صادفت هذا الأسبوع الذكرى المئوية على ميلاد بيلي هوليداي، المغنية الأشهر في تأريخ موسيقى الجاز، حيث كانت ولدت يوم الثلاثاء 7 أبريل/ نيسان 1915.&&
يقال أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، لذلك لا يبدو مستغرباً أن تكون حياة بيلي هوليداي عبارة عن عملٍ فني مستمر وأبدي. لا بل أن جرحها كان أكبر، مما جعلها تعاني من جرح مفتوح لم يفرز غير موهبة خارقة، وحياة قاسية، وإذلال لا نهاية له.
بيلي هوليداي، (فيلادلفيا، 1915 – نيويورك، 1959)، المغنية الأكثر شهرة في تأريخ موسيقى الجاز، لم تكن دمية محطمة، بل فتاة رافقها حظها السئ طوال حياتها، سواء من ناحية المجتمع الذي ترعرت فيه أو بسبب من تجارب الحب الفاشلة التي مرت بها.
وبمناسبة مرور الذكرى المئوية لولادة بيلي هوليداي، فقد أطلق كل من الفنانين خوسيه جيمس وكاسندرا ولسون، خلال هذه الأيام، إسطوانتان غنائيتان بعنوان "يستيرداي آي هاد ذا بلوز"، و"كومنغ فورث باي داي". وكذلك ستقوم المغنية سيسيل مكلورين بإحياء حفلٍ تكريماً لمغنية الجاز الراحلة في مركز لنكولن في نيويورك، وسيصدر كتاب جديد عن سيرتها الذاتية يحمل عنوان "بيلي هوليداي: الموسيقية والاسطورة"، يتضمن، بصورة ملخصة، أغلب ما نشر عنها، في بعض الكتب والأعمال السينمائية، مثل "السيدة التي تغني البلوز"، أو الكتاب الرائع "مع بيلي" لجوليا بلاكبيرن، والذي إحتوى على كل ما كتبته الصحفية ليندا كويهل عن هوليداي.&&
&

&على مدى القرن الحالي ظهرت أصوات عديدة في عالم موسيقى الجاز، حتى أن البعض منها إستطاع منافسة صوت بيلي هوليداي المجروح. لكن، لا يزال البحث عن مغنية أومغنٍ إستطاع أن يكتسح موسيقى الجاز، كما بيلي هوليداي، قائماً حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من جروحها العميقة، لم يُعرف السبب في مقدرة هذه المغنية على إعتلاء عرش موسيقى الجاز في خضم الكثير من المحن الشديدة التي كانت تعاني منها.
ومن المعروف أن مرحلة الصبا الفاشلة التي مرت بها بيلي هوليداي، دفعتها& سريعاً، ليس إلى مرحلة المراهقة، بل إلى مرحلة النضوج، لفتاةٍ إكتشفت في صوتها وفي موسيقى الجاز، الوسيلة الوحيدة لأن تكون سعيدة. وهنا علينا أن نتوقف قليلاً، إذ كان عليها وهي تسير في طريق الإحتراف، أن تتحمّل كونها إمرأة أولاً، وكونها& سوداء.
تعرّضت بيلي هوليداي للإغتصاب وعمرها عشر سنوات، وكان عليها أن تتخلى عن الدراجة الهوائية والبالون مقابل الفرشاة والماسحة لتعمل في بيت للدعارة، وربما لحسن حظها في هذه المرة، فقد سنحت الفرصة لها هناك للإستماع إلى بيسي سميث ولويس أرمسترونغ عبر صندوق (جاكبوكس)، الذي كانت تنبعث منه الموسيقى، من أجل تسلية الزبائن الذين كانوا ينتظرون دورهم. ومن الممكن القول أن كل من موسيقى البلوز والجاز أنقذتا تلك الطفلة الصغيرة لأن تقع في وحل الدعارة.
والواضح، أن بيلي هوليداي كانت في ذلك الوقت إيلينورا فاجون، إبنة سادي فاجون وموسيقي يمتهن الجاز، يدعى كلارنس هوليداي، الذي توفي لاحقاً تاركاً مستقبله الموسيقي لإمرأتين. تقول بيلي هوليداي في سيرتها الذاتية "أمي وأبي كانا لا يزالان في مقتبل العمر عندما تزوجا، حيث كان هو يبلغ من العمر 18 عاماً، بينما هي لم تكن قد تجاوز عمرها 16 عاماً. أمي كانت أحسّت بركلاتي، مذ كنت في أحشائها، وهي تنظف البناية التي كانت تعمل فيها كمنظفة.
وبعد أن كانت أُدخلت في إحدى دور الرعاية المختصة بالفتيات، هربت بيلي هوليداي من الأوضاع المزرية والقاسية التي كانت تعاني منها هناك، بحثاً عن مستقبل غامض في نيويورك. وكان عمرها 13 عاماً، عندما طرقت باب الموسيقى كفنانة في "بودس آند جيري" في شارع 133، أول الأمر بمثابة راقصة، ومن ثم كمغنية، ومن أجل أن يختبرها صاحب المكان طلبت أن تغني "ترافلنغ أول ألون"، وأدهشت جميع الحضور بإدائها. وكانت مغنية الجاز السوداء قد كتبت في مذكراتها قائلة "عندما إنتهيت من الغناء، وقف كل الحاضرين ، وبدأوا يهتفون رافعين كؤوسهم". في تلك اللحظة كانت بيلي هوليداي قد ولدت من جديد، وأطلقت على نفسها هذا الإسم، بدلاً عن إيلينور، تيمناً بنجمة السينما الصامتة بيلي دوف. وأما لقبها الثاني "ليدي داي"، فقد كان أطلقه عليها حبيبها عازف الساكسفون ليستر يونك، الذي شاركها في العديد من الحفلات والتسجيلات الغنائية.
