4/303م] حامي كتالونيا وشفيعها منذ القرن الخامس عشر، ولذلك يُسمّى اليومُ باسمه. منذ الصباح الباكر، تنتشر بسطات الورود والكتب، في الزوايا والأزقة، فضلاً عن نواصي الشوارع العامة والجانبية، في جميع أنحاء برشلونة. إنه تقليد غريب وفريد، لم يجترحه سوى هذا الشعب الجميل في أوروبا. فالكتلان (تعدادهم في إسبانيا لوحدها يزيد عن 8 مليون) لا يحتفلون بعيد quot;الفالنتاينquot; على جري العادة الأوربية، وإنما يحتفلون بعيد الحب مرتبطاً بالكتاب في هذا اليوم.
وهذا الاحتفال يشمل كل المناطق التي تتحدث اللغة الكتالانية في إسبانيا: كتالونيا، جزر البليار، بالنسيا، الجزء الشرقي من إقليم أراغون، ومنطقة إِلكارشي. أن يُقرن الحب بالكتاب، فيتحول هذا اليوم البهيج إلى معرض كتاب هو الأهم عبر السنة، فتلك هي مأثرة الكتلان. لقد تعوّدنا على السمت التقليدي لمعارض الكتب في دول العالم جمعاء: تُعقد في أمكنة - مهما اتسعت - تظل مغلقة. أما هنا فالمعرض يقام في الهواء الطلق، وفي أمكنة مفتوحة عموماً. لذا يأخذ طابع المهرجان الشعبي الحميم، وهذه علامته الفارقة.
في هذا اليوم، منذ القرن التاسع عشر، جرى التقليد الاجتماعي بأن يُهدي الرجلُ وردةً حمراء للمرأة، تعبيراً عن الحب والاحترام. أما في السنوات الأخيرة، فتطوّرت العادة، بحيث صارت المرأة تهدي الرجل، مقابلَ الوردةِ، كتاباً. ولأن الجو كان مشمساً ودافئاً منذ الصباح، على غير الأيام السابقة المتذبذبة، فقد غصّت الشوارع الرئيسية بزحام كثيف، مثل [الرمبلا] و [فيا لايتانا] و [باسيج دي غراسيا] وسواها.
بحر من الرؤوس على مدّ النظر. أمواج من الناس تتدفق من جميع أنحاء المدينة، ومن خارجها، ليحتفلوا بالحب ويقتنوا الكتب.
شيء مذهل حقاً. فبالرغم من أنّه ليس يوم عطلة رسمية، وبالرغم من الضائقة الاقتصادية التي خيّمت بكلكلها على الجميع، فإنّ بهاءَهُ لم يُخدش. بل إنه هذه السنة، أشدّ حيوية وزحاماً وتنوّعاً، من السنة الماضية.
تباع الوردة الحمراء [تشبه وردتنا الجوريّة] في الصباح ب3 أو 4 يورو، وفي المساء ينزل السعر حتى يصل 1 يورو. أما الكتب فتجري عليها تخفيضات متدرّجة، تبلغ أقصاها في ساعات المساء، وبعضُها، كما رأينا بالصدفة - روايات قيّمة ودواوين شعر لأعلام- فيُعطى مجاناً!
ولأن هذا هو يومها الشعبيّ الأهمّ طوال السنة: يستعد له الناشرون والمبدعون ووسائل الإعلام. حفلات توقيع، قراءات شعرية، أنشطة ثقافية وفنية متنوعة بعضُها لا يخطر على بال. وكل هذا، كما قلنا، في الهواء الطلق. مع استثناءات تخصّ فعاليّات أدبية نخبوية، تجري عادةً في أماكن مغلقة.
في باسيج دي غراسيا، شارع برشلونة الطويل والجميل، رأينا شاعرة تلقي شعرها من شرفة كبيرة في بناية عريقة، والروّاد يتجمهرون بالمئات يستمعون إليها، تماماً مثل خُطب البابا، مما أحدثَ جلطة مرورية للمشاة.
لقد حققوا مشاعية الشعر، وحق الجميع في الإنصات إليه.
أما في ساحة كتالونيا التي تتوسط المدينة العامرة، فتُعقد الندوات واللقاءت الإعلامية مع الكتّاب النجوم.
فإذا قطعنا الإشارة الضوئية من ناحية مقهى زيورخ الشهير، ووصلنا الرمبلا، شارع المشاة الأكثر شهرةً في برشلونة، فسنجد مئات الأكشاك والخيَم على الجانبين، وكلّها تغصّ بكتبٍ من مختلف الأنواع والأحجام والاهتمامات، قديمة وحديثة - طُبعَ غيرُ قليلٍ منها خصيصاً للمشاركة في المعرض.
خطوات، ويصادفنا جناح الروائي الأكبر غابرييل غارسيا ماركيس (هكذا يُنطق اسمه في كتالونيا و في بلده كولومبيا، وفي سائر بلدان أمريكا اللاتينية، فلا وجود لحرف الثاء في لسان الكتلان والأمريكو ndash; لاتينيين).
نتوقّف عند الروائي الراحل قبل أيام، ونتأمل كيف يحتفي به أهالي برشلونة، كواحدٍ منهم. فقد عاش الرجل وعائلته بين ظهرانيهم سبع سنوات كاملة، من عام 1967 حتى عام 1974، وهنا كَتَبَ روايته ذائعة الصيت: quot;خريف البطريركquot;، ولطالما عبّر عن عشقه للمدينة الساحلية وامتدحها في مقالاته وتصريحاته.
لقد خصّص له القائمون على المعرض هذا الجناح الضخم، معلقين صوره الكبيرة، وعارضين مختلف كتبه باللغتين الإسبانية والكتالانية وبكميّات مهولة مع تخفيضات مجزية، إضافة إلى دفتر توقيعات الزوّار الذي امتلأ ndash; رغم حجمه الكبير- بآلاف التوقيعات، وكلها تشكره على ما أعطى للبشرية من إبداع فوق العادة. وقد استلفتني توقيع لواحدٍ من العامة يقول: quot;غابو! ماتت صديقتي قبل شهرين، وهأنت تفعلها أيضاً. حياتي بعدكما أكثر وحشةًquot;. وتوقيع آخر: quot;عزاؤنا في ما تركتquot;.
ومن الزحام الخانق في هذا الجناح، تشعر بمدى محبة أهل كتالونيا، والبرشلونيين على نحو خاص، نحو ماركيس.
طبعاً هذه لمحات من المعرض، لا أكثر. ولو أردنا تعداد أنشطته فلن يتسع المقام.
فعلى سبيل المثال، أُحتفل هذا العام بالموسيقى، وتستطيع سماع مختلف أنواعها وموضاتها أينما ولّيت وجهك.
فضلاً عن الحوارات التلفزية والقراءات الشعرية والندوات الثقافية التي تقام في البارات والمقاهي ومراكز الثقافة والساحات. حتى أن كاتب هذه السطور شارك في حفلًي توقيع وفي ثلاث قراءات، في أماكن مختلفة تنوعت بين مركز ثقافي وبار وساحة عامة.
شيء آخر لافت للنظر هذه السنة، أكثر مما كان في السنة الماضية: الحضور الكثيف للعَلَم الكتالانيّ بلونه الأصفر وخطوطه الحمراء. وهو ما يعبّر عن مدى تغلغل فكرة الإستقلال لدى الكتلان، يوماً بعد يوم. خاصة وأنه من المزمع التصويت على هذا الأمر الحسّاس، في نوفمبر القادم.
كل الحبّ لكتالونيا في عيدها الأكثر رومانسية: عيد الحبّ والكتاب.