&

اختارت الشاعرة مريم خريباني أن تقدم فضاءها الشعري في شكل أكثر كثافة، وأكثر صمتا، وكتبت تجربتها في ديوانها:" نقطة تائهة" ( منشورات ضفاف، بيروت، وأزمنة / عمان الطبعة الأولى 2014) ، كتبتها ضمن ما يسمى ب:ط كتابة الحذف" فالصمت والحذف عنوانان مبدئيان لهذه الكتابة التي تخلت عن وجود أية عناوين للنصوص، كما تخلت عن المساحات الفاصلة أو ترقيم النصوص وقدمتها بشكل متتال عبر صفحات الكتاب، ولكن بفواصل مرقومة على هيئة (***)
جملة النصوص بالكتاب (264) نصا، تتراوح طولا وقصرا بين السطر الواحد أو الصفحة الكاملة التي قد تصل إلى (14) سطرا، لكن مجمل النصوص التي تحتل صفحة واحدة هي (4) نصوص فقط في الصفحات (71، 72، 76، 77) على الترتيب فيما يحتل (22) نصا (11) صفحة بمعدل نصين لكل صفحة هي الصفحات ( 33، 34، 41، 53، 61، 63، 70، 73، 75، 79، 87) والنصوص المتبقية هي (238) نصا شعريا مكثفا ما بين سطر إلى أربعة أسطر، تتوزع في صفحات الديوان المتبقية حيث يقع الديوان ككل في (78) صفحة إذا استبعدنا صفحات المقدمة والإهداء .
&ربما عولنا هنا على هذه المقدمة الإحصائية لنتيقن من أن الشاعرة قدمت نصوصا قصيرة كثيفة، كما أنها قدمت نصوصها في شكل يحتفي بالفضاء البصري المبدئي الذي يمهد لآلية تلقّ مختلفة، قد ترى في نصوصها اقترابا نثريا من اللغة، لكنه اقتراب مفعم بالشعر، وبجمالياته الكثيفة، وبآلياته التي تبحث عن الصورة وعن فضاء المعنى الكثيف في وجازة تعبيرية واضحة.
إن هذا النمط من الكتابة الشعرية يعتني أكثر بالكثافة، فيما يعتني ببث دلالات متعددة على طريقة الصوفي النفري:" إذا ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا" أو : اتسعت الإشارة، هذا النمط الذي يسميه الشاعر عبدالقادر الجنابي ب:" الشقيقة النثرية" ( مفرد شقائق) حيث يرى الجنابي أن الشقيقة شكل وليس جنسا أدبيا إذ ليس لها قوانين مقررة، كقصيدة النثر مثلا أو الشعر الحر" وهي " شكل المكتوب، ووحدة نثرية مستقلة تبدو وكأنها ندبة جرح غائر في السرد"
وحين تكون الشقيقة النثرية أكثر كثافة ووجازة ، برقية وفلاشية، ستكون أسرع وصولا وربما أكثر تأثيرا في المتلقي اليوم.

ممهدات جمالية:
تمهد مريم خريباني لكتابها / ديوانها بتصدير دال:" أحتفي بالصمت إذ يغتالني" / ص 7 هو احتفاء نوعي بالضرورة يقودنا بالفعل إلى حالة الصمت التي تصنعها كلماتها. كلمات الشاعرة هنا لا تثرثر ولا تحكي عن كل شيء. فقط تشير، وتجرد، وترمّز كأنها أشبه بالصمت البليغ الدال الذي يقول دون أن يتكلم، ويبوح دون أن يعبر.
&في الصفحات الأولى تمهد مريم خريباني شعريا بهذه العبارات والدلالات:
" عدتُ فقط، كي اضع شدة فوق نقطة الوجع"
" لم يكن سجودا
كان سقوط الشوق فوق تلويحة الغياب
كان خفيف الظل على بقايا انكساره
أيا ظلي .. أيا أنا
اجمعاني
إذا كان يصلح الجمع بعد"
" في الغياب، تتهيب الأماكن، ويعلو نشيد دمي" / ص 9