كانت بيلي دائمة التألق وهي على المسرح، وكانت عندما& تتركه تعود إلى واقعها المر. لم يكن يُسمح لها بالإتصال بالجمهور ذو اللون الأبيض، وكان عليها أن تدخل من الباب الخلفي للمحال التي كانت تقدم فيها عروضها الغنائية، وتتقاضى أجراً أقل من زملائها، إلى جانب إدمانها على الماريجوانا التي أوقعتها في العديد من المشاكل، منها دخولها السجن، وزواجها من رجال قُساة إستغلوا إسمها وإرتقوا سلّم الشهرة بسببها، وأودعتهم في البعض من أغنياتها، مثل أغنية "ماي مان"، أو "آنت نوبادي بيزنيس". وإنضمت بيلي لاحقاً إلى واحدة من أشهر فرق الأوركسترا في الولايات المتحدة، وذلك عام 1933، والتي كانت بقيادة بيني غودمان، وذلك من خلال وساطة جون هاموند، لترى نفسها، بعد أربع سنوات، قد وقعت في أحضان فرقة الجاز الخاصة بالرجل المعجب بها حينذاك، كاونت باسي، حيث كانت إلتقت هناك بليستر يونك. بيلي هوليداي بلغت بصوتها الحزين، في تلك الفترة، إلى مرحلة سحرت كل من إستمع إليها، حيث صاغت أحاسيسها بصورة فريدة لا مثيل لها. وقد قيل حينها أن ليس هناك من بمقدوره نطق كلمات "لوف" و"بيبي" مثلما تفعل بيلي هوليداي. تقول ليدي داي "أحاول أن أرتجل مثلما يفعل لويس آرمسترونغ أو ليستر يونك. ما يخرج من أعماقي هو ما أشعر به. أنا أكره الأغاني التي تسير على وتيرة واحدة. أنا بحاجة لأن أغيّر من النغمات وأضبطها مع الطريقة الخاصة بي في فهمي للموسيقى. هذا كل ما أعرفه".
قامت "ليدي داي" ما بين الأعوام 1935 و1942 بتسجيل أكثر من 100 أغنية.
وبعد ذلك، إنضمت إلى فرقة "آرتي شو"، وفي منتصف تلك المرحلة، أي في العام 1939، أطلقت في "كافيه سوسايتي"، لغرين فيلج النيويوركي، عملها الغنائي والذي تضمن الأغنية التي رافقتها طوال حياتها، ونقصد بها "سترينج فروت"، والتي تقول كلماتها" الأشجار الجنوبية تحمل فاكهة غريبة، دماء على الأوراق ودماء على الجذور، أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب، فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور". وكانت مجلة "تايم" إختارتها في العام 1999 كأفضل أغنية على مدى القرن العشرين.
قامت بيلي هوليداي في عام 1954 بجولة غنائية في أوروبا إنعكست خلال واقعها على الأضواء والظلال التي كانت تطغي على المسرح، وإتفقت مع برنامج "ذا ساوند أوف جاز" الذي كان يقدم عبر تلفزيون سي بي إس، في عام 1957، لتقديم مختارات من أغانيها، برفقة أحب الناس إليها، هما بين ويبستر، وليستر يونغ، وكولمان هوكنز، وغيرهم، ولتطلق في العام التالي ألبومها الناجح "السيدة التي ترتدي الساتان"،وكان ذلك قبل وفاتها، بعد أن كانت& أرهقتها الحياة، لكن من دون أن تستسلم لها.
سجلت بيلي هوليداي نحو 300 أغنية خالدة تاركة بصماتها الموسيقية على أعمال العديد من المغنين الذين ظهروا بعدها، مثل "نايت آند داي"، "بلو مون"، "لوفر مان"، "ساتن دول"، "أول أوف مي"، "بودي آند سول"، أو "إيمبراسيبل يو"، وكذلك التي تلك الأغنيات التي وضعتها بنفسها، مثل "آي لوف يو بورغي"، "فاين آند ميلو"، "غود بلس ذا جايلد"، أو "إيفريثنك هابنس فور ذا& بيست".
واليوم، تركت بيلي هوليداي لنا إرثاً موسيقياً وبرامج تلفزيونية ظهرت من خلالها، إضافة إلى أفلام وثائقية مثل "ليدي داي: ذا ميني فيسيس أوف بيلي هوليداي" 1990، للمخرج ماثيو سيغ، أو السيرة الذاتية "السيدة تغني البلوز" 1972، للمخرج سيدني جي. فوري مع ديانا روز في دور المغنية السوداء. وإشتركت بيلي هوليداي أيضاً في السينما ، ولكن بصورة متفاوتة من حيث الأهمية، كما هو الحال مع "نيو أورليانز"، في منتصف الأربعينات، برفقة لويس آرمسترونغ.
رحلت ليدي داي، ولكن بقي صوتها الخالد الذي طغى عليه الخزن والألم والكثير من الإذلال، ورغم ذلك لم تستسلم للعواصف العاتية التي واجهتها، وإستطاعت أن تترك أغنيات لا تزال ملتصقة بمحبيها حتى يومنا هذا.&&&
&