سنتواصلُ نحتالُ على النظر نختارُ ما تستجيبُ له الباصرةُ فاللونُ بمعاييره وطبقاته وقياساته يلعبُ لعبته الإبداعية فتنصاعُ له الخطوطُ والأشكالُ وترى المُخيلة تبتكرُ وتُبدع والا فمن أين تجيءُ هذه الرؤى المكتظة بخلائق غرائبية من أسماك وفراشات وزهور وأوراق شجر وأفضية موغلة في المتاه والعمق. خالد ستار وحده مَنْ يستطيع الإجابة عن تساؤلاتنا وقد لا يستطيع ذلك أن الرسم كأيّ ابداع آخر حالة تصميم تتنزّلُ مثل برق وامض تترك وراءها أحافير وحرائق ورسوماته الأخيرة قفزة من زمن الى زمن ومن صقع الى سواه وأظنّه غادر نهائيّاً أبنيته ودهاليزه وجدرانه ومساحاته الى أقنيم آخر لم يكن يخطر بباله ولو واصل جدليته السابقة لما استطاع أن يبلور أداته لكنّه توقف فجأةً أمام أشكال أدمية تبهظ كاهلها مخلوقات هامشية أشبه بالزخارف والمنمنمات منها بكيانات مستقلة ولعله برع في اقتناص الوجوه وهي حرّة أو مُستلبة تجاورُها أو تُغطيها مكوناتٌ شاخصة أخرى أسماكٌ تطوفُ في هلام أفضية زرق بطبقات مختلفة ووجوه تروم محاورتنا لكنّها تُدرك أنها لا تستطيع الصُراخ لذلك تبقى خاضعة للنظر أيّ نظر له تفاسير متباينة فان رُمنا الخوض في الجدل ونُخضعُ كلّ لوحة لقيم نقدية لأخفقنا وعرانا اليأس اذن كيف لخالد ستار أن يلعب لعبته الشائكة ويُشاكسَ ذائقتنا وثقافتنا بل يأخذنا الى جبهات مجهولة ؟ هو واقعي ملتبس يخدع النظر فثمة وجوه غرائبية مُهمشة وربّما منسية الا أنّه استقدمها ليوقظ ذاكرتنا هي من تخوم الماضي تسللت الى المستقبل ولا تتخذُ من الحاضر محطة فنضطر الى النظر بعيداً فيُتخمنا بالدهشة نقفُ إزاء كائناته مبهورين كأني به يسحبنا الى سُدم مخيلته الأبعد من نجوم السماء بعضُ الرسومات تغرسنا في المتاهة وتجذبنا اليها مُرغمين. الأزرقُ بطبقاته اللونية الشائكة واللامنظبطة يتنوعُ نازلاً وصاعداً كثيفاً وخفيفاً رحباً وضيقاً، ثمّ ألوانٌ أخرى لها مخلوقاتها المُحيطة بالوجوه تجيء بها عاصفة ٌ أو ريح عاتية تتشظى حول الوجه كأنّها تبغي أقصاءه، ما عدا لوحة السمكة التي تعصى على البديهة والمتابعة هي شيء نعرفه ولا نعرفه لكنها حمّالة ُ تفاسير ولا أظنّ أنّ اثنين يتفقان معاً تأملاً وقولاً الوجوه تبدو حيناً مألوفة ثم تتماهى كما لو كانت لغزاً جيء بها من عالم مجهول والعيون ؛؛ ما أدقّ رسمَها : عميقة وسحرية تأسرك شئتَ أم أبيتَ وتأخذك الى مأزق سحيق ليبتلعك متاهٌ. والأدمي في عدد من اللوحات مُحاطٌ بما يسحقُ ويُلغي وضوحه. تلك فراشة تروم شطب وجه نسائي، وثمة رجل يعتمر عمامة مستغرقٌ في سنا شيخوخته لكنّه مُحاط بألغاز رياضية وبلاغية وفيزيائية تطوف حوله، اذن خرج خالدٌ من بيوته المقفلة الى فضاء تال ينطوي على كيانات مغايرة بوسعنا قراءتها وفهمها حتى ولو كانت وراء النجوم. واللونُ والخطُ وسيلتا تعبير غير عاديتين بعضه يتسيّدُ وبعضه الآخر تابع له ولا تصادم َبينهما، وفي قناعتي أنّ خالداً قفز أو اخترق مألوفية وضعه السابق الذي غدا مستهلكاً وخاض في وضع جديد تفادياً للتكرار وهو في لوحاته الجديدة شخصٌ آخر مبتكر تنكّر لتأريخه وتراثه السابقين فوضع معادلة حداثية لزمن ابداعي مستقبلي. أغلب الظن أنّه لا يمكث هنا طويلاً فقد استهوته مغامرة ُ الترحال والخوض في العمق الأبعد. وكلّ مسافة لديه محطة يتوقفُ عندها ثمّ يمضي بعيداً والتوقفُ لدى الفنان حالة تسمم كونه جوّال آفاق يقتحم الغيب فيقطفُ من زمانه مآربه. وأظنّ أنّ المغامرة تمنح الابداع أجنحة وليس من مصلحته أن يترهل ويستغرق في الخمول. عليه أن يكتشف أنّ وراء الماوراء كنزاً. وكلّ كنز له نفاد، لذا ينبغي المضي قدماً وقد يكون غداً شخصاً آخر له ثوابته المتفردة وقد تبدو بعض لوحاته عصيّة غرائبية تعصى على التأويل، بيد انّ قاريء اللوحة / عارف الفن / له قراءة جديدة تأخذه بعيداً. أنا واثق أن لوحة السمكة ذات الوجهين هي ذاكرة مستحدثة تستدعينا أن نتأمل ونغرس فيها دهشتنا وامتناننا، فما أغنى تفصيلاتها وحيواتها الملحقة بها. هي نتاج رؤية حلمية لا تتكرر الا مرة واحدة أشبه بالومضة. فهل بوسع أيّ كائن أن يسترجع تفصيلاتها، الا أني واثق أنّ الفن من خلال حدس الفنان بوسعه أن يُعيدها، بل ويُمسك بها. لقد كان خالدٌ أحد الذين أمسكوا بحاشية الومضة وقبض على قيمها وثيماتها وحوّلها الى لوحة.&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
&