&هكذا البدء الشعري جاء ذاتيا، تعبر الشاعرة عن حضورها وعودتها لتكتب وجعها، تكتب بدفقاته وآلامه منتبذة وراءها هذا العالم الذكرياتي لتقدم إحساسها الحقيقي بالأشياء. هي لحظة اكتناه الكتابة التي تقد من الغياب وجودها ومن الظل ضوءها كأنه نشيد الدم الذي يتضرج عبر حبر المعنى.
من الصفحة الشعرية الأولى بالديوان ندرك أن ثمة نمطا عباريا يسعى للاختلاف في طريقة الصياغة النثرية/ الشعرية، أو في التوجه للذات ومن ثم التوجه للآخر، فالوجع، الظل، نشيد الدم، تستدعي آخر مسببا للوجع وراسما ظلاله الغائبة، ومفجرا نشيد الدم .
مريم خريباني تطل مبدئيا بنا على هذه الفاتحة النصية التي يبدو أنها ستكون أكثر كثافة وشفافية في ذاتيتها فيما هي أكثر مفارقة في قراءة الآخر والتعبير عنه.
&وهنا سنطل أكثر على جملة من الأسطر المكثفة:

-&الحب : أن ترفع كأس النبل في حضرة الجراح.
-&في الحرب ينام العشب باكرا
-&فوق هذا الموت كله إله. فوق هذه الحياة كلها ذات الإله.
-&كل الأشياء تنكسر وتتفتت .. ما خلا اسمك.
-&حين يصبح الصمت نبيذا فاسدا
يتحول الكلام إلى إله طيب قادر على ترميم ما هدمه الصمت / ص.ص (10-11)

هي تعريفات وتوصيفات متتالية تصنع أيضا لدى القارئ ممهدات جمالية لما سيأتي من تعبيرات موارة مكثفة، تتأمل في الذات والحياة والآخر.
لم تكن هذه الرؤية الأولية التي تتابع في صفحة واحدة ما بين الحب والحرب والموت والانكسار والترميم والهدم، لم تكن رؤية أولية تتم بالمصادفة، لكنه الوعي الشاعر الذي تأمل في موت القيمة وموت الأشياء وعبر بكثافة. بغض الطرف عما إذا كان هذا الوعي يقظا متنبها أم غير واع عند انفعال الكتابة أو ترتيبها لكنه قدم لنا هنا:" القصدية النصية" التي تمس أطرافا من الدلالة الكلية للكتابة في هذا الديوان، وهي قصدية متأملة مفارقة ( في مشهد إله الموت والحياة مثلا) تصبو لاجتراح أحداث الحياة وتتابعاتها برؤية ذاتية مكثفة.
إن العبارات الشعرية التي سقناها سابقا تقدم عددا من القيم أو الممهدات الجمالية التي تتمثل في كثافة التعبير، وصنع المفارقة وجوهرة اللحظة المكتوبة بكلمات ذات قصدية مباشرة فنيا، مثل تعريف الحب: " أن ترفع كأس النبل في حضرة الجراح" أو بكلمات تتخلق في سياقها الرمزي مثل:" حين يصبح ىالصمت نبيذا فاسد... إلخ" بالقران الاستعاري بين الصمت والنبيذ، كما أنها بهذه العبارات، بهذه الشقائق – بتعبير الجنابي- مهدت لآلية قراءة أسرع، لا تتوقف كثيرا أمام العبارات والفقرات ولكنها تظل في حال ترقب، وفي حال تساؤل: " وماذا بعد؟" لأن الشغف القارئ هنا لا يقرأ نصا ذا موضوع ثم يعقبه بنص آخر لكنه يقرأ وحدات عبارية متتالية سريعة الوقع والإيقاع، ولا تخلو من آلية الكثافة والإيجاز. حيث تقول الوحدة العبارية بكلمات قليلة ما يدل وما يرمّز وما يشير.

أجواء متعددة:
عبر نصوصها ، تكتب مريم خريباني عن جملة من الدالات التي تصنع الأجواء المتعددة للديوان حيث تركز على:
- الكتابة الشعرية، ووصف حالات كتابة القصيدة وما تتضمنه من أحرف وكلمات وجمل، والتطرق إلى مكابدة الكتابة وماهيتها واستقصاء حالات التجربة الشعرية والتعريف الذاتي لها.
- الكتابة عن الحب وفضاءاته المتعددة بوصفه العلاقة المثلى التي ترسم تصورات الآنا والآخر في أبعادها ارومانتيكية والواقعية.
- وصف تجليات الواقع وأحداثه، ومحاولة شعرنة بعض المواقف والقيم الإنسانية التي تتبدى في تجارب متنوعة.
- الكتابة عن الوطن، والعالم، والأبعاد الحضارية، وأسئلة اللحظة الراهنة التي ترتبط بتوق الإنسان للحرية والعدالة والقيم النبيلة.
بيد أن هذه التركيزات هي من قبيل العرض العام لحالة التجربة الشعرية التي تقدمها مريم خريباني. إذ إن وصف الحالة لا يعني أننا اسهمنا قرائيا في تثوير وتسوير الفضاء الدلالي الذي تقدمه الشاعرة وقوْننته جماليا، وإنما نقدم قدرا من تحفيز الممكن القرائي الذي يوجز التجربة بدئيا سعيا للوصول إلى مكامنها.
إن ثمة فلسفة رائية جماليا تحدّق بها الشاعرة في ابتكار الذات عبر كلماتها، وسيكون توصيف الكتابة الشعرية ومكابداتها علامة دلالية باذخة وظاهرة في هذا التكثيف الكتابي، إذ تعبر عن الكتابة الشعرية والقصيدة واللغة وما يتعلق بها من أحرف وكلمات وعلامات ترقيم في عدد كبير من النصوص تبلغ (40) نصا ، فيما تتواتر بقية النصوص حول المضامين القيمية والإنسانية كما ذكرت سابقا، ولعل في اقتطاف بعض المشاهد الشعرية المعبرة عن هذه الأجواء لدى الشاعرة ما يقودنا إلى يقينها الجمالي:&
&&
-&الشعر أن تحِبّ وتُحَبّ وتنغمس بالحب حتى أخمص القصيدة، وإذا صدمك النسيان ارفع في وجه من نسيك قصيدتك الطاهرة / ص 11
-&السطر سرير الكلمة حين تستلقي فوق بياضه يغيب حقل بنفسج /ص 13
-&آخر ما خطه قلمي: نقطة تائهة. / ص 46
-&أكتب لأن في السماء نجما يضوّئ ما يعتم في روحي
رسمته ليكون قمة الحلم
أكتب لأن الكلمة حرام ألا تخلق
أكتب لأقول إني: أحد لا يمر عبثا/ ص 83
-&لم أتعلم الرقص
لكني أشعر به جيدا
لم أتعلم العزف لكني أعزف أجمل من الريح
لم أتعلم الحب لكني عرفته فوق طاقتي. / ص 64

-&لأنكِ عروة المسافة وجفلة القلب عند منعطف المزاج
-&أتوكأ بقلبي على صباحاتك .. بلادي / 52

كثيرة هي النماذج التي يمكن أن تقتطف لتدلل على تعدد أجواء الكتابة المكثفة لدى مريم خريباني، وهو تعدد لا يتبصر بما هو ذاتي فحسب على الرغم من كون التجربة منطلقة من أفق الذات، ولكن من التأمل في الاشياء والتحديق بها من الابواب والنوافذ وأعمدة الشوارع والأرصفة ومن الرقص إلى الألم إلى الشوق إلى الحب ... إلخ وهي كما نرى في الشماهد السابقة تعبيرات شعرية مكثفة، تطل من نثرها الشعري تستخدم التقرير حينا وتستخدم السؤال أو التكرار أو النقي أحيانا أخرى لكنها تشير في الوقت نفسه إلى حالة من التدويم الشعري الذي يسعى لمقاربة اللحظة الراهنة لذات شاعرة تسعى لأن ترى أبعد وأعمق وأن تفسح من أفق كلماتها لتلامس البعيد بالداخل وتفتح مطلق أخيلتها لملامسة واقعها هي وتفاصيلها هي ورؤيتها للعالم.

صدر لها :
فوضى الكلام : وهو مجموعة نصوص قصيرة متنوعة& .
عندك حكي؟! : ديوان شعر بقسمين& محكي وعربية فصحى / دار الفرات - بيروت
"وحدو الشتي" : شعر محكي / دار الغاوون
&" نقطة تائهة" : قيد الطبع وهو مجموعة نصوص قصيرة / دار أزمنة – عمان
قيد الإعداد للنشر : ديوان عامية محكية وآخر عربية فصحى .
غنّت من كلماتها الفنّانة جنفياف يونس قصيدة "طْلاع صَلّي فوق" من مجموعة "عندك حكي؟!"

